آثار عن السلف في باب التوسل أكثرها ضعيفة‏
 
وفى الباب آثار عن السلف أكثرها ضعيفة‏.‏
فمنها حديث الأربعة الذين اجتمعوا عند الكعبة وسألوا، وهم‏:‏ عبد الله ومصعب ابنا الزبير، وعبد الله بن عمـر، وعبد الملك بن مـروان، وذكره ابن أبى الـدنيا فى كتاب ‏[‏مجابـى الدعـاء‏]‏ ورواه من طـريق إسـماعيل بن أبان الغنوى، عن سفيان الثورى عن طارق بن عبد العزيز عن الشعبى أنه قال‏:‏ لقد رأيت عجبًا، كنا بفناء الكعبة أنا وعبد الله ابن عمر وعبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان، فقال القوم بعد أن فرغوا من حديثهم‏:‏ ليقم كل رجل منكم فليأخذ بالركن اليمانى، وليسأل الله حاجته فإنه يعطى من سعة‏.‏ ثم قالوا‏:‏ قم يا عبد الله بن الزبير فإنك أول مولود فى الإسلام بعد الهجرة، فقام فأخذ بالركن اليمانى ثم قال‏:‏ اللهم إنك عظيم ترجى لكل عظيم، أسألك بحرمة وجهك وحرمة عرشك وحرمة نبيك ألا تميتنى من الدنيا حتى تولينى الحجاز، ويسلم على بالخلافة، ثم جاء فجلس‏.‏
ثم قام مصعب فأخذ بالركن اليمانى ثم قال‏:‏ اللهم إنك رب كل شىء، وإليك يصير كل شىء، أسألك بقدرتك على كل شىء، ألا تميتنى من الدنيا حتى تولينى العراق وتزوجنى بسكينة بنت الحسين‏.‏
ثم قام عبد الملك بن مروان فأخذ بالركن اليمانى ثم قال‏:‏ اللهم رب السموات السبع، ورب الأرض ذات النبت بعد القفر، أسألك بما سألك به عبادك المطيعون لأمرك، وأسألك بحقك على خلقك‏.‏ وبحق الطائفين حول عرشك‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخره‏.‏
قلت‏:‏ وإسماعيل بن أبان الذى روى هذا عن سفيان الثورى كذاب، قال أحمد بن حنبل‏:‏ كتبت عنه، ثم حدث بأحاديث موضوعة فتركناه‏.‏ وقال يحىى بن معين‏:‏ وضع حديثا على السابع من ولد العباس يلبس الخضرة يعنى المأمون، وقال البخارى ومسلم وأبو زرعة والدارقطنى‏:‏ متروك‏.‏ وقال الجوزجانى‏:‏ ظهر منه على الكذب‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ كذاب‏.‏ وقال ابن حبان‏:‏ يضع على الثقات‏.‏ وطارق بن عبد العزيز الذى ذكر أن الثورى روى عنه لا يعرف من هو‏.‏ قال‏:‏ فإن طارق بن عبد العزيز المعروف الذى روى عنه ابن عجلان ليس من هذه الطبقة‏.‏
وقد خولف فيها فرواها أبو نعيم عن الطبرانى‏:‏ حدثنا أحمد بن زيد بن الجريش، حدثنا أبو حاتم السجستانى، حدثنا الأصمعى قال‏:‏ حدثنا عبد الرحمن بن أبى الزناد عن أبيه قال‏:‏ اجتمع فـى الحجـر مصعـب وعروة وعبد الله أبناء الزبير وعبـد الله بـن عمر فقالوا‏:‏ تمنوا‏.‏ فقال عبد الله بن الزبير‏:‏ أما أنا فأتمنى الخلافة، وقال عروة‏:‏ أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عنى العلم، وقال مصعب‏:‏ أما أنا فأتمنى إمرة العراق، والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين، وقال عبد الله بن عمر‏:‏ أما أنا فأتمنى المغفرة‏.‏ قال‏:‏ فنال كلهم ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر له‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ وهذا إسناد خير من ذاك الإسناد باتفاق أهل العلم، وليس فيه سؤال بالمخلوقات‏.‏
