كما أنه لا يسوغ لأحد أن يحلف بمخلوق فلا يحلف على الله بمخلوق‏‏
 
فكما أنه لا يسوغ لأحد أن يحلف بمخلوق فلا يحلف على الله بمخلوق، ولا يسأله بنفس مخلوق، وإنما يسأل بالأسباب التى تناسب إجابة الدعاء كما تقدم تفصيله‏.‏
لكن قد روى فى جواز ذلك آثار وأقوال عن بعض أهل العلم، ولكن ليس فى المنقول عن النبى صلى الله عليه وسلم شىء ثابت بل كلها موضوعة‏.‏
وأما النقل عمن ليس قوله حجة فبعضه ثابت وبعضه ليس بثابت، والحديث الذى رواه أحمد وابن ماجه وفيه‏.‏ ‏(‏بحق السائلين عليك، وبحق ممشاى هذا‏)‏ رواه أحمد عن وكيع عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبى سعيد الخدرى، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من قال إذا خرج إلى الصلاة‏.‏ اللهم إنى أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاى هذا، فإنى لم أخرجه أشراً ولا بطراً، ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذنى من النار، وأن تدخلنى الجنة، وأن تغفر لى ذنوبى، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له، وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضى صلاته‏)‏‏.‏
وهذا الحديث هو من رواية عطية العوفى عن أبى سعيد، وهو ضعيف بإجماع أهل العلم، وقد روى من طريق آخر وهو ضعيف أيضًا، ولفظه لا حجة فيه، فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم وحق العابدين أن يثيبهم، وهو حق أحقه الله تعالى على نفسه الكريمة بوعده الصادق باتفاق أهل العلم، وبإيجابه على نفسه فى أحد أقوالهم، وقد تقدم بسط الكلام على ذلك‏.‏
وهذا بمنزلة الثلاثة الذين سألوه فى الغار بأعمالهم‏:‏ فإنه سأله هذا ببره العظيم لوالديه، وسأله هذا بعفته العظيمة عن الفاحشة، وسأله هذا بأدائه العظيم للأمانة؛ لأن هذه الأعمال أمر الله بها، ووعد الجزاء لأصحابها، فصار هذا كما حكاه عن المؤمنين بقوله‏.‏ ‏{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}‏ ‏[‏آل عمران‏.‏ 193‏]‏، وقال تعالى‏.‏ ‏{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ }‏ ‏[‏المؤمنون‏.‏ 109‏]‏، وقال تعالى‏.‏ ‏{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}‏ ‏[‏آل عمران‏.‏ 15، 16‏]‏‏.‏
وكان ابن مسعود يقول فى السحر‏.‏ اللهم دعوتنى فأجبت، وأمرتنى فأطعت، وهذا سحر فاغفر لي‏.‏
وأصل هذا الباب أن يقال‏:‏ الإقسام على الله بشىء من المخلوقات، أو السؤال له به، إما أن يكون مأمورًا به إيجابا أو استحبابًا، أو منهيا عنه نهى تحريم أو كراهة، أو مباحا لا مأموراً به ولا منهيا عنه‏.‏
وإذا قيل‏.‏ إن ذلك مأمور به أو مباح، فإما أن يفرق بين مخلوق ومخلوق أو يقال‏.‏ بل يشرع بالمخلوقات المعظمة أو ببعضها‏.‏ فمن قال‏.‏ إن هذا مأمور به أو مباح فى المخلوقات جميعها، لزم أن يسأل الله تعالى بشياطين الإنس والجن، فهذا لا يقوله مسلم‏.‏
فإن قال‏:‏ بل يسأل بالمخلوقات المعظمة كالمخلوقات التى أقسم بها فى كتابه، لزم من هذا أن يسأل بـ ‏{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 1 ـ 4‏]‏، ‏{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}‏ ‏[‏الشمس1 ـ 7‏]‏ ويسأل الله تعالى ويقسم عليه ‏{بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}‏‏[‏التكوير‏.‏15‏:‏ 18‏]‏، ويسأل بـ ‏{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}‏ ‏[‏الذاريات‏.‏ 1 ـ 4‏]‏، ويسأل بـ ‏{وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 1 ـ 6‏]‏ ويسأل ويقسم عليه بـ ‏{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا}‏ ‏[‏الصافات‏:‏1‏]‏ ، وسائر ما أقسم الله به فى كتابه‏.‏
فإن الله يقسم بما يقسم به من مخلوقاته؛ لأنها آياته ومخلوقاته‏.‏ فهى دليل على ربوبيته وألوهيته ووحدانيته وعلمه وقدرته ومشيئته ورحمته وحكمته وعظمته وعزته، فهو سبحانه يقسم بها؛ لأن إقسامه بها تعظيم له سبحانه‏.‏
ونحن المخلوقين ليس لنا أن نقسم بها بالنص والإجماع، بل ذكر غير واحد الإجماع على أنه لا يقسم بشىء من المخلوقات وذكروا إجماع الصحابة على ذلك، بل ذلك شرك منهى عنه‏.‏
ومن سأل الله بها، لزمه أن يسأله بكل ذكر وأنثى، وبكل نفس ألهمها فجورها وتقواها، ويسأله بالرياح، والسحاب، والكواكب، والشمس والقمر، والليل والنهار، والتين والزيتون، وطور سينين، ويسأله بالبلد الأمين مكة، ويسأله حينئذ بالبيت، والصفا والمروة، وعرفة، ومزدلفة، ومنى، وغير ذلك من المخلوقات، ويلزم أن يسأله بالمخلوقات التى عبدت من دون الله، كالشمس والقمر والكواكب والملائكة والمسيح والعزير وغير ذلك مما عبد من دون الله ومما لم يعبد من دونه‏.‏
ومعلوم أن السؤال لله بهذه المخلوقات أو الإقسام عليه بها من أعظم البدع المنكرة فى دين الإسلام، ومما يظهر قبحه للخاص والعام‏.‏
ويلزم من ذلك أن يقسم على الله تعالى بالأقسام والعزائم التى تكتب فى الحروز والهياكل التى تكتبها الطرقية والمعزمون، بل ويقال‏.‏ إذا جاز السؤال والإقسام على الله بها فعلى المخلوقات أولى، فحينئذ تكون العزائم والأقسام التى يقسم بها على الجن مشروعة فى دين الإسلام، وهذا الكلام يستلزم الكفر والخروج من دين الإسلام، بل ومن دين الأنبياء أجمعين‏.‏
وإن قال قائل‏.‏ بل أنا أسأله أو أقسم عليه بمعظم دون معظم من المخلوقات، إما الأنبياء دون غيرهم أو نبى دون غيره، كما جوز بعضهم الحلف بذلك، أو بالأنبياء والصالحين دون غيرهم‏.‏
قيل له‏.‏ بعض المخلوقات، وإن كان أفضل من بعض، فكلها مشتركة فى أنه لا يجعل شىء منها نداً لله تعالى، فلا يعبد ولا يتوكل عليه ولا يخشى ولا يتقى ولا يصام له ولا يسجد له ولا يرغب إليه، ولا يقسم بمخلوق، كما ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليصمت‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏لا تحلفوا إلا بالله‏)‏، وفى السنن عنه أنه قال‏.‏ ‏(‏من حلف بغير الله فقد أشرك‏)‏‏.