اتفق العلماءعلى أنه لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى‏‏
 
وقد اتفق العلماء على أنه لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى، وهو الحلف بالمخلوقات، فلو حلف بالكعبة، أو بالملائكة، أو بالأنبياء أو بأحد من الشيوخ، أو بالملوك لم تنعقد يمينه، ولا يشرع له ذلك، بل ينهى عنه، إما نهى تحريم، وإما نهى تنزيه‏.‏ فإن للعلماء فى ذلك قولين‏.‏ والصحيح أنه نهى تحريم‏.‏ ففى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليصمت‏)‏، وفى الترمذى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من حلف بغير الله فقد أشرك‏)‏، ولم يقل أحد من العلماء المتقدمين‏:‏ إنه تنعقد اليمين بأحد من الأنبياء إلا فى نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن عن أحمد روايتين فى أنه تنعقد اليمين به، وقد طرد بعض أصحابه ـ كابن عقيل ـ الخلاف فى سائر الأنبياء وهذا ضعيف‏.‏
وأصل القول بانعقاد اليمين بالنبى ضعيف شاذ ولم يقل به أحد من العلماء فيما نعلم، والذى عليه الجمهور كمالك والشافعى وأبى حنيفة أنه لا تنعقد اليمين به كإحدى الروايتين عن أحمد، وهذا هو الصحيح‏.‏
وكذلك الاستعاذة بالمخلوقات، بل إنما يستعاذ بالخالق تعالى وأسمائه وصفاته، ولهذا احتج السلف ـ كأحمد وغيره ـ على أن كلام الله غير مخلوق فيما احتجوا به بقول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أعوذ بكلمات الله التامات‏)‏، قالوا‏:‏ فقد استعاذ بها، ولا يستعاذ بمخلوق‏.‏
وفى الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا‏)‏، فنهى عن الرقى التى فيها شرك، كالتى فيها استعاذة بالجن كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}‏‏[‏الجن‏:‏ 6‏]‏‏.‏
ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والأقسام التى يستعملها بعض الناس فى حق المصروع وغيره، التى تتضمن الشرك، بل نهوا عن كل ما لا يعرف معناه من ذلك؛ خشية أن يكون فيه شرك، بخلاف ما كان من الرقى المشروعة، فإنه جائز‏.‏ فإذًا لا يجوز أن يقسم لا قسمًا مطلقًا، ولا قسمًا على غيره إلا بالله عز وجل، ولا يستعيذ إلا بالله عز وجل‏.‏
والسائل لله بغير الله إما أن يكون مقسمًا عليه، وإما أن يكون طالبًا بذلك السبب، كما توسل الثلاثة فى الغار بأعمالهم، وكما يتوسل بدعاء الأنبياء والصالحين‏.‏
/فإن كان إقسامًا على الله بغيره فهذا لا يجوز‏.‏
وإن كان سؤالا بسبب يقتضى المطلوب كالسؤال بالأعمال التى فيها طاعة لله ورسوله، مثل السؤال بالإيمان بالرسول ومحبته، وموالاته ونحو ذلك فهذا جائز‏.‏
وإن كان سؤالا بمجرد ذات الأنبياء والصالحين فهذا غير مشروع، وقد نهى عنه غير واحد من العلماء وقالوا‏:‏ إنه لا يجوز، ورخص فيه بعضهم، والأول أرجح كما تقدم، وهو سؤال بسبب لا يقتضى حصول المطلوب، بخلاف من كان طالبًا بالسبب المقتضى لحصول المطلوب، كالطلب منه سبحانه بدعاء الصالحين، وبالأعمال الصالحة، فهذا جائز؛ لأن دعاء الصالحين سبب لحصول مطلوبنا الذى دعوا به، وكذلك الأعمال الصالحة سبب لثواب الله لنا، وإذا توسلنا بدعائهم وأعمالنا كنا متوسلين إليه تعالى بوسيلة، كما قال تعالى‏:‏‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}‏‏[‏المائدة‏:‏35‏]‏ والوسيلة هى الأعمال الصالحة، وقال تعالى‏:‏ ‏{أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}‏‏[‏الإسراء‏:‏ 57‏]‏‏.‏