وفى الباب حكايات عن بعض الناس أنه رأى مناما قيل له فيه‏:‏ ادع بكذا وكذا، ومثل هذا لا يجوز أن يكون دليلاً باتفاق العلماء، وقد ذكر بعض هذه الحكايات من جمع الأدعية، وروى فى ذلك أثـر عن بعض السـلف مثـل ما رواه /ابـن أبـى الدنيا فى كتاب ‏[‏مجابـي الـدعاء‏]‏، قال‏:‏ حـدثنا أبو هـاشم، سـمعت كثير بن محمد بن كثير بن رفاعة يقول‏:‏ جاء رجل إلى عبد الملك بن سعيد بن أبجر فجس بطنه فقال‏:‏ بك داء لا يبرأ‏.‏ قال‏:‏ ما هو ‏؟‏ قال‏:‏ الدُّبَيْلة ‏[‏الدبيلة‏:‏ داء فى الجوف‏.‏ انظر‏:‏ القاموس المحيط، مادة ‏[‏دبل‏]‏‏]‏‏.‏
قال‏:‏ فتحول الرجل فقال‏:‏ الله، الله، الله ربى لا أشرك به شيئا، اللهم إنى أتوجه إليك بنبيك محمد نبى الرحمة صلى الله عليه وسلم تسليما، يا محمد، إنـى أتوجـه بك إلى ربك وربى يرحمنى مما بـى‏.‏ قال‏:‏ فجس بطنه فقال‏:‏ قد برئت، ما بك علة‏.‏
قلت‏:‏ فهذا الدعاء ونحوه قد روى أنه دعا به السلف، ونقل عن أحمد بن حنبل فى منسك المروزى التوسل بالنبى صلى الله عليه وسلم فى الدعاء، ونهى عنه آخرون‏.‏ فإن كان مقصود المتوسلين التوسل بالإيمان به وبمحبته وبموالاته وبطاعته فلا نزاع بين الطائفتين، وإن كان مقصودهم التوسل بذاته فهو محل النزاع، وما تنازعوا فيه يرد إلى الله والرسول‏.‏
وليس مجرد كون الدعاء حصل به المقصود ما يدل على أنه سائغ فى الشريعة، فإن كثيرا من الناس يدعون من دون الله من الكواكب والمخلوقين ويحصل ما يحصل من غرضهم، وبعض الناس يقصدون الدعاء عند الأوثان والكنائس وغير ذلك، ويدعو التماثيل التى فى الكنائس، ويحصل ما يحصل من غرضه، وبعض الناس يدعو بأدعية محرمة باتفاق المسلمين ويحصل ما يحصل من غرضهم‏.‏ فحصول الغرض ببعض الأمور لا يستلزم إباحته، وإن كان الغرض مباحًا، فإن ذلك الفعل قد يكون فيه مفسدة راجحة على مصلحتـه، والشريعـة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فجميع المحرمات من الشرك والخمر والميسر والفواحش والظلم قد يحصل لصاحبه به منافع ومقاصد، لكن لما كانت مفاسدها راجحة على مصالحها، نهى الله ورسوله عنها، كما أن كثيراً من الأمور كالعبادات والجهاد وإنفاق الأموال قد تكون مضرة، لكن لما كانت مصلحته راجحة على مفسدته أمر به الشارع‏.‏
فهذا أصل يجب اعتباره، ولا يجوز أن يكون الشىء واجبا أو مستحبا إلا بدليل شرعى يقتضى إيجابه أو استحبابه‏.‏ والعبادات لا تكون إلا واجبة أو مستحبة، فما ليس بواجب ولا مستحب فليس بعبادة‏.‏ والدعاء لله تعالى عبادة إن كان المطلوب به أمرا مباحا‏.‏
وفى الجملة، فقد نقل عن بعض السلف والعلماء السؤال به، بخلاف دعاء الموتى والغائبين من الأنبياء والملائكة والصالحين والاستغاثة بهم والشكوى إليهم، فهذا مما لم يفعله أحد من السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا رخص فيه أحد من أئمة المسلمين‏.‏
وحديث الأعمى الذى رواه الترمذى والنسائى هو من القسم الثانى من التوسل بدعائه، فإن الأعمى قد طلب من النبى صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بأن يرد الله عليه بصره، فقال له‏:‏ ‏(‏إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك‏)‏ فقال‏:‏ بل ادعه، فأمره أن يتوضأ ويصلى ركعتين ويقول‏:‏ ‏(‏اللهم إنى أسألك بنبيك نبى الرحمة، يا محمد، يا رسول الله، إنى أتوجه بك إلى ربى فى حاجتى هذه ليقضيها، اللهم فشفعه فىّ‏)‏ فهذا توسل بدعاء النبى صلى الله عليه وسلم وشفاعته، ودعا له النبى صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال‏:‏ ‏(‏وشفعه فىّ‏)‏ فسأل الله أن يقبل شفاعة رسوله فيه وهو دعاؤه‏.‏
