الزيارة الشرعية والبدعية للقبور
 
 
وكان يزور قبور أهل البقيع والشهداء بأحُدٍ، ويعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم‏:‏ ‏(‏السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون‏)‏، ‏(‏ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين‏)‏، ‏(‏نسأل الله لنا ولكم العافية‏)‏، ‏(‏اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم‏)‏‏.‏ وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال‏:‏ ‏(‏السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون‏)‏‏.‏ والأحاديث فى ذلك صحيحة معروفة‏.‏ فهذه الزيارة لقبور المؤمنين مقصودها الدعاء لهم‏.‏
وهذه غير الزيارة المشتركة التي تجوز فى قبور الكفار كما ثبت فى صحيح مسلم وأبى داود والنسائى وابن ماجه عن أبى هريرة أنه قال‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، ثم قال‏:‏ ‏(‏استأذنت ربي فى أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فاستأذنته أن أزور قبرها فأذن لى، فزوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة‏)‏ فهذه الزيارة التي تنفع فى تذكير الموت تشرع ولو كان المقبور كافرًا، بخلاف الزيارة التي يقصد بها الدعاء للميت فتلك لا تشرع إلا فى حق المؤمنين‏.‏
وأما الزيارة البدعية فهى التي يقصد بها أن يطلب من الميت الحـوائج، أو يطلب منـه الدعـاء والشفاعة، أو يقصـد الدعـاء عنـد قبره لظن القاصـد أن ذلك أجوب للدعاء، فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة لم يشرعها النبى صلى الله عليه وسلم ولا فعلها الصحابة لا عند قبر النبى صلى الله عليه وسلم ولا عند غيره، وهى من جنس الشرك وأسباب الشرك‏.‏
ولو قصد الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين من غير أن يقصد دعاءهم والدعاء عندهم، مثل أن يتخذ قبورهم مساجد، لكان ذلك محرمًا منهيًا عنه، ولكان صاحبه متعرضًا لغضب الله ولعنته، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏قَاتَل الله اليَهُودَ والنَّصَارى اتخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائِهم مَسَاجِدَ‏)‏ يُحَذِّر ما صنعوا‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏إن من كانَ قَبْلكم كَانُوا يَتَّخِذُونَ القُبُورَ مَسَاجِدَ ألا فَلا تَتخِذُوا القُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّى أنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ‏)‏‏.‏
فإذا كان هذا محرما، وهو سبب لسخط الرب ولعنته، فكيف بمن يقصد دعاء الميت والدعاء عنده وبه، واعتقد أن ذلك من أسباب إجابة الدعوات، ونيل الطلبات وقضاء الحاجات ‏؟‏‏!‏ وهذا كان أول أسباب الشرك فى قوم نوح وعبادة الأوثان فى الناس، قال ابن عباس‏:‏ كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم ظهر الشرك بسبب تعظيم قبور صالحيهم‏.‏
وقد استفاض عن ابن عباس وغيره فى صحيح البخارى وفى كتب التفسير وقصص الأنبياء فى قوله تعالى‏:‏ ‏{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 23‏]‏ أن هؤلاء كانوا قومًا صالحين فى قوم نوح، فلما ماتوا عَكَفُوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم، قال ابن عباس‏:‏ ثم صارت هذه الأوثان فى قبائل العرب‏.‏
وقد أحدث قوم من ملاحدة الفلاسفة الدهرية للشرك شيئًا آخر ذكروه فى زيارة القبور كما ذكر ذلك ابن سينا ومن أخذ عنه كصاحب الكتب المضنون بها وغيره، ذكروا معنى الشفاعة على أصلهم، فإنهم لا يقرون بأن الله خلق السموات والأرض فى ستة أيام، ولا أنه يعلم الجزئيات، ويسمع أصوات عباده، ويجيب دعاءهم‏.‏
فشفاعة الأنبياء والصالحين على أصلهم ليسـت كمـا يعرفه أهل الإيمـان من أنها دعـاء يدعو به الرجل الصالح فيستجيب الله دعاءه، كما أن ما يكون من إنزال المطر باستسقائهم ليس سببه عندهم إجابة دعائهم‏.‏
بل هم يزعمون أن المؤثر فى حوادث العالم هو قوى النفس أو الحركات الفلكية أو القوى الطبيعية، فيقولون‏:‏ إن الإنسان إذا أحب رجلا صالحا قد مات، لا سيما إن زار قبره، فإنه يحصل لروحه اتصال بروح ذلك الميت فيما يفيض على تلك الروح المفارقة من العقل الفعال عندهم أو النفس الفلكية، يفيض على هذه الروح الزائرة المستشفعة من غير أن يعلم الله بشىء من ذلك ـ بل وقد لا تعلم الروح المستشفع بها بذلك ـ ومثلوا ذلك بالشمس إذا قابلها مرآة فإنه يفيض على المرآة من شعاع الشمس، ثم إذا قابل المرآة مرآة أخرى فاض عليها من تلك المرآة، وإن قابل تلك المرآة حائط أو ماء فاض عليه من شعاع تلك المرآة، فهكذا الشفاعة عندهم، وعلى هذا الوجه ينتفع الزائر عندهم‏.‏ وفى هذا القول من أنواع الكفر ما لا يخفى على من تدبره‏.‏
ولا ريـب أن الأوثان يحصـل عندهـا من الشـياطين وخطابهم وتصـرفهم مـا هو من أسباب ضلال بنى آدم، وجعل القبور أوثانا هو أول الشرك؛ ولهذا يحصل عند القبور لبعض الناس من خطاب يسمعه وشخص يراه وتصرف عجيب؛ ما يظن أنه من الميت وقد يكون من الجن والشياطين، مثل أن يرى القبر قد انشق وخرج منه الميت وكلمه وعانقه، وهذا يرى عند قبور الأنبياء وغيرهم، وإنما هو شيطان، فإن الشيطان يتصور بصور الإنس ويدعى أحدهم أنه النبى فلان أو الشيخ فلان ويكون كاذباً فى ذلك‏.‏