وأما إذا لم نتوسل إليه سبحانه بدعائهم ولا بأعمالنا، ولكن توسلنا بنفس ذواتهم، لم يكن نفس ذواتهم سببًا يقتضى إجابة دعائنا، فكنا متوسلين بغير وسيلة، ولهذا لم يكن هذا منقولا عن النبى صلى الله عليه وسلم نقلا صحيحًا، ولا مشهورًا عن السلف‏.‏
وقد نقل فى ‏[‏منسك المروذى‏]‏ عن أحمد دعاء فيه سؤال بالنبى صلى الله عليه وسلم، وهذا قد يخرج على إحدى الروايتين عنه فى جواز القسم به، /وأكثر العلماء على النهى فى الأمرين، ولا ريب أن لهم عند الله الجاه العظيم ـ كما قال تعالى فى حق موسى وعيسى، عليهما السلام، وقد تقدم ذكر ذلك ـ لكن ما لهم عند الله من المنازل والدرجات أمر يعود نفعه إليهم، ونحن ننتفع من ذلك باتباعنا لهم ومحبتنا لهم؛ فإذا توسلنا إلى الله تعالى بإيماننا بنبيه ومحبته وموالاته واتباع سنته فهذا من أعظم الوسائل‏.‏ وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته فلا يجوز أن يكون وسيلة، فالمتوسل بالمخلوق إذا لم يتوسل بالإيمان بالمتوسل به ولا بطاعته فبأى شىء يتوسل ‏؟‏
والإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة، فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك، مثل أن يقال لأبى الرجل أو صديقه أو من يكرم عليه‏:‏ اشفع لنا عنده، وهذا جائز‏.‏ وإما أن يقسم عليه، كما يقول‏:‏ بحياة ولدك فلان، وبتربة أبيك فلان، وبحرمة شيخك فلان ونحو ذلك، والإقسام على الله تعالى بالمخلوقين لا يجوز، ولا يجوز الإقسام على مخلوق بمخلوق‏.‏
وإما أن يسأل بسبب يقتضى المطلوب، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ}‏‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏، وسيأتى بيان ذلك‏.‏
وقد تبين أن الإقسام على الله سبحانه بغيره لا يجوز، ولا يجوز أن يقسم بمخلوق أصلاً، وأما التوسل إليه بشفاعة المأذون لهم فى الشفاعة فجائز، والأعمى كان قد طلب من النبى صلى الله عليه وسلم أن يدعو له كما طلب الصحابة منه الاستسقاء، وقوله‏:‏ ‏(‏أتوجه إليك بنبيك محمد نبى الرحمة‏)‏ أى بدعائه وشفاعته لى، ولهذا تمام الحديث‏:‏ ‏(‏اللهم فشفعه فى‏)‏‏.‏ فالذى فى الحديث متفق على جوازه، وليس هو مما نحن فيه، وقد قال تعالى‏:‏‏{وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ}‏‏.‏
فعلى قراءة الجمهور بالنصب‏:‏ إنما يسألون بالله وحده، لا بالرحم، وتساؤلهم بالله تعالى يتضمن إقسام بعضهم على بعض بالله، وتعاهدهم بالله‏.‏
وأما على قراءة الخفض، فقد قال طائفة من السلف‏:‏ هو قولهم‏:‏ أسألك بالله وبالرحم، وهذا إخبار عن سؤالهم، وقد يقال‏:‏ إنه ليس بدليل على جوازه، فإن كان دليلا على جوازه، فمعنى قوله‏:‏ أسألك بالرحم، ليس إقسامًا بالرحم ـ والقسم هنا لا يسوغ ـ لكن بسبب الرحم، أى لأن الرحم توجب لأصحابها بعضهم على بعض حقوقًا، كسؤال الثلاثة لله تعالى بأعمالهم الصالحة، وكسؤالنا بدعاء النبى صلى الله عليه وسلم وشفاعته‏.‏
ومن هذا الباب‏:‏ ما روى عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب؛ أن ابن أخيه عبد الله ابن جعفر كان إذا سأل بحق جعفر أعطاه، وليس هذا من باب الإقسام، فإن الإقسام بغير جعفر أعظم، بل من باب حق الرحم؛ لأن حق الله إنما وجب بسبب جعفر، وجعفر حقه على علىٍّ‏.‏
