قول القائل‏:‏ [‏أسألك بكذا‏ ] نوعان‏
 
 فقد تبين أن قول القائل‏:‏ ‏[‏أسألك بكذا‏]‏ نوعان‏:‏ فإن الباء قد تكون للقسم، وقد تكون للسبب، فقد تكون قسما به على الله، وقد تكون سؤالاً بسببه‏.‏
فأما الأول‏:‏ فالقسم بالمخلوقات لا يجوز على المخلوق فكيف على الخالق ‏؟‏
وأما الثانى ـ وهو السؤال بالمعظم ـ‏:‏ كالسؤال بحق الأنبياء فهذا فيه نزاع، وقد تقدم عن أبى حنيفة وأصحابه أنه لا يجوز ذلك‏.‏ومن الناس من يجوز ذلك، فنقول‏:‏ قول السائل لله تعالى‏:‏ ‏[‏أسألك بحق فلان وفلان من الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم، أو بجاه فلان أو بحرمة فلان‏]‏ يقتضى أن هؤلاء لهم عند الله جاه، وهذا صحيح‏.‏
فإن هؤلاء لهم عند الله منزلة وجاه وحرمة يقتضى أن يرفع الله درجاتهم ويعظم أقدارهم ويقبل شفاعتهم إذا شفعوا، مع أنه سبحانه قال‏:‏ ‏{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}‏‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏
ويقتضى أيضاً أن من اتبعهم واقتدى بهم فيما سن له الاقتداء بهم فيه، كان سعيداً، ومن أطاع أمرهم الذى بلغوه عن الله كان سعيداً، ولكن ليس نفس مجرد قدرهم وجاههم مما يقتضى إجابة دعائه إذا سأل الله بهم حتى يسأل الله بذلك، بل جاههم ينفعه أيضاً إذا اتبعهم وأطاعهم فيما أمروا به عن الله، أو تأسى بهم فيما سنوه للمؤمنين، وينفعه أيضاً إذا دعوا له وشفعوا فيه‏.‏
فأما إذا لم يكن منهم دعاء ولا شفاعة، ولا منه سبب يقتضى الإجابة، لم يكن متشفعاً بجاههم، ولم يكن سؤاله بجاههم نافعاً له عند الله، بل يكون قد سألبأمر أجنبى عنه ليس سبباً لنفعه، ولو قال الرجل لمطاع كبير‏:‏ أسألك بطاعة فلان لك، وبحبك له على طاعتك، وبجاهه عندك الذى أوجبته طاعته لك، لكان قد سأله بأمر أجنبى لا تعلق له به، فكذلك إحسان الله إلى هؤلاء المقربين ومحبته لهم وتعظيمه لأقدارهم مع عبادتهم له وطاعتهم إياه ليس فى ذلك ما يوجب إجابة دعاء من يسأل بهم، وإنما يوجب إجابة دعائه بسبب منه لطاعته لهم، أو سبب منهم لشفاعتهم له، فإذا انتفى هذا وهذا فلا سبب‏.‏
نعم، لو سأل الله بإيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم ومحبته له وطاعته له واتباعه، لكان قد سأله بسبب عظيم يقتضى إجابة الدعاء، بل هذا أعظم الأسباب والوسائل، والنبى صلى الله عليه وسلم بين أن شفاعته فى الآخرة تنفع أهل التوحيد لا أهل الشرك، وهى مستحقة لمن دعا له بالوسيلة كما فى الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا على، فإنه من صلى على مرة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا الله لى الوسيلة فإنها درجة فى الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله، وأرجوا أن أكون أنا هو ذلك العبد، فمن سأل الله لى الوسيلة حلت عليه شفاعتى يوم القيامة‏)‏، وفى الصحيح أن أبا هريرة قال له‏:‏ أى الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه‏)‏‏.‏
فبين صلى الله عليه وسلم أن أحق الناس بشفاعته يوم القيامة من كان أعظم توحيداً وإخلاصاً؛ لأن التوحيد جماع الدين، والله لا يغفرأن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فهو سبحانه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فإذا شفع محمدا صلى الله عليه وسلم حدَّ له ربه حدا فيدخلهم الجنة، وذلك بحسب ما يقوم بقلوبهم من التوحيد والإيمان‏.‏ وذكر صلى الله عليه وسلم أنه من سأل الله له الوسيلة حلت عليه شفاعته يوم القيامة، فبين أن شفاعته تنال باتباعه بما جاء به من التوحيد والإيمان‏.‏ وبالدعاء الذى سن لنا أن ندعو له به‏.‏