سؤال الله بأسمائه وصفاته أعظم ما يسأل الله تعالى به‏
 
وأما سؤال الله بأسمائه وصفاته التى تقتضى ما يفعله بالعباد من الهدى والرزق والنصر، فهذا أعظم ما يسأل الله تعالى به‏.‏ فقول المنازع‏:‏ لا يسأل بحق الأنبياء، فإنه لا حق للمخلوق على الخالق‏:‏ ممنوع فإنه قد ثبت فى الصحيحين حديث معاذ الذى تقدم إيراده، وقال تعالى‏:‏ ‏{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}‏‏[‏الأنعام‏:‏54‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}‏‏[‏الروم‏:‏ 47‏]‏‏.‏
فيقال للمنازع‏:‏ فى هذا فى مقامين‏:‏
أحدهما‏:‏ فى حق العباد على الله، والثانى‏:‏ فى سؤاله بذلك الحق‏.‏
أما الأول‏:‏ فلا ريب أن الله تعالى وعد المطيعين بأن يثيبهم، ووعد السائلين بأن يجيبهم، وهو الصادق الذى لا يخلف الميعاد، قال الله تعالى‏:‏ ‏{وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً}‏‏[‏النساء‏:‏ 122‏]‏، ‏{وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}‏‏[‏الروم‏:‏ 6‏]‏، ‏{فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ}‏‏[‏إبراهيم‏:‏ 47‏]‏، فهذا مما يجب وقوعه /بحكم الوعد باتفاق المسلمين‏.‏وتنازعوا‏:‏ هل عليه واجب بدون ذلك ‏؟‏ على ثلاثة أقوال، كما تقدم‏.‏
قيل‏:‏ لا يجب لأحد عليه حق بدون ذلك‏.‏
وقيل‏:‏ بل يجب عليه واجبات ويحرم عليه محرمات بالقياس على عباده‏.‏
وقيل‏:‏ هو أوجب على نفسه وحرم على نفسه، فيجب عليه ما أوجبه على نفسه، ويحرم عليه ما حرمه على نفسه، كما ثبت فى الصحيح من حديث أبى ذر، كما تقدم‏.‏
والظلم ممتنع منه باتفاق المسلمين، لكن تنازعوا فى الظلم الذى لا يقع، فقيل‏:‏ هو الممتنع وكل ممكن يمكن أن يفعله لا يكون ظلماً؛ لأن الظلم إما التصرف فى ملك الغير، وإما مخالفة الأمر الذى يجب عليه طاعته، وكلاهما ممتنع منه‏.‏
وقيل‏:‏ بل ما كان ظلماً من العباد فهو ظلم منه‏.‏
وقيل الظلم وضع الشىء فى غير موضعه، فهو سبحانه لا يظلم الناس شيئاً، قال تعالى‏:‏ ‏{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}‏‏[‏طه‏:‏ 112‏]‏‏.‏قال المفسرون‏:‏ هو أن يحمل عليه سيئات غيره ويعاقب بغير ذنبه، والهضم أن يهضم من حسناته، وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}‏‏[‏النساء‏:‏ 40‏]‏، ‏{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ}‏‏[‏هود‏:‏ 101‏]‏‏.‏
وأما المقام الثانى‏:‏ فإنه يقال‏:‏ ما بين الله ورسوله أنه حق للعباد على الله فهو /حق، لكن الكلام فى السؤال بذلك، فيقال‏:‏ إن كان الحق الذى سأل به سبباً لإجابة السؤال حسن السؤال به، كالحق الذى يجب لعابديه وسائليه‏.‏
وأما إذا قال السائل‏:‏ بحق فلان وفلان، فأولئك إذا كان لهم عند الله حق ألا يعذبهم وأن يكرمهم بثوابه ويرفع درجاتهم ـ كما وعدهم بذلك وأوجبه على نفسه ـ فليس فى استحقاق أولئك ما استحقوه من كرامة الله ما يكون سبباً لمطلوب هذا السائل، فإن ذلك استحق ما استحقه بما يسره الله له من الإيمان والطاعة‏.‏وهذا لا يستحق ما استحقه ذلك‏.‏فليس فى إكرام الله لذلك سبب يقتضى إجابة هذا‏.‏
وإن قال‏:‏ السبب هو شفاعته ودعاؤه فهذا حق، إذا كان قد شفع له ودعا له، وإن لم يشفع له ولم يدع له لم يكن هناك سبب‏.‏
