فصــل: لفظ التوسل قد يراد به ثلاثة أمور
 
 
ولفظ التوسل قد يراد به ثلاثة أمور‏.‏ يراد به أمران متفق عليهما بين المسلمين ‏:‏
أحدهما‏:‏ هو أصل الإيمان والإسلام، وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته‏.‏
والثاني‏:‏ دعاؤه وشفاعته، وهذا أيضًا نافع يتوسل به من دعا له وشفع فيه باتفاق المسلمين‏.‏ ومن أنكر التوسل به بأحد هذين المعنيين فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدًا‏.‏ ولكن التوسل بالإيمان به وبطاعته هو أصل الدين، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام للخاصة والعامة، فمن أنكر هذا المعنى فكفره ظاهر للخاصة والعامة‏.‏
وأما دعاؤه وشفاعته وانتفاع المسلمين بذلك فمن أنكره فهو أيضًا كافر، لكن هذا أخفى من الأول، فمن أنكره عن جهل عُرِّف ذلك، فإن أصر على إنكاره فهو مرتد‏.‏
أما دعاؤه وشفاعته فى الدنيا فلم ينكره أحد من أهل القبلة‏.‏
وأما الشفاعة يوم القيامة فمذهب أهل السنة والجماعة ـ وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم ـ أن له شفاعات يوم القيامة خاصة وعامة، وأنه يشفع فيمن يأذن الله أن يشفع فيه من أمته من أهل الكبائر‏.‏ ولا ينتفع بشفاعته إلا أهل التوحيد المؤمنون، دون أهل الشرك، ولو كان المشرك محبًا له معظمًا له لم تنقذه شفاعته من النار، وإنما ينجيه من النار التوحيد والإيمان به، ولهذا لما كان أبو طالب وغيره يحبونه ولم يُقِرُّوا بالتوحيد الذى جاء به لم يمكن أن يخرجوا من النار بشفاعته ولا بغيرها‏.‏
وفى صحيح البخارى عن أبى هريرة أنه قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أى الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أسعد الناس بشفاعتى يوم القيامة من قال‏:‏ لا إله إلا الله خالصًا من قلبه‏)‏‏.‏ وعنه فى صحيح مسلم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لكل نبى دعوة مستجابة، فَتَعَجَّل كل نبى دعوته، وإنى اختَبَأْتُ دعوتى شفاعة يوم القيامة، فهى نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتى لا يشرك بالله شيئا‏)‏، وفى السنن عن عوف ابن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أتانى آت من عند ربى فخيرنى بين أن يُدْخِل نصف أمتى الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، وهى لمن مات لا يشرك بالله شيئًا‏)‏، وفى لفظ قال‏:‏ ‏(‏ومن لقى الله لا يشرك به شيئًا فهو فى شفاعتى‏)‏‏.‏
وهذا الأصل ـ وهو التوحيد ـ هو أصل الدين الذى لا يقبل الله من الأولين والآخرين دينًا غيره، وبه أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 45‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏، وقد ذكر الله عز وجل عن كل من الرسل أنه افتتح دعوته بأن قال لقومه‏:‏ ‏{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏32‏]‏‏.‏
/وفى المسند عن ابن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏بعثت بالسَّيف بين يَدَى الساعة حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقى تحت ظل رُمحى، وجعل الذل والصغار على من خالف أمرى، ومن تشبه بقوم فهو منهم‏)‏‏.‏
والمشركون من قريش وغيرهم ـ الذين أخبر القرآن بشركهم واستحل النبى صلى الله عليه وسلم دماءهم وأموالهم وسبى حريمهم وأوجب لهم النار ـ كانوا مقرين بأن الله وحده خلق السموات والأرض كما قال‏:‏ ‏{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}‏ ‏[‏لقمان‏:‏25‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 61‏]‏، وقال‏:‏ ‏{قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ }‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 84‏:‏ 91‏]‏‏.‏
