فصـــل: لفظ ‏الوسيلة‏ و‏التوسل‏فيه إجمال واشتباه يجب أن تعرف معانيه
 
 
إذا عرف هذا فقد تبين أن لفظ ‏[‏الوسيلة‏]‏ و‏[‏التوسل‏]‏ فيه إجمال واشتباه يجب أن تعرف معانيه، ويعطى كل ذى حق حقه‏.‏ فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه‏.‏ وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك‏.‏ ويعرف ما أحدثه المحدثون فى هذا اللفظ ومعناه‏.‏
فإن كثيراً من اضطراب الناس فى هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك فى الألفاظ ومعانيها، حتى تجد أكثرهم لا يعرف فى هذا الباب فصل الخطاب‏.‏
فلفظ الوسيلة مذكور فى القرآن فى قوله تعالى‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 35‏]‏، وفى قوله تعالى‏:‏ ‏{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 56، 57‏]‏، فالوسيلة التى أمر الله أن تبتغى إليه، وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه، هى ما يتقرب إليه من الواجبات والمستحبات‏.‏ فهذه الوسيلة التى أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب ومستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل فى ذلك سواء كان محرماً أو مكروها أو مباحا‏.‏
فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول فأمر به أمر إيجاب أو استحباب وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول‏.‏ فجماع الوسيلة التى أمر الله الخلق بابتغائها هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك‏.‏
والثانى لفظ الوسيلة فى الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سلوا الله لى الوسيلة فإنها درجة فى الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لى الوسيلة حلت عليه شفاعتى يوم القيامة‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏من قال حين يسمع النداء‏:‏ اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذى وعدته، إنك لا تخلف الميعاد، حلت له الشفاعة‏)‏‏.‏
فهذه الوسيلة للنبى صلى الله عليه وسلم خاصة‏.‏ وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة، وأخبر أنها لا تكون إلا لعبد من عباد الله، وهو يرجو أن يكون ذلك العبد، وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها للرسول، وأخبر أن من سأل له هذه الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فلما دعوا للنبى صلى الله عليه وسلم استحقوا أن يدعو هو لهم، فإن الشفاعة نوع من الدعاء، كما قال‏:‏ إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا‏.‏
/وأما التوسل بالنبى صلى الله عليه وسلم والتوجه به فى كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته‏.‏ والتوسل به فى عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به، كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيه الصلاح‏.‏ وحينئذ فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين، ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة‏.‏
فأما المعنيان الأولان ـ الصحيحان باتفاق العلماء ـ ‏:‏
فأحدهما‏:‏ هو أصل الإيمان والإسلام وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته‏.‏
والثانى‏:‏ دعاؤه وشفاعته كما تقدم‏.‏
فهذان جائزان بإجماع المسلمين، ومن هذا قول عمر بن الخطاب‏:‏ اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، أى‏:‏ بدعائه وشفاعته، وقوله تعالى‏:‏ ‏{وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 35‏]‏، أى القربة إليه بطاعته‏.‏ وطاعة رسوله طاعته، قال تعالى‏:‏ ‏{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 80‏]‏‏.‏ فهذا التوسل الأول هو أصل الدين، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين‏.‏ وأما التوسل بدعائه وشفاعته ـ كما قال عمر ـ فإنه توسل بدعائه لا بذاته؛ ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس، ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس، فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس، علم أن ما يفعل فى حياته قد تعذر بموته، بخلاف التوسل الذى هو الإيمان به والطاعة له، فإنه مشروع دائما‏.‏
فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معان ‏:‏
أحدها‏:‏ التوسل بطاعته، فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به‏.‏
والثانى‏:‏ التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا كان فى حياته، ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته‏.‏
والثالث‏:‏ التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته، والسؤال بذاته، فهذا هو الذى لم تكن الصحابة يفعلونه فى الاستسقاء ونحوه، لا فى حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا غير قبره، ولا يعرف هذا فى شىء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقل شىء من ذلك فى أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة، أو عمن ليس قوله حجة، كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى‏.‏
وهذا هو الذى قال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ إنه لا يجوز، ونهوا عنه حيث قالوا‏:‏ لا يسأل بمخلوق، ولا يقول أحد‏:‏ أسألك بحق أنبيائك‏.‏ قال أبو الحسين القدورى، فى كتابه الكبير فى الفقه المسمى بشرح الكرخى فى باب الكراهة‏:‏ وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبى حنيفة‏.‏ قال بشر بن الوليد‏:‏ حدثنا أبو يوسف قال أبو حنيفة‏:‏ لا ينبغى لأحد أن يدعو الله إلا به‏.‏ وأكره أن يقول‏:‏ ‏(‏بمعاقد العز من عرشك‏)‏ أو ‏(‏بحق /خلقك‏)‏‏.‏ وهو قول أبى يوسف، قال أبو يوسف‏:‏ بمعقد العز من عرشه هو الله، فلا أكره هذا، وأكره أن يقول بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام‏.‏
قال القدورى‏:‏ المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للخلق على الخالق فلا تجوز وفاقا‏.‏
وهذا الذى قاله أبو حنيفة وأصحابه ـ من أن الله لا يسأل بمخلوق ـ له معنيان ‏:‏
أحدهما‏:‏ هو موافق لسائر الأئمة الذين يمنعون أن يقسم أحد بالمخلوق، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق، فلأن يمنع أن يقسم على الخالق بمخلوق أولى وأحرى‏.‏ وهذا بخلاف إقسامه سبحانه بمخلوقاته كـ ‏{َاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 1، 2‏]‏، ‏{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 1‏]‏، ‏{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 1‏]‏، ‏{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 1‏]‏، فإن إقسامه بمخلوقاته يتضمن مَن ذَكَر آياته الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته ما يحسن معه إقسامه، بخلاف المخلوق، فإن إقسامه بالمخلوقات شرك بخالقها، كما فى السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من حلف بغير الله فقد أشرك‏)‏، وقد صححه الترمذى وغيره، وفى لفظ‏:‏ ‏(‏فقد كفر‏)‏ وقد صححه الحاكم‏.‏ وقد ثبت عنه فى الصحيحين أنه قال‏:‏ ‏(‏من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏لا تحلفوا بآبائكم، فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم‏)‏، وفى الصحيحين عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏من حلف باللات والعزى فليقل‏:‏ لا إله إلا الله‏)‏‏.‏ وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف بالمخلوقات المحترمة، أو بما يعتقد هو حرمته كالعرش، والكرسى، والكعبة، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد النبى صلى الله عليه وسلم، والملائكة، والصالحين، والملوك، وسيوف المجاهدين، وترب الأنبياء والصالحين، وأيمان البندق، وسراويل الفتوة، وغير ذلك لا ينعقد يمينه، ولا كفارة فى الحلف بذلك‏.‏