وهذا الحديث ذكره العلماء فى معجزات النبى صلى الله عليه وسلم ودعائه المستجاب، وما أظهر الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات، فإنه صلى الله عليه وسلم ببركة دعائه لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره‏.‏
وهذا الحديث ـ حديث الأعمى ـ قد رواه المصنفون فى دلائل النبوة كالبيهقى وغيره‏:‏ رواه البيهقى من حديث عثمان بن عمر، عن شعبة، عن أبى جعفر الخطمى، قال‏:‏ سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف، أن رجلا ضريراً أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ادع الله أن يعافينى، فقال له‏:‏ ‏(‏إن شئت أخَّرْت ذلك فهو خير لك، وإن شئت دعوت‏)‏ قال‏:‏ فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلى ركعتين ويدعو بهذا الدعاء‏:‏ ‏(‏اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبى الرحمة، يا محمد، إنى أتوجه بك إلى ربى فى حاجتى هذه فيقضيها لى، اللهم فشفعه فى وشفعنى فيه‏)‏ قال‏:‏ فقام وقد أبصر، ومن هذا الطريق رواه الترمذى من حديث عثمان بن عمر‏.‏
ومنها‏:‏ ما رواه النسائى وابن ماجه أيضا، وقال الترمذى‏:‏ هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبى جعفر وهو غير الخطمى، هكذا وقع فى الترمذى، وسائر العلماء قالوا‏:‏ هو أبو جعفر الخطمى وهو الصواب، وأيضا فالترمذى ومن معه لم يستوعبوا لفظه كما استوعبه سائر العلماء، بل رووه إلى قوله‏:‏ ‏(‏اللهم شفعه فى‏)‏‏.‏
قال الترمذى‏:‏ حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا شعبة، عن أبى جعفر، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف، أن رجلا ضرير البصر أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ادع الله أن يعافينى قال‏:‏ ‏(‏إن شئت صبرت فهو خير لك‏)‏ قال‏:‏ فادعه، قال‏:‏ فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء‏:‏ ‏(‏اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبى الرحمة، يا محمد، إنى توجهت بك إلى ربى فى حاجتى هذه لتقضى، اللهم شفعه فى‏)‏، قال البيهقى‏:‏ رويناه فى ‏[‏كتاب الدعوات‏]‏ بإسناد صحيح عن روح بن عبادة عن شعبة، قال‏:‏ ففعل الرجل فبرأ، قال‏:‏ وكذلك رواه حماد ابن سلمة عن أبى جعفر الخطمى‏.‏
قلت‏:‏ ورواه الإمام أحمد فى مسنده عن روح بن عبادة كما ذكره البيهقى، قال أحمد‏:‏ حدثنا روح بن عبادة، حدثنا شعبة، عن أبى جعفر المدينى، سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف‏:‏ أن رجلا ضريراً أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا نبى الله، ادع الله أن يعافينى، قال‏:‏ ‏(‏إن شئت أخرت ذلك فهو خير لآخرتك، وإن شئت دعوت لك‏)‏ قال‏:‏ لا، بل ادع الله لى، فأمره أن يتوضأ وأن يصلى ركعتين وأن يدعو بهذا الدعاء‏:‏ ‏(‏اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبى الرحمة، يا محمد، إنى أتوجه بك إلى الله فى حاجتى هذه، فتقضى لى وتشفعنى فيه وتشفعه فى‏)‏ قال‏:‏ ففعل الرجل فبرئ‏.‏
رواه البيهقى أيضاً من حديث شبيب بن سعيد الحَبَطِىّ، عن روح بن القاسم، عن أبى جعفر المدينى ـ وهو الخُطْمِىّ ـ عن أبى أمامة سهل بن حنيف، عن عثمان بن حنيف قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه رجل ضرير يشتكى إليه ذهاب بصره فقال‏:‏ يا رسول الله، ليس لى قائد وقد شق على؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين، ثم قل‏:‏ اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبى الرحمة ،يا محمد، إنى أتوجه بك إلى ربى فيجلى عن بصرى، اللهم فشفعه فى وشفعنى فى نفسى‏)‏ قال عثمان بن حنيف‏:‏ والله ما تفرقنا ولا طال الحديث بنا حتى دخل الرجل كأنه لم يكن به ضر قط‏.‏