وكان المشركون الذين جعلوا معه آلهة أخرى مقرين بأن آلهتهم مخلوقة، ولكنهم كانوا يتخذونهم شفعاء ويتقربون بعبادتهم إليه كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 1 ـ 3‏]‏، وكانوا يقولون فى تلبيتهم‏:‏ لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُو}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 28‏:‏ 32‏]‏‏.‏
بين ـ سبحانه ـ بالمثـل الذى ضربه لهـم أنه لا ينبغـى أن يجعـل مملوكه شـريكه فقال‏:‏ ‏{هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 28‏]‏ يخاف أحدكم مملوكه كما يخاف بعضكم بعضا، فإذا كان أحدكم لا يرضى أن يكون مملوكه شريكه فكيف ترضونه لأنفسكم ‏؟‏
وهذا كما كانوا يقولون‏:‏ له بنات، فقال تعالى‏:‏ ‏{وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 62‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ َيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 58‏:‏ 60‏]‏‏.‏
والمشركون الذين وصفهم الله ورسوله بالشرك أصلهم نصفان ‏:‏
قوم نوح، وقوم إبراهيم‏.‏ فقوم نوح كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم‏.‏
وقوم إبراهيم كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر‏.‏ وكل من هؤلاء يعبدون الجن، فإن الشياطين قد تخاطبهم وتعينهم على أشياء، وقد يعتقدون أنهم يعبدون الملائكة وإن كانوا فى الحقيقة إنما يعبدون الجن، فإن الجن هم الذين يعينونهم ويرضون بشركهم، قال تعالى‏:‏ ‏{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 40- 41‏]‏‏.‏
والملائكة لا تعينهم على الشرك لا فى المحيا ولا فى الممات ولا يرضون بذلك، ولكن الشياطين قد تعينهم وتتصور لهم فى صور الآدميين فيرونهم بأعينهم ويقول أحدهم‏:‏ أنا إبراهيم، أنا المسيح، أنا محمد، أنا الخضر، أنا أبو بكر، أنا عمر، أنا عثمان، أنا على، أنا الشيخ فلان‏.‏ وقد يقول بعضهم عن بعض‏:‏ هذا هو النبى فلان أو هذا هو الخضر ويكون أولئكَ كلهم جِنًا يشهد بعضهم لبعض‏.‏ والجن كالإنس فمنهم الكافر ومنهم الفاسق ومنهم العاصى وفيهم العابد الجاهل، فمنهم من يحب شيخا فيتزيّا ‏[‏فيتزيّا‏:‏ يظهر فى هيئته‏.‏ انظر‏:‏ القاموس المحيط، مادة ‏(‏زىى‏)‏‏]‏‏.‏ فى صورته ويقول‏:‏ أنا فلان‏.‏ ويكون ذلك فى برية ومكان قفر‏[‏مكان قفر‏:‏ الخلاء من الأرض، لا نبات فيه ولا ماء‏.‏ انظر‏:‏ لسان العرب، مادة ‏[‏قفر‏]‏‏]‏، فيطعم ذلك الشخص طعامًا ويسقيه شرابًا أو يدله على الطريق أو يخبره ببعض الأمور الواقعة الغائبة، فيظن ذلك /الرجل أن نفس الشيخ الميت أو الحى فعل ذلك، وقد يقول‏:‏ هذا سر الشيخ وهذه رقيقته وهذه حقيقته أو هذا ملك جاء على صورته، وإنما يكون ذلك جنيا، فإن الملائكة لا تعين على الشرك والإفك والإثم والعدوان‏.‏
وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 56، 57‏]‏، قال طائفة من السلف‏:‏ كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالعزير والمسيح، فبين الله تعالى أن الملائكة والأنبياء عباد الله، كما أن الذين يعبدونهم عباد الله، وبين أنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه كما يفعل سائر عباده الصالحين‏.‏
والمشركون من هؤلاء قد يقولون‏:‏ إنا نستشفع بهم أى نطلب من الملائكة والأنبياء أن يشفعوا، فإذا أتينا قبر أحدهم طلبنا منه أن يشفع لنا، فإذا صورنا تمثاله ـ والتماثيل إما مجسدة وإما تماثيل مصورة كما يصورها النصارى فى كنائسهم ـ قالوا‏:‏ فمقصودنا بهذه التماثيل تذكر أصحابها وسيرهم، ونحن نخاطب هذه التماثيل ومقصودنا خطاب أصحابها ليشفعوا لنا إلى الله‏.‏ فيقول أحدهم‏:‏ يا سيدى فلان، أو يا سيدى جرجس، أو بطرس، أو يا ستى الحنونة مريم، أو يا سيدى الخليل، أو موسى بن عمران أو غير ذلك، اشفع لى إلى ربك‏.‏