ومن هذا الباب‏:‏ الحديث الذى رواه ابن ماجه عن أبى سعيد عن النبى صلى الله عليه وسلم فى دعاء الخارج إلى الصلاة‏:‏ ‏(‏اللهم إنى أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاى هذا، فإنى لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رِياءً ولا سُمْعة، ولكن خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذنى من النار، وأن تغفر لى ذنوبى، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏)‏، وهذا الحديث فى إسناده عطية العوفى وفيه ضعف، فإن كان من كلام النبى صلى الله عليه وسلم فهو من هذا الباب لوجهين ‏:‏
أحدهما‏:‏ لأن فيه السؤال لله تعالى بحق السائلين، وبحق الماشين فى طاعته، وحق السائلين أن يجيبهم، وحق الماشين أن يثيبهم، وهذا حق أوجبه الله تعالى، وليس للمخلوق أن يوجب على الخالق تعالى شيئًا‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}‏‏[‏الأنعام‏:‏54‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}‏‏[‏الروم‏:‏47‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ}‏‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏‏.‏
وفى الصحيح فى حديث معاذ‏:‏ ‏(‏حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ألا يعذبهم‏)‏‏.‏
وفى الصحيح عن أبى ذر عن النبى صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال‏:‏ ‏(‏يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا‏)‏‏.‏
وإذا كان حق السائلين والعابدين له هو الإجابة والإثابة بذلك فذاك سؤال لله بأفعاله؛ كالاستعاذة بنحو ذلك فى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك‏)‏، فالاستعاذة بمعافاته التى هى فعله، كالسؤال بإثابته التى هى فعله‏.‏
وروى الطبرانى فى ‏[‏كتاب الدعاء‏]‏ عن النبى صلى الله عليه وسلم أن الله يقول‏:‏ ‏(‏يا عبدى إنما هى أربع‏:‏ واحدة لى، وواحدة لك، وواحدة بينى وبينك، وواحدة بينك وبين خلقى؛ فالتى لى أن تعبدنى لا تشرك بى شيئًا، والتى هى لك أجزيك بها أحوج ما تكون إليه، والتى بينى وبينك منك الدعاء ومنى الإجابة، والتى بينك وبين خلقى فأت إلى الناس ما تحب أن يأتوه إليك‏)‏‏.‏
وتقسيمه فى الحديث إلى قوله‏:‏ واحدة لى، وواحدة لك، هو مثل تقسيمه فى حديث الفاتحة، حيث يقول الله تعالى‏:‏ ‏(‏قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين؛ نصفها لى، ونصفها لعبدى، ولعبدى ما سأل‏)‏، والعبد يعود عليه نفع النصفين، والله تعالى يحب النصفين؛ لكن هو سبحانه يحب أن يعبد، وما يعطيه العبد من الإعانة، والهداية هو وسيلة إلى ذلك فإنما يحبه لكونه طريقًا إلى عبادته، والعبد يطلب ما يحتاج إليه أولا، وهو محتاج إلى الإعانة على العبادة، والهداية إلى الصراط المستقيم، وبذلك يصل إلى العبادة، إلى غير ذلك مما يطول الكلام فيما يتعلق بذلك وليس هذا موضعه، وإن كنا خرجنا عن المراد‏.‏
الوجه الثانى‏:‏ أن الدعاء له سبحانه وتعالى، والعمل له سبب لحصول مقصود العبد، فهو كالتوسل بدعاء النبى صلى الله عليه وسلم والصالحين من أمته، وقد تقدم أن الدعاء بالنبى صلى الله عليه وسلم والصالح إما أن يكون إقسامًا به، أو سببًا به، فإن كان قوله‏:‏ ‏(‏بحق السائلين عليك‏)‏ إقسامًا فلا يقسم على الله إلا به، وإن كان سببًا فهو سبب بما جعله هو سبحانه سببًا، وهو دعاؤه وعبادته‏.‏ فهذا كله يشبه بعضه بعضًا، وليس فى شىء من ذلك دعاء له بمخلوق من غير دعاء منه، ولا عمل صالح منا‏.‏