فرواية شبيب عن روح عن أبى جعفر الخطمى خالفت رواية شعبة وحماد بن سلمة فى الإسناد والمتن، فإن فى تلك أنه رواه أبو جعفر عن عمارة بن خزيمة، وفى هذه أنه رواه عن أبـى أمامـة سهل، وفى تلك الـرواية أنه قال‏:‏ فشفعه فىَّ وشـفعنى فيـه، وفـى هذه‏:‏ وشـفعنى فى نفسـى‏.‏ لكن هذا الإسنـاد لـه شاهـد آخـر من روايـة هشـام الـدُّسْتِوائى عن أبى جعفر‏.‏
ورواه البيهقى من هذا الطريق وفيه قصة قد يحتج بها من توسل به بعد موته ـ إن كانت صحيحة ـ رواه من حديث إسماعيل بن شبيب بن سعيد الحبطى عن شبيب بن سعيد عن روح بن القاسم عن أبى جعفر المدينى عن أبى أمامة سهل بن حنيف أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان، فى حاجة له وكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر، فى حاجته، فلقى الرجل عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك فقال له عثمان بن حنيف‏:‏ ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل ركعتين ثم قل‏:‏ اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبى الرحمة، يا محمد، إنى أتوجه بك إلى ربى فيقضى لى حاجتى، ثم اذكر حاجتك، ثم رح حتى أروح معك‏.‏ قال‏:‏ فانطلق الرجل فصنع ذلك، ثم أتى بَعْدُ عثمان ابن عفان، فجاء البواب فأخذ بيده فأدخله على عثمان فأجلسه معه على الطِّنْفِسَة وقال‏:‏ انظر ما كانت لك من حاجة‏.‏ فذكر حاجته فقضاها له‏.‏
ثم إن الرجل خرج من عنده فلقى عثمان بن حنيف فقال له‏:‏ جزاك الله خيرًا، ما كان ينظر فى حاجتى ولا يلتفت إلىّ حتى كلمته فىّ‏.‏ فقال عثمان بن حنيف‏:‏ ما كلمته ولكن سـمعت رسـول اللـه صلى الله عليه وسلم يقول، وجـاءه ضرير فشكـا إليـه ذهاب بـصره، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أو تصبر ‏؟‏‏)‏ فقال له‏:‏ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس لى قائد وقد شق علىَّ، فقال‏:‏ ‏(‏ائت الميضأة فتوضأ وصل ركعتين، ثم قل‏:‏ اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبى الرحمة، يا محمد، إنى أتوجه بك إلى ربى فيجلى لى عن بصرى، اللهم فشفعه فى وشفعنى فى نفسى‏)‏ قال عثمان بن حنيف‏:‏ فوالله ما تفرقنا وما طال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط‏.‏
قال البيهقى‏:‏ ورواه أحمد بن شبيب بن سعيد عن أبيه بطوله، وساقه من رواية يعقوب بن سفيان عن أحمد بن شبيب بن سعيد‏.‏ قال‏:‏ ورواه أيضا هشام الدستوائى عن أبـى جعفر عن أبـى أمامة بـن سـهل عن عمه ـ وهو عثمان بـن حنيف ـ ولم يذكر إسناد هذه الطرق‏.‏
/قلت‏:‏ وقد رواه النسائى فى كتاب ‏[‏عمل اليوم والليلة‏]‏ من هذه الطريق من حديث معاذ بن هشام، عن أبيه، عن أبى جعفر، عن أبى أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف‏.‏ ورواه أيضاً من حديث شعبة وحماد بن سلمة كلاهما عن أبى جعفر، عن عمارة بن خزيمة، ولم يروه أحد من هؤلاء ـ لا الترمذى ولا النسائى ولا ابن ماجه من تلك الطريق الغريبة التى فيها الزيادة‏:‏ طريق شبيب بن سعيد عن روح بن القاسم‏.‏