وقد يخاطبون الميت عند قبره‏:‏ سل لى ربك‏.‏ أو يخاطبون الحى وهو غائب كما يخاطبونه لو كان حاضرًا حيا، وينشدون قصائد يقول أحدهم فيها‏:‏ يا سيدى فلان ‏!‏ أنا فى حسبك، أنا فى جوارك، اشفع لى إلى الله، سل الله لنا أن ينصرنا على عدونا، سل الله أن يكشف عنا هذه الشدة، أشكو إليك كذا، وكذا، فسل الله أن يكشف هذه الكربة‏.‏ أو يقول أحدهم‏:‏ سل الله أن يغفر لى‏.‏
ومنهـم من يتـأول قـولـه تعالــى‏:‏ ‏{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 64‏]‏، ويقولون‏:‏ إذا طلبنا منه الاستغفار بعد موته كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة، ويخالفون بذلك إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر المسلمين، فإن أحدًا منهم لم يطلب من النبى صلى الله عليه وسلم بعد موته أن يشفع له ولا سأله شيئًا، ولا ذكر ذلك أحد من أئمة المسلمين فى كتبهم، وإنما ذكر ذلك من ذكره من متأخرى الفقهاء، وحكوا حكاية مكذوبة على مالك ـ رضى الله عنه ـ سيأتى ذكرها وبسط الكلام علىها ـ إن شاء الله تعالى‏.‏
فهذه الأنواع من خطاب الملائكة والأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم وفى مغيبهم، وخطاب تماثيلهم، هو من أعظم أنواع الشرك الموجود فى المشركين من غير أهل الكتاب، وفى مبتدعة أهل الكتاب والمسلمين الذين أحدثوا من الشرك والعبادات ما لم يأذن به الله تعالـى‏.‏ قـال الله تعالـى‏:‏ ‏{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 21‏]‏‏.‏
فإن دعاء الملائكة والأنبياء بعد موتهم، وفى مغيبهم وسؤالهم والاستغاثة بهم والاستشفاع بهم فى هذه الحال، ونصب تماثيلهم ـ بمعنى طلب الشفاعة منهم ـ هو من الدين الذى لم يشرعه الله، ولا ابتعث به رسولا، ولا أنزل به كتاباً، وليس هو واجبا ولا مستحبا باتفاق المسلمين، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا أمر به إمام من أئمة المسلمين، وإن كان ذلك مما يفعله كثير من الناس ممن له عبادة وزهد، ويذكرون فيه حكايات ومنامات، فهذا كله من الشيطان‏.‏
وفيهم من ينظم القصائد فى دعاء الميت، والاستشفاع به، والاستغاثة، أو يذكر ذلك فى ضمن مديح الأنبياء والصالحين، فهذا كله ليس بمشروع، ولا واجب، ولا مستحب باتفاق أئمة المسلمين، ومن تَعَبَّدَ بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة، وهو يعتقدها واجبة أو مستحبة فهو ضال مبتدع، بدعة سيئة لا بدعة حسنة باتفاق أئمة الدين، فإن الله لا يُعبد إلا بما هو واجب أو مستحب‏.‏
وكثير من الناس يذكرون فى هذه الأنواع من الشرك منافع ومصالح، ويحتجون عليها بحجج من جهة الرأى أو الذوق، أو من جهة التقليد والمنامات ونحو ذلك‏.‏
وجواب هؤلاء من طريقين‏:‏ أحدهما‏:‏ الاحتجاج بالنص والإجماع‏.‏
والثانى‏:‏ القياس والذوق والاعتبار ببيان ما فى ذلك من الفساد، فإن فساد ذلك راجح على ما يُظن فيه من المصلحة‏.‏
أما الأول فيقال‏:‏ قد علم بالاضطرار والتواتر من دين الإسلام وبإجماع سلف الأمة وأئمتها أن ذلك ليس بواجب ولا مستحب‏.‏
وعلِمَ أنه لم يكن النبى صلى الله عليه وسلم بل ولا أحد من الأنبياء قبله، شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة والأنبياء والصالحين، ولا يستشفعوا بهم، لا بعد مماتهم ولا فى مغيبهم، فلا يقول أحد‏:‏ يا ملائكة الله، اشفعوا لى عند الله، سلوا الله لنا أن ينصرنا أو يرزقنا أو يهدينا‏.‏