وإذا قال السائل‏:‏ أسألك بحق الملائكة، أو بحق الأنبياء، وحق الصالحين، ولا يقول لغيره‏:‏ أقسمت عليك بحق هؤلاء‏.‏ فإذا لم يجز له أن يحلف به، ولا يقسم على مخلوق به، فكيف يقسم على الخالق به ‏؟‏ وإن كان لا يقسم به وإنما يتسبب به، فليس فى مجرد ذوات هؤلاء سبب يوجب تحصيل مقصوده، ولكن لابد من سبب منه، كالإيمان بالملائكة والأنبياء، أو منهم كدعائهم‏.‏ ولكن كثيرًا من الناس تعودوا ذلك كما تعودوا الحلف بهم، حتى يقول أحدهم‏:‏ وحقك على الله، وحق هذه الشيبة على الله‏.‏
وإذا قال القائل‏:‏ أسألك بحق فلان، أو بجاهه، أى أسألك بإيمانى به، ومحبتى له، وهذا من أعظم الوسائل‏.‏ قيل‏:‏ من قصد هذا المعنى، فهو معنى صحيح لكن ليس هذا مقصود عامة هؤلاء، فمن قال‏:‏ أسألك بإيمانى بك وبرسولك ونحو ذلك، أو بإيمانى برسولك، ومحبتى له ونحو ذلك، فقد أحسن فى ذلك كما قال تعالى فى دعاء المؤمنين‏:‏ ‏{رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ}‏‏[‏آل عمران‏:‏ 193‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}‏‏[‏آل عمران‏:‏ 16‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}‏‏[‏المؤمنون‏:‏ 109‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}‏‏[‏آل عمران‏:‏ 53‏]‏‏.‏
وكان ابن مسعود يقول‏:‏ اللهم أمرتنى فأطعت، ودعوتنى فأجبت، وهذا سحر فاغفر لى‏.‏ ومن هذا الباب حديث الثلاثة الذين أصابهم المطر، فآووا إلى الغار، وانطبقت عليهم الصخرة، ثم دعوا الله سبحانه بأعمالهم الصالحة، ففرج عنهم وهو ما ثبت فى الصحيحين‏.‏
وقال أبو بكر بن أبى الدنيا‏:‏ حدثنا خالد بن خراش العجلانى وإسماعيل بن إبراهيم، قالا‏:‏ حدثنا صالح المرى عن ثابت عن أنس قال‏:‏ دخلنا على رجل من الأنصار وهو مريض ثقيل، فلم نبرح حتى قبض، فبسطنا عليه ثوبه، وله أم عجوز كبيرة عند رأسه، فالتفت إليها بعضنا وقال‏:‏ يا هذه احتسبى مصيبتك عند الله‏.‏ قالت‏:‏ وما ذاك، مات ابنى ‏؟‏ قلنا‏:‏ نعم‏.‏ قالت‏:‏ أحق ما تقولون ‏؟‏ قلنا‏:‏ نعم‏.‏ فمدت يديها إلى الله فقالت‏:‏ اللهم إنك تعلم أنى أسلمت وهاجرت إلى رسولك رجاء أن تعقبنى عند كل شدة فرجا، فلا تحمل علىَّ هذه المصيبة اليوم‏.‏ قال‏:‏ فكشفت الثوب عن وجهه، فما برحنا حتى طعمنا معه ‏!‏
وروى فى كتاب الحلية لأبى نعيم أن داود قال‏:‏ بحق آبائى عليك، إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأوحى الله تعالى إليه‏:‏ يا داود، وأى حق لآبائك على ‏؟‏ وهذا وإن لم يكن من الأدلة الشرعية فالإسرائيليات بعتضد بها، ولا يعتمد عليها‏.‏
/وقد مضت السنة أن الحى يطلب منه الدعاء كما يطلب منه سائر ما يقدر عليه‏.‏
وأما المخلوق الغائب والميت، فلا يطلب منه شىء‏.‏ يحقق هذا الأمر أن التوسل به والتوجه به لفظ فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه فى لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة، فيكونون متوسلين ومتوجهين بدعائه وشفاعته؛ ودعاؤه وشفاعته صلى الله عليه وسلم من أعظم الوسائل عند الله عز وجل‏.‏
وأما فى لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى ويقسم عليه بذاته، والله تعالى لا يقسم عليه بشىء من المخلوقات، بل لا يقسم بها بحال، فلا يقال‏:‏ أقسمت عليك يا رب بملائكتك، ولا بكعبتك، ولا بعبادك الصالحين، كما لا يجوز أن يقسم الرجل بهذه الأشياء، بل إنما يقسم بالله تعالى بأسمائه وصفاته، ولهذا كانت السنة أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته فيقول‏:‏ ‏(‏أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، يا حى يا قيوم، وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك‏)‏، الحديث كما جاءت به السنة‏.‏