وإن قال‏:‏ السبب هو محبتى له وإيمانى به وموالاتى له، فهذا سبب شرعى، وهو سؤال الله وتوسل إليه بإيمان هذا السائل ومحبته لله ورسوله، وطاعته لله ورسوله، لكن يجب الفرق بين المحبة لله والمحبة مع الله‏:‏ فمن أحب مخلوقاً كما يحب الخالق فقد جعله نداً لله، وهذه المحبة تضره ولا تنفعه، وأما من كان الله تعالى أحب إليه مما سواه، وأحب أنبياءه وعباده الصالحين له، فحبه لله تعالى هو أنفع الأشياء، والفرق بين هذين من أعظم الأمور‏.‏
فإن قيل‏:‏ إذا كان التوسل بالإيمان به ومحبته وطاعته على وجهين ـ تارة يتوسل بذلك إلى ثوابه وجنته، وهذا أعظم الوسائل، وتارة يتوسل بذلك فى الدعاء كما ذكرتم نظائره ـ فيحمل قول القائل‏:‏ أسألك بنبيك محمد، على أنه أراد‏:‏ إنى أسألك بإيمانى به وبمحبته، وأتوسل إليك بإيمانى به ومحبته، ونحو ذلك، وقد ذكرتم أن هذا جائز بلا نزاع‏.‏ قيل‏:‏ من أراد هذا المعنى فهو مصيب فى ذلك بلا نزاع، وإذا حمل على هذا المعنى كلام من توسل بالنبى صلى الله عليه وسلم بعد مماته من السلف ـ كما نقل عن بعض الصحابة والتابعين وعن الإمام أحمد وغيره ـ كان هذا حسنا، وحينئذ فلا يكون فى المسألة نزاع‏.‏ولكن كثير من العوام يطلقون هذا اللفظ ولا يريدون هذا المعنى، فهؤلاء الذين أنكر عليهم من أنكر‏.‏
وهذا كما أن الصحابة كانوا يريدون بالتوسل به التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا جائز بلا نزاع، ثم إن أكثر الناس فى زماننا لا يريدون هذا المعنى بهذا اللفظ‏.‏
فإن قيل‏:‏ فقد يقول الرجل بغيره‏:‏ بحق الرحم، قيل‏:‏ الرحم توجب على صاحبها حقا لذى الرحم، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ}‏‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏ وقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الرحم شَجْنَةٌ ‏[‏شَجْنَة‏:‏ أى قرابة مُشْتبِكة كاشتباك العروق‏.‏ انظر‏:‏ النهاية فى غريب الحديث 2/447‏]‏، من الرحمن، من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله وقال‏:‏ ‏(‏لما خلق الله الرحم تعلقت بِحَقْوِ الرحمن وقالت‏:‏ هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال‏:‏ ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ‏؟‏ قالت‏:‏ بلى قد رضيت‏)‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالى‏:‏ أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمى، فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته‏)‏‏.‏
/وقد روى عن علىٍّ أنه كان إذا سأله ابن أخيه بحق جعفر أبيه، أعطاه لحق جعفر على عليَّ‏.‏ وحق ذى الرحم باق بعد موته، كما فى الحديث‏:‏ أن رجلا قال‏:‏ يا رسول الله، هل بقى من بر أبوى شىء أبرهما به بعد موتهما ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم، الدعاء لهما والاستغفار لهما، وإنفاذ وعدهما من بعدهما، وصلة رحمك التى لا رحم لك إلا من قبلهما‏)‏، وفى الحديث الآخر ـ حديث ابن عمر ـ‏:‏ ‏(‏من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولى‏)‏‏.‏ فصلة أقارب الميت وأصدقائه بعد موته هو من تمام بره‏.‏
والذى قاله أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم من العلماء ـ من أنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق‏:‏ لا بحق الأنبياء ولا غير ذلك ـ يتضمن شيئين ـ كما تقدم ـ ‏:‏
أحدهما‏:‏ الإقسام على الله ـ سبحانه وتعالى ـ به، وهذا منهى عنه عند جماهير العلماء كما تقدم، كما ينهى أن يقسم على الله بالكعبة والمشاعر باتفاق العلماء‏.‏