/وكذلك لا يقول لمن مات من الأنبياء والصالحين‏:‏ يا نبى الله، يا رسول الله، ادع الله لى، سل الله لى، استغفر الله لى، سل الله أن يغفر لى أو يهدينى أو ينصرنى أو يعافينى، ولا يقول‏:‏ أشكو إليك ذنوبى أو نقص رزقى أو تسلط العدو على، أو أشكو إليك فلانا الذى ظلمنى، ولا يقول‏:‏ أنا نزيلك، أنا ضيفك، أنا جارك، أو أنت تجير من يستجير، أو أنت خير معاذ يستعاذ به‏.‏
ولا يكتب أحد ورقة ويعلقها عند القبور، ولا يكتب أحد محضرًا أنه استجار بفلان ويذهب بالمحضر إلى من يعمل بذلك المحضر، ونحو ذلك مما يفعله أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين، كما يفعله النصارى فى كنائسهم، وكما يفعله المبتدعون من المسلمين عند قبور الأنبياء والصالحين أو فى مغيبهم، فهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام وبالنقل المتواتر وبإجماع المسلمين؛ أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يشرع هذا لأمته‏.‏
وكذلك الأنبياء قبله لم يشرعوا شيئا من ذلك، بل أهل الكتاب ليس عندهم عن الأنبياء نقل بذلك، كما أن المسلمين ليس عندهم عن نبيهم نقل بذلك، ولا فعل هذا أحد من أصحاب نبيهم والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا ذكر أحد من الأئمة، لا فى مناسك الحج ولا غيرها، أنه يستحب لأحد أن يسأل النبى صلى الله عليه وسلم عند قبره أن يشفع له أو يدعو لأمته أو يشكو إليه ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين‏.‏
وكان أصحابه يبتلون بأنواع من البلاء بعد موته، فتارة بالجَدْب، وتارة بنقص الرزق، وتارة بالخوف وقوة العدو، وتارة بالذنوب والمعاصى، ولم يكن أحد منهم يأتى إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا قبر الخليل ولا قبر أحد من الأنبياء فيقول‏:‏ نشكو إليك جدب الزمان أو قوة العدو أو كثرة الذنوب، ولا يقول‏:‏ سل الله لنا أو لأمتك أن يرزقهم أو ينصرهم أو يغفر لهم، بل هذا وما يشبهه من البدع المحدثة التى لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، فليست واجبة ولا مستحبة باتفاق أئمة المسلمين‏.‏
وكل بدعة ليست واجبة ولا مستحبة فهى بدعة سيئة، وهى ضلالة باتفاق المسلمين، ومن قال فى بعض البدع‏:‏ إنها بدعة حسنة، فإنما ذلك إذا قام دليل شرعى أنها مستحبة، فأما ما ليس بمستحب ولا واجب، فلا يقول أحد من المسلمين‏:‏ إنها من الحسنات التى يتقرب بها إلى الله‏.‏
ومن تقرب إلى الله بما ليس من الحسنات المأمور بها أمرَ إيجاب ولا استحباب فهو ضال متبع للشيطان، وسبيله من سبيل الشيطان، كما قال عبد الله بن مسعود‏:‏ خَطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا وخط خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال‏:‏ ‏(‏هذا سبيل الله، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه‏)‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏‏.‏
فهذا أصل جامع يجب على كل من آمن بالله ورسوله أن يتبعه، ولا يخالف السنة المعلومة، وسبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، باتباع من خالف السنة والإجماع القديم، لا سيما وليس معه فى بدعته إمام من أئمة المسلمين، ولا مجتهد يعتمد على قوله فى الدين، ولا من يعتبر قوله فى مسائل الإجماع والنزاع، فلا ينخرم الإجماع بمخالفته، ولا يتوقف الإجماع على موافقته‏.‏
ولو قدر أنه نازع فى ذلك عالم مجتهد لكان مخصومًا بما عليه السنة المتواترة وباتفاق الأئمة قبله، فكيف إذا كان المنازع ليس من المجتهدين ولا معه دليل شرعى، وإنما اتبع من تكلم فى الدين بلا علم، و ‏{يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 8‏]‏‏.‏ بل إن النبى صلى الله عليه وسلم مع كونه لم يشرع هذا فليس هو واجبًا ولا مستحبًا، فإنه قد حرَّمَ ذلك وحرَّمَ ما يفضى إليه كما حرَّمَ اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد‏.‏ ففى صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ـ قبل أن يموت بخمس ـ‏:‏ ‏(‏إن من كانوا قبلكـم كانوا يتخذون القبـور مسـاجد، ألا فلا تتخـذوا القبـور مسـاجد، فإنى أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.‏ وفى الصحيحين عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ـ قبل موته ـ‏:‏ ‏(‏لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏ يحذِّر ما فعلوا، قالت عائشة‏:‏ ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا‏.‏