وأما أن يسأل الله ويقسم عليه بمخلوقاته فهذا لا أصل له فى دين الإسلام، وكذلك قوله‏:‏ ‏(‏اللهم إنى أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك وباسمك الأعظم، وجدك الأعلى، وبكلماتك التامات‏)‏‏.‏
/مع أن هذا الدعاء الثالث فى جواز الدعاء به قولان للعلماء، قال الشيخ أبو الحسن القدورى فى كتابه المسمى بشرح الكرخى‏:‏ قال بشر بن الوليد‏:‏ سمعت أبا يوسف قال‏:‏ قال أبو حنيفة‏:‏ لا ينبغى لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول‏:‏ ‏(‏بمعاقد العز من عرشك‏)‏ أو ‏(‏بحق خلقك‏)‏‏.‏ وهو قول أبى يوسف‏.‏ قال أبو يوسف‏:‏ ‏[‏معقد العز من عرشه‏]‏ هو الله فلا أكره هذا وأكره أن يقول‏:‏ ‏(‏بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام‏)‏، قال القدورى‏:‏ المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، فلا يجوز ـ يعنى وفاقًا ـ وهذا من أبى حنيفة وأبى يوسف وغيرهما يقتضى المنع أن يسأل الله بغيره‏.‏
فإن قيل‏:‏ الرب ـ سبحانه وتعالى ـ يقسم بما شاء من مخلوقاته، وليس لنا أن نقسم عليه إلا به‏.‏ فهلا قيل‏:‏ يجوز أن يقسم عليه بمخلوقاته، وألا يقسم على مخلوق إلا بالخالق تعالى ‏؟‏ قيل‏:‏ لا؛ لأن إقسامه بمخلوقاته من باب مدحه والثناء عليه وذكر آياته، وإقسامنا نحن بذلك شرك إذا أقسمنا به لحض غيرنا أو لمنعه أو تصديق خبر أو تكذيبه‏.‏
ومن قال لغيره‏:‏ أسألك بكذا‏.‏ فإما أن يكون مقسمًا فهذا لا يجوز بغير الله تعالى‏:‏ والكفارة فى هذا على المقسم لا على المقسم عليه، كما صرح بذلك أئمة الفقهاء‏.‏ وإن لم يكن مقسمًا فهو من باب السؤال، فهذا لا كفارة فيه على واحد منهما‏.‏
فتبين أن السائل لله بخلقه إما أن يكون حالفًا بمخلوق، وذلك لا يجوز‏.‏ وإما أن يكون سائلاً به، وقد تقدم تفصيل ذلك‏.‏ وإذا قال‏:‏ ‏(‏بالله افعل كذا‏)‏ فلا كفارة فيه على واحد منهما، وإذا قال‏:‏ ‏(‏أقسمت عليك بالله لتفعلن‏)‏ أو ‏(‏والله لتفعلن‏)‏ فلم يبر قسمه لزمت الكفارة الحالف‏.‏
والذى يدعو بصيغة السؤال فهو من باب السؤال به، وأما إذا أقسم على الله تعالى مثل أن يقول‏:‏ أقسمت عليك يارب لتفعلن كذا، كما كان يفعل البراء بن مالك وغيره من السلف، فقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏رب أشعث أغبر ذى طِمريْن ‏[‏الطِّمْر‏:‏ الثواب البالى‏.‏ انظر‏:‏ النهاية فى غريب الحديث 3/138‏]‏‏.‏، مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره‏)‏‏.‏ وفى الصحيح أنه قال ـ لما قال أنس بن النضر‏:‏ والذى بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيع ـ فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا أنس، كتاب الله القصاص‏)‏ فعفا القوم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره‏)‏، وهذا من باب الحلف بالله لتفعلن هذا الأمر، فهو إقسام عليه تعالى به وليس إقسامًا عليه بمخلوق‏.‏
وينبغى للخلق أن يدعوا بالأدعية الشرعية التى جاء بها الكتاب والسنة، فإن ذلك لا ريب فى فضله وحسنه، وأنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا‏.‏
وقد تقدم أن ما يذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا كانت لكم حاجة فاسألوا الله بجاهى‏)‏ حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو فى شىء من كتب الحديث، وإنما المشروع الصلاة عليه فى كل دعاء‏.‏
