الرد على من قال أن النبي لا يشفع لأهل الكبائر من أمته ‏‏
 
ولا نزاع بين جماهير الأمة أنه يجوز أن يشفع لأهل الطاعة المستحقين للثواب‏.‏ ولكن كثيرًا من أهل البدع والخوارج والمعتزلة أنكروا شفاعته لأهل الكبائر، فقالوا‏:‏ لا يشفع لأهل الكبائر، بناء على أن أهل الكبائر عندهم لا يغفر الله لهم ولا يخرجهم من النار بعد أن يدخلوها لا بشفاعة ولا غيرها، ومذهب الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وسائر أهل السنة والجماعة أنه صلى الله عليه وسلم يشفع فى أهل الكبائر، وأنه لا يخلد فى النار من أهل الإيمان أحد؛ بل يخرج من النار من فى قلبه مثقال حبة من إيمان أو مثقال ذرة من إيمان‏.‏
لكن هذا الاستسقاء والاستشفاع والتوسل به وبغيره كان يكون فى حياته، بمعنى أنهم يطلبون منه الدعـاء فيدعـو لهـم، فكان توسـلهم بدعائـه، والاستشفاع به طلـب شفاعته، والشفاعة دعاء‏.‏
فأما التوسل بذاته فى حضوره أو مغيبه أو بعد موته ـ مثل الإقسام بذاته أو بغيره من الأنبياء أو السؤال بنفس ذواتهم لا بدعائهم ـ فليس هذا مشهورًا عند الصحابة والتابعين، بل عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبى سفيان ومن بحضرتهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان لما أجدبوا استسقوا وتوسلوا واستشفعوا بمن كان حيًا كالعباس وكيزيد ابن الأسود، ولم يتوسلوا ولم يستشفعوا ولم يستسقوا فى هذه الحال بالنبى صلى الله عليه وسلم لا عند قبره ولا غير قبره، بل عدلوا إلى البدل كالعباس وكيزيد، بل كانوا يصلون عليه فى دعائهم، وقد قال عمر‏:‏ اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا‏.‏ فجعلوا هذا بدلاً عن ذلك لما تعذر أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذى كانوا يفعلونه، وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به، ويقولوا فى دعائهم فى الصحراء بالجاه ونحو ذلك من الألفاظ التى تتضمن القسم بمخلوق على الله عز وجل أو السؤال به، فيقولون‏:‏ نسألك أو نقسم عليك بنبيك أو بجاه نبيك، ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس‏.‏
وروى بعض الجهال عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ إذا سألتم الله فاسألوه بجاهى، فإن جاهى عند الله عظيم، وهذا الحديث كذب ليس فى شىء من كتب المسلمين التى يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث، مع أن جاهه عند الله تعالى أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين، وقد أخبرنا سبحانه عن موسى وعيسى ـ عليهما السلام ـ أنهما وجيهان عند الله، فقال تعالى‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا}‏‏[‏الأحزاب‏:‏ 69‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}‏‏[‏آل عمران‏:‏ 45‏]‏‏.‏
فإذا كان موسى وعيسى وجيهين عند الله عز وجل، فكيف بسيد ولد آدم صاحب المقام المحمود الذى يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب الكوثر والحوض المورود الذى آنيته عدد نجوم السماء، وماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، ومن شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا‏؟‏
وهو صاحب الشفاعة يوم القيامة حين يتأخر عنها آدم، وأولو العزم‏:‏ نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ويتقدم هو إليها، وهو صاحب اللواء، آدم ومن دونه تحت لوائه، وهو سيد ولد آدم وأكرمهم على ربه عز وجل، وهو إمام الأنبياء إذا اجتمعوا، وخطيبهم إذ وفدوا، ذو الجاه العظيم صلى الله عليه وسلم وعلى آله‏.‏
ولكن جاه المخلوق عند الخالق تعالى ليس كجاه المخلوق عند المخلوق، فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه‏:‏‏{إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا}‏‏[‏مريم‏:‏ 93، 94‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا}‏‏[‏النساء‏:‏ 172، 173‏]‏‏.‏
والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه فهو شريك له فى حصول المطلوب، والله تعالى لا شريك له، كما قال سبحانه‏:‏ ‏{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}‏‏[‏سبأ‏:‏ 22، 23‏]‏‏.‏