واتخاذ المكان مسجدًا، هو أن يتخذ للصلوات الخمس، وغيرها كما تبنى المساجد لذلك، والمكان المتخذ مسجدًا إنما يقصد فيه عبادة الله ودعاؤه لا دعاء المخلوقين‏.‏
فحرم صلى الله عليه وسلم أن تُتَّخَذ قبورهم مساجد بقصد الصلوات فيها كما تقصد المساجد، وإن كان القاصد لذلك إنما يقصد عبادة الله وحده؛ لأن ذلك ذريعة إلى أن يقصدوا المسجد لأجل صاحب القبر ودعائه والدعاء به والدعاء عنده، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ هذا المكان لعبادة الله وحده لئلا يتخذ ذريعة إلى الشرك بالله‏.‏
والفعل إذا كان يفضى إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة ينهى عنه، كما نهى عن الصلاة فى الأوقات الثلاثة لما فى ذلك من المفسدة الراجحة، وهو التشبه بالمشركين الذى يفضى إلى الشرك‏.‏ وليس فى قصد الصلاة فى تلك الأوقات مصلحة راجحة لإمكان التطوع فى غير ذلك من الأوقات‏.‏
ولهذا تنازع العلماء فى ذوات الأسباب فسوغها كثير منهم فى هذه الأوقات، وهو أظهر قولى العلماء؛ لأن النهى إذا كان لسد الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، وفعل ذوات الأسباب يحتاج إليه فى هذه الأوقات ويفوت إذا لم يفعل فيها فتفوت مصلحتها، فأبيحت لما فيها من المصلحة الراجحة، بخلاف ما لا سبب له فإنه يمكن فعله فى غير هذا الوقت فلا تفوت بالنهى عنه مصلحة راجحة، وفيه مفسدة توجب النهى عنه‏.‏
فإذا كان نهيه عن الصلاة فى هذه الأوقات لسد ذريعة الشرك لئلا يفضى ذلك إلى السجود للشمس ودعائها وسؤالها ـ كما يفعله أهل دعوة الشمس والقمر والكواكب الذين يدعونها ويسألونها ـ كان معلومًا أن دعوة الشمس والسجود لها هو محرم فى نفسه، أعظم تحريمًا من الصلاة التى نهى عنها لئلا يفضى إلى دعاء الكواكب‏.‏
كذلك لما نهى عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد ـ فنهى عن قصدها للصلاة عندها لئلا يفضى ذلك إلى دعائهم والسجود لهم ـ كان دعاؤهم والسجود لهم أعظم تحريما من اتخاذ قبورهم مساجد‏.‏
ولهذا؛ كانت زيارة قبور المسلمين على وجهين‏:‏ زيارة شرعية، وزيارة بدعية‏.‏
فالزيارة الشرعية أن يكون مقصود الزائر الدعاء للميت، كما يقصد بالصلاة على جنازته الدعاء له‏.‏ فالقيام على قبره من جنس الصلاة عليه، قال الله تعالى فى المنافقين‏:‏ ‏{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 84‏]‏، فنهى نبيه عن الصلاة عليهم والقيام على قبورهم؛ لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم كافرون‏.‏ فلما نهى عن هذا وهذا لأجل هذه العلة وهى الكفر، دل ذلك على انتفاء هذا النهى عند انتفاء هذه العلة‏.‏ ودل تخصيصهم بالنهى على أن غيرهم يُصلى عليه ويُقام على قبره؛ إذ لو كان هذا غير مشروع فى حق أحد لم يخصوا بالنهى ولم يعلل ذلك بكفرهم؛ ولهذا كانت الصلاة على الموتى من المؤمنين والقيام على قبورهم من السنة المتواترة، فكان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى على موتى المسلمين وشرع ذلك لأمته، وكان إذا دفن الرجل من أمته يقوم على قبره ويقول‏:‏ ‏(‏سلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل‏)‏‏.‏ رواه أبو داود وغيره‏.