ولهذا لما ذكر العلماء الدعاء فى الاستسقاء وغيره ذكروا الصلاة عليه، لم يذكروا فيما شرع للمسلمين فى هذه الحال التوسل به، كما لم يذكر أحد من العلماء دعا غير الله والاستعانة المطلقة بغيره فى حال من الأحوال، وإن كان بينهما فرق؛ فإن دعاء غير الله كفر؛ ولهذا لم ينقل دعاء أحد من الموتى والغائبين ـ لا الأنبياء ولا غيرهم ـ عن أحد من السلف وأئمة العلم، وإنما ذكره بعض المتأخرين ممن ليس من أئمة العلم المجتهدين، بخلاف قولهم‏:‏ أسألك بجاه نبينا أو بحقه، فإن هذا مما نقل عن بعض المتقدمين فعله، ولم يكن مشهورًا بينهم، ولا فيه سنة عن النبى صلى الله عليه وسلم، بل السنة تدل على النهى كما نقل ذلك عن أبى حنيفة وأبى يوسف وغيرهما‏.‏
ورأيت فى فتاوى الفقيه أبى محمد بن عبد السلام قال‏:‏ لا يجوز أن يتوسل إلى الله بأحد من خلقه إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم إن صح حديث الأعمى فلم يعرف صحته، ثم رأيت عن أبى حنيفة، وأبى يوسف وغيرهما من العلماء، أنهم قالوا‏:‏ لا يجوز الإقسام على الله بأحد الأنبياء، ورأيت فى كلام الإمام أحمد أنه فى النبى صلى الله عليه وسلم، لكن قد يخرج على إحدى الروايتين عنه فى جواز الحلف به‏.‏ وقد تقدم أن هذا الحديث لا يدل إلا على التوسل بدعائه، ليس من باب الإقسام بالمخلوق على الله تعالى، ولا من باب السؤال بذات الرسول كما تقدم‏.‏ والذين يتوسلون بذاته لقبول الدعاء عدلوا عما أمروا به وشرع لهم ـ وهو من أنفع الأمور لهم ـ إلى ما ليس كذلك، فإن الصلاة عليه من أعظم الوسائل التى بها يستجاب الدعاء وقد أمر الله بها‏.‏
والصلاة عليه فى الدعاء هو الذى دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}‏‏[‏الأحزاب‏:‏ 56‏]‏‏.‏
/وفى الصحيح عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏من صلى علىَّ مرة صلى الله عليه عشرًا‏)‏، وعن فضالة بن عبيد ـ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو فى صلاته لم يحمد الله، ولم يصلى على النبى صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عجل هذا ‏!‏‏"‏ ثم دعاه فقال له أو لغيره‏:‏ ‏(‏إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد ربه، ثم يصلى على النبى، ثم يدعو بعده بما شاء‏)‏ رواه أحمد وأبو داود ـ وهذا لفظه ـ والترمذى والنسائى‏.‏ وقال الترمذى‏:‏ حديث صحيح‏.‏
وفى صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علىَّ؛ فإنه من صلى على صلاة صلى الله عليه عشرًا، ثم سلوا الله لى الوسيلة فإنها درجة فى الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لى الوسيلة حلت عليه الشفاعة‏)‏‏.‏
وفى سنن أبى داود والنسائى عنه أن رجلا قال‏:‏ يا رسول الله ،إن المؤذنين يفضلوننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قل كما يقولون ،فإذا انتهيت سل تعطه‏)‏‏.‏ وفى المسند عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ ‏(‏من قال حين ينادى المنادى‏:‏ اللهم رب هذه الدعوة القائمة، والصلاة النافعة صل على محمد وارض عنه، رضاء لا سخط بعده، استجاب الله له دعوته‏)‏‏.‏
وعن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة رواه أحمد وأبو داود والترمذى والنسائى وقال الترمذى‏:‏ حديث حسن‏.‏
وعن سهل بن سعد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء قلما ترد على داع دعوته‏:‏ عند حصول النداء ،والصف فى سبيل الله‏)‏ رواه أبو داود‏.‏
وفى المسند والترمذى وغيرهما عن الطفيل بن أبى بن كعب عن أبيه قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام فقال‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه‏)‏‏.‏