لكن رواه الحاكم فى مستدركه من الطريقين، فرواه من حديث عثمان بن عمر، حدثنا شعبة، عن أبى جعفر المدنى، سمعت عمارة بن خزيمة يحدث عن عثمان بن حنيف، أن رجلاً ضريراً أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ادع الله أن يعافينى فقال‏:‏ ‏(‏إن شئت أخرت ذلك فهو خير لك، وإن شئت دعوت‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فادعه‏.‏ فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلى ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء‏:‏ ‏(‏اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبى الرحمة، يا محمد، إنى توجهت بك إلى ربى فى حاجتى هذه، اللهم فشفعه فى وشفعنى فيه‏)‏ قال الحاكم‏:‏ على شرطهما‏.‏
ثم رواه من طريق شبيب بن سعيد الحبطى وعون بن عمارة، عن روح بن القاسم، عن أبى جعفر الخطمى المدنى، عن أبى أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف، أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم وجاءه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره وقال‏:‏ يا رسول الله، ليس لى قائد وقد شق على، فقال‏:‏ ‏(‏ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين، ثم قال‏:‏ اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبى الرحمة، يا محمد، إنى أتوجه بك إلى ربى فيجلى لى عن بصرى، اللهم فشفعه فىّ وشفعنى فى نفسى‏)‏ قال عثمان‏:‏ فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل الرجل وكأن لم يكن به ضر قط‏.‏ قال الحاكم‏:‏ على شرط البخارى‏.‏
وشبيب هذا صدوق روى له البخارى، ولكنه قد روى له عن روح بن الفرج أحاديث مناكير رواها ابن وهب، وقد ظن أنه غلط عليه‏.‏ ولكن قد يقال مثل هذا إذا انفرد عن الثقات الذين هم أحفظ منه مثل شعبة وحماد بن سلمة وهشام الدستوائى بزيادة كان ذلك عليه فى الحديث، لا سيما وفى هذه الرواية أنه قال‏:‏ ‏(‏فشفعه فى وشفعنى فى نفسى‏)‏ وأولئك قالوا‏:‏ ‏(‏فشفعه فى وشفعنى فيه‏)‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏(‏وشفعنى فيه‏)‏ أى فى دعائه وسؤاله لى فيطابق قوله‏:‏ ‏(‏وشفعه فى‏)‏‏.‏
قال أبو أحمد بن عدى فى كتابه المسمى ‏[‏بالكامل فى أسماء الرجال‏]‏ ـ ولم يصنف فى فنه مثله ـ‏:‏ شبيب بن سعيد الحبطى أبو سعيد البصرى التميمى حدث عنه ابن وهب بالمناكير، وحدث عن يونس عن الزهرى بنسخة الزهرى أحاديث مستقيمة، وذكر عن على ابن المدينى أنه قال‏:‏ هو بصرى ثقة، كان من أصحاب يونس، كان يختلف فى تجارة إلى مصر وجاء بكتاب صحيح، قال‏:‏ وقد كتبها عنه ابنه أحمد بن شبيب‏.‏ وروى عن عدى حديثين عن ابن وهب عن شبيب هذا عن روح بن الفرج‏:‏
أحدهما‏:‏ عن ابن عقيل، عن سابق بن ناجية، عن ابن سلام قال‏:‏ مر بنا رجل فقالوا‏:‏ إن هذا قد خدم النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏
/والثانى‏:‏ عنه، عن روح بن الفرج، عن عبد الله بن الحسين، عن أمه فاطمة حديث دخول المسجد، قال ابن عدى‏:‏ كذا قيل فى الحديث عن عبد الله بن الحسين، عن أمه فاطمة بنت الحسين، عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عدى‏:‏ ولشبيب ابن سعيد نسخة الزهرى عنده عن يونس عن الزهرى وهى أحاديث مستقيمة‏.‏ وحدث عنه ابن وهب بأحاديث مناكير‏.‏