والثانى‏:‏ السؤال به، فهذا يجوزه طائفة من الناس، ونقل فى ذلك آثار عن بعض السلف، وهو موجود فى دعاء كثير من الناس، لكن ما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك كله ضعيف بل موضوع‏.‏وليس عنه حديث ثابت قد يظن أن لهم فيه حجة، إلا حديث الأعمى الذى علمه أن يقول‏:‏ ‏[‏أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبى الرحمة‏]‏، وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه، فإنه صريح فى أنه إنما توسل بدعاء النبى صلى الله عليه وسلم وشفاعته، وهو طلب من النبى صلى الله عليه وسلم الدعاء، وقد أمره النبى صلى الله عليه وسلم أن يقول‏:‏ ‏(‏اللهم شفعه فى‏)‏‏.‏ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبى صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك مما يعد من آيات النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏ولو توسل غيره من العميان، الذين لم يدع لهم النبى صلى الله عليه وسلم بالسؤال به، لم تكن حالهم كحاله‏.‏
ودعاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فى الاستسقاء المشهور بين المهاجرين والأنصار، وقوله‏:‏ ‏(‏اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا‏)‏‏:‏ يدل على أن التوسل المشروع عندهم هو التوسل بدعائه وشفاعته لا السؤال بذاته؛ إذ لو كان هذا مشروعاً لم يعدل عمر والمهاجرين والأنصار عن السؤال بالرسول إلى السؤال بالعباس‏.‏
وشاع النزاع فى السؤال بالأنبياء والصالحين، دون الإقسام بهم؛ لأن بين السؤال والإقسام فرقاً، فإن السائل متضرع ذليل يسأل بسبب يناسب الإجابة، والمقسم أعلى من هذا، فإنه طالب مؤكد طلبه بالقسم، والمقسم لا يقسم إلا على من يرى أنه يبر قسمه، فإبرار القسم خاص ببعض العباد‏.‏
وأما إجابة السائلين فعام؛ فإن الله يجيب دعوة المضطر ودعوة المظلوم وإن كان كافراً، وفى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من داع يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث‏:‏ إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، إذاً نكثر‏.‏قال‏:‏ ‏(‏الله أكثر‏)‏‏.‏وهذا التوسل بالأنبياء بمعنى السؤال بهم ـ وهو الذى قال أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم أنه لا يجوز ـ ليس فى المعروف من مذهب مالك ما يناقض ذلك، فضلا أن يجعل هذا من مسائل السب، فمن نقل عن مذهب مالك أنه جوَّز التوسل به، بمعنى الإقسام به أو السؤال به، فليس معه فى ذلك نقل عن مالك وأصحابه، فضلا عن أن يقول مالك‏:‏ إن هذا سب للرسول أو تنقص له، بل المعروف عن مالك أنه كره للداعى أن يقول‏:‏ يا سيدى، سيدى، وقال‏:‏ قل كما قالت الأنبياء‏:‏ يا رب، يا رب، يا كريم‏.‏وكره أيضا أن يقول‏:‏ يا حنان يا منان‏.‏فإنه ليس بمأثور عنه‏.‏
فإذا كان مالك يكره مثل هذا الدعاء، إذ لم يكن مشروعاً عنده، فكيف يجوز عنده أن يسأل الله بمخلوق نبياً كان أو غيره، وهو يعلم أن الصحابة لما أجدبوا عام الرمادة لم يسألوا الله بمخلوق، لا نبى ولا غيره، بل قال عمر‏:‏ اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا‏.‏ فيسقون‏.‏
وكذلك ثبت فى صحيح مسلم عن ابن عمر وأنس وغيرهما أنهم كانوا إذا أجدبوا إنما يتوسلون بدعاء النبى صلى الله عليه وسلم واستسقائه، لم ينقل عن أحد منهم أنه كان فى حياته صلى الله عليه وسلم سأل اللّه تعالى بمخلوق /لا بد ولا بغيره، لا فى الاستسقاء ولا غيره، وحديث الأعمى سنتكلم عليه إن شاء اللّه تعالى، فلو كان السؤال به معروفاً عند الصحابة لقالوا لعمر‏:‏ إن السؤال والتوسل به أولى من السؤال والتوسل بالعباس،فلم نعدل عن الأمر المشروع الذى كنا نفعله فى حياته وهو التوسل بأفضل الخلق إلى أن نتوسل ببعض أقاربه ،وفى ذلك ترك السنة المشروعة وعدول عن الأفضل، وسؤال اللّه تعالى بأضعـف السببين مع القدرة على أعلاهما ــ ونحن مضطرون غاية الاضطرار فى عام الرمادة الذى يضرب به المثل فى الجدب‏.‏