وحدثنى روح بن الفرج اللذين أمليتهما يرويهما ابن وهب عن شبيب، وكان شبيب ابن سـعيد إذا روى عنـه ابنـه أحمد بن شبيب نسـخة الزهرى، ليس هو شبيب بـن سـعيد الذى يحدث عنه ابن وهب بالمناكير التى يرويها عنه، ولعل شبيبا بمصر فى تجارته إليها كتب عنه ابن وهب من حفظه فيغلط ويهم، وأرجو ألا يتعمد شبيب هذا الكذب‏.‏
قلت‏:‏ هذا الحديثان اللذان أنكرهما ابن عدى عليه، رواهما عن روح بن القاسم، وكذلك هذا الحديث ـ حديث الأعمى ـ رواه عن روح بن القاسم‏.‏ وهذا الحديث مما رواه عنه ابن وهب أيضاً كما رواه عنه ابناه، لكنه لم يتقن لفظه كما أتقنه ابناه‏.‏
وهذا يصحح ما ذكره ابن عدى، فعلم أنه محفوظ عنه، وابن عدى أحال الغلط عليه لا على ابن وهب، وهذا صحيح إن كان قد غلط، وإذا كان قد غلط على روح بن القاسم فى ذينك الحديثين أمكن أن يكون غلط عليه فى هذا الحديث، وروح بن القاسم ثقة مشهور روى له الجماعة، فلهذا لم يحيلوا الغلط عليه‏.‏
/والـرجل قـد يكون حافـظا لما يرويـه عن شـيخ غير حافـظ لما يرويـه عن آخر، مثل إسـماعيل بـن عياش فيمـا يرويـه عن الحجـازيين، فإنـه يغلط فيـه، بخلاف ما يرويـه عن الشاميين‏.‏ ومثل سفيان بن حسين فيما يرويه عن الزهرى‏.‏ ومثل هذا كثير، فيحتمل أن يكون هذا يـغلط فيمـا يـرويه عن روح بـن القاسـم ـ إن كان الأمـر كمـا قالـه ابـن عدى ـ وهذا محل نظر‏.‏
وقد روى الطبرانى هذا الحديث فى المعجم من حديث ابن وهب عن شبيب بن سعيد، ورواه من حديث أصبغ بن الفرج‏:‏ حدثنا عبد الله بن وهب، عن شبيب بن سعيد المكى، عن روح بن القاسم، عن أبى جعفر الخطمى المدنى، عن أبى أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف، أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان فى حاجة له، فلقى عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف‏:‏ ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل‏:‏ اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبى الرحمة، يا محمد، إنى أتوجه بك إلى ربك عز وجل فيقضى لى حاجتى‏.‏ وتذكر حاجتك، ورح حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قاله له، ثم أتى باب عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطِّنْفِسة، وقال‏:‏ حاجتك، فذكر حاجته فقضاها له، ثم قال له‏:‏ ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال‏:‏ ما كانت لك من حاجة فائتنا‏.‏
ثم إن الرجل خرج من عنده فلقى عثمان بن حنيف، فقال له‏:‏ جزاك الله خيراً، ما كان ينظر فى حاجتى ولا يلتفت إلىَّ حتى كلمته فى‏.‏ فقال له عثمان بن حنيف‏:‏ والله ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أفتصبر ‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ يا رسول الله إنه ليس لى قائد وقد شق علىّ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات‏)‏ فقال عثمان بن حنيف‏:‏ فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل، كأنه لم يكن به ضر قط‏.‏
قال الطبرانى‏:‏ روى هذا الحديث شعبة عن أبى جعفر واسمه عمير بن يزيد وهو ثقة، تفرد به عثمان بن عمر عن شعبة، قال أبو عبد الله المقدسى‏:‏ والحديث صحيح‏.‏
قلت‏:‏ والطبرانى ذكر تفرده بمبلغ علمه ولم تبلغه رواية روح بن عبادة عن شعبة، وذلك إسناد صحيح، يبين أنه لم ينفرد به عثمان بن عمر، وطريق ابن وهب هذه تؤيد ما ذكره ابن عدى، فإنه لم يحرر لفظ الرواية كما حررها ابناه، بل ذكر فيها أن الأعمى دعا بمثل ما ذكره عثمان بن حنيف، وليس كذلك بل فى حديث الأعمى أنه قال‏:‏ ‏(‏اللهم فشفعه فى وشفعنى فيه ـ أو قال ـ فى نفسى‏)‏‏.‏
وهذه لم يذكرها ابن وهب فى روايته، فيشبه أن يكون حدث ابن وهب من حفظه ـ كما قال ابن عدى ـ فلم يتقن الرواية‏.‏ وقد روى أبو بكر بن أبى خيثمة فى تاريخه حديث حماد بن سلمة فقال‏:‏ حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا حماد بن سلمة، أنا أبو جعفر الخطمى، عن عمارة بن خزيمة، عن عثمان بن حنيف، أن رجلا أعمى أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إنى أصبت فى بصرى فادع الله لى‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏اذهب فتوضأ وصل ركعتين ثم قل‏:‏ اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبىى محمد نبى الرحمة‏.‏ يا محمد، أستشفع بك على ربى فى رد بصرى، اللهم فشفعنى فى نفسى وشفع نبىى فى رد بصرى، وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك‏)‏ فرد الله عليه بصره‏.‏
قال ابن أبى خَيْثَمَة‏:‏ وأبو جعفر هذا ـ الذى حدث عنه حماد بن سلمة ـ اسمه عمير ابن يزيد وهو أبو جعفر الذى يروى عنه شعبة، ثم ذكر الحديث من طريق عثمان بن عمر عن شعبة‏.‏قلت‏:‏وهذه الطريق فيها ‏(‏فشفعنى فى نفسى‏"‏ مثل طريق روح بن القاسم، وفيها زيادة أخرى وهى قوله‏:‏‏"‏وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك ـ أو قال ـ فعل مثل ذلك‏"‏‏.‏
وهذه قد يقـال‏:‏ إنهـا توافق قول عثمان بـن حـنيف، لكن شـعبة وروح بـن القاسم أحفظ من حماد بن سلمة، واختلاف الألفاظ يدل على أن مثل هذه الرواية قد تكون بالمعنى، وقوله‏:‏ ‏(‏وإن كانت حاجة فعل مثل ذلك‏)‏ قد يكون مدرجًا من كلام عثمان لا من كلام النبى صلى الله عليه وسلم فإنه لم يقل‏:‏ ‏(‏وإن كانت لك حاجة فعلت مثل ذلك‏)‏، بل قال‏:‏ ‏"‏وإن كانت حاجة فعل مثل ذلك‏)‏‏.‏
وبالجملة، فهذه الزيادة لو كانت ثابتة لم يكن فيها حجة، وإنما غايتها أن يكون عثمان ابن حنيف ظن أن الدعاء يدعى ببعضه دون بعض، فإنه لم يأمره بالدعاء المشروع، بل ببعضه، وظن أن هذا مشروع بعد موته صلى الله عليه وسلم، ولفظ الحديث يناقض ذلك، فإن فى الحديث أن الأعمى سأل النبى صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، وأنه علم الأعمى أن يدعو وأمره فى الدعاء أن يقول‏:‏ ‏(‏اللهم فشفعه فى‏)‏، وإنما يدعى بهذا الدعاء إذا كان النبى صلى الله عليه وسلم داعيا شافعا له، بخلاف من لم يكن كذلك، فهذا يناسب شفاعته ودعاءه للناس فى محياه فى الدنيا ويوم القيامة إذا شفع لهم‏.‏
وفيه أيضًا أنه قال‏:‏ ‏(‏وشفعنى فيه‏)‏، وليس المراد أنه يشفع للنبى صلى الله عليه وسلم فى حاجة للنبى صلى الله عليه وسلم ـ وإن كنا مأمورين بالصلاة والسلام عليه، وأمرنا أن نسأل الله له الوسيلة ـ ففى صحيح البخارى عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من قال إذا سمع النداء‏:‏ اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذى وعدته، حلتْ له شفاعتى يوم القيامة‏)‏‏.‏
وفى صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علىّ فإن من صلى على صلاة صلى الله عليه عشرًا، ثم سَلوا الله لى الوسيلة، فإنها درجة فى الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لى الوسيلة حلت عليه الشفاعة‏)‏‏.‏