والذى فعله عمر فعل مثله معاوية بحضرة من معه من الصحابة والتابعين، فتوسلوا بيزيد بن الأسود الجُرَشِى كما توسل عمر بالعباس، وكذلك ذكر الفقهاء من أصحاب الشافعى وأحمد وغيرهم أنه يتوسل فى الاستسقاء بدعاء أهل الخير والصلاح، قالوا‏:‏ وإن كانوا من أقارب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فهو أفضل، اقتداء بعمر، ولم يقل أحد من أهل العلم‏:‏ إنه يسأل اللّه تعالى فى ذلك لا بنبى ولا بغير نبى‏.‏
وكذلك من نقل عن مالك أنه جوز سؤال الرسول أو غيره بعد موتهم أو نقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين ــ غير مالك ــ كالشافعى وأحمد وغيرهما فقد كذب عليهم، ولكن بعض الجهال ينقل هذا عن مالك ويستند إلى حكاية مكذوبة عن مالك، ولو كانت صحيحة لم يكن التوسل الذى فيها هو هذا، بل هو التوسل بشفاعته يوم القيامة، ولكن من الناس من يحرف نقلها، وأصلها ضعيف كما سنبينه إن شاء اللّه تعالى‏.‏
/والقاضى عياض لم يذكرها فى كتابه فى باب زيارة قبره، بل ذكر هناك ما هو المعروف عن مالك وأصحابه، وإنما ذكرها فى سياق أن حرمة النبى صلى الله عليه وسلم بعد موته، وتوقيره وتعظيمه لازم، كما كان حال حياته، وكذلك عند ذكره وذكر حديثه، وسنته، وسماع اسمه‏.‏ وذكر عن مالك أنه سئل عن أيوب السختيانى فقال‏:‏ ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه‏.‏ قال‏:‏ وحج حجتين، فكنت أرمقه فلا أسمع منه غير أنه كان إذا ذكر النبى صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبى صلى الله عليه وسلم كتبت عنه‏.‏
وقال مصعب بن عبد اللّه‏:‏ كان مالك إذا ذكر النبى صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحنى، حتى يصعب ذلك على جلسائه‏.‏ فقيل له يوماً فى ذلك، فقال‏:‏ لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم على ما ترون، لقد كنت أرى محمد بن المُنْكَدِر ــ وكان سيد القراء ــ لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكى حتى نرحمه‏.‏ ولقد كنت أرى جعفر بن محمد ــ وكان كثير الدعابة والتبسم ــ فإذا ذكر عنده النبى صلى الله عليه وسلم اصفر لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة‏.‏ ولقد اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال‏:‏ إما مصلياً، وإما صامتا، وإما يقرأ القرآن‏.‏ ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون اللّه ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبى صلى الله عليه وسلم فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه فى فمه هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولقد كنت آتى عامر بن عبد الله بن الزبير، فإذا ذكر عنده النبى صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى فى عينيه دموع‏.‏ ولقد رأيت الزهرى ــ وكان لَمِنْ أهنأ الناس وأقربهم ــ فإذا ذكر عنده النبى صلى الله عليه وسلم فكأنه ما عرفك ولا عرفته‏.‏ ولقد كنت آتى صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذكر النبى صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكى حتى يقوم الناس عنه ويتركوه‏.‏