قال أبىّ‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله ،إنى أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتى ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ما شئت‏)‏ قلت‏:‏ الربع ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ما شئت، وإن زدت فهو خير لك‏)‏ قلت‏:‏ النصف ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ما شئت، وإن زدت فهو خير لك‏)‏ قلت‏:‏ الثلثين ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ما شئت، وإن زدت فهو خير لك‏)‏ قلت‏:‏ أجعل لك صلاتى كلها ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إذًا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك‏)‏ وفى لفظ‏:‏ ‏(‏إذا تكفى همك، ويغفر ذنبك‏)‏‏.‏
وقول السائل‏:‏ أجعل لك من صلاتى ‏؟‏ يعنى من دعائى؛ فإن الصلاة فى اللغة هى الدعاء، قال تعالى‏:‏ ‏{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ}‏‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏‏.‏
وقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم صل على آل أبى أوفى‏)‏، وقالت امرأة‏:‏ صل علىّ يا رسول الله وعلى زوجى، فقال‏:‏ ‏(‏صلى الله عليك وعلى زوجك‏)‏‏.‏
فيكون مقصود السائل‏:‏ أى يا رسول الله إن لى دعاء أدعو به أستجلب به الخير وأستدفع به الشر، فكم أجعل لك من الدعاء ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ما شئت‏)‏ فلما انتهى إلى قوله‏:‏ أجعل لك صلاتى كلها ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إذًا تكفى همك ويغفر ذنبك‏)‏‏.‏ وفى الرواية الأخرى‏:‏ ‏(‏إذًا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك‏)‏ ،وهذا غاية ما يدعو به الإنسان من جلب الخيرات ودفع المضرات؛ فإن الدعاء فيه تحصيل المطلوب، واندفاع المرهوب، كما بسط ذلك فى مواضعه‏.‏
وقد ذكر علماء الإسلام وأئمة الدين الأدعية الشرعية، وأعرضوا عن الأدعية البدعية، فينبغى اتباع ذلك‏.‏ والمراتب فى هذا الباب ثلاث ‏:‏
إحداها‏:‏ أن يدعو غير الله وهو ميت أو غائب، سواء كان من الأنبياء والصالحين أو غيرهم فيقول‏:‏ يا سيدى فلان، أغثنى، أو أنا أستجير بك، أو أستغيث بك، أو انصرنى على عدوى، ونحو ذلك فهذا هو الشرك بالله‏.‏ والمستغيث بالمخلوقات قد يقضى الشيطان حاجته أو بعضها، وقد يتمثل له فى صورة الذى استغاث به، فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به، وإنما هو شيطان دخله وأغواه لما أشرك بالله، كما يتكلم الشيطان فى الأصنام وفى المصروع وغير ذلك، ومثل هذا واقع كثيرًا فى زماننا وغيره، وأعرف من ذلك ما يطول وصفه فى قوم استغاثوا بى أو بغيرى، وذكروا أنه أتى شخص على صورتى أو صورة غيرى وقضى حوائجهم فظنوا أن ذلك من بركة الاستغاثة بى أو بغيرى ‏!‏ وإنما هو شيطان أضلهم وأغواهم وهذا هو أصل عبادة الأصنام واتخاذ الشركاء مع الله تعالى فى الصدر الأول من القرون الماضية كما ثبت ذلك، فهذا أشرك بالله نعوذ بالله من ذلك‏.‏
/وأعظم من ذلك يقول‏:‏ اغفر لي وتب عليّ، كما يفعله طائفة من الجهال المشركين‏.‏
وأعظم من ذلك أن يسجد لقبره ويصلي إليه ويرى الصلاة أفضل من استقبال القبلة، حتى يقول بعضهم‏:‏ هذه قبلة الخواص والكعبة قبلة العوام‏.‏
وأعظم من ذلك أن يرى السفر إليه من جنس الحج، حتى يقول‏:‏ إن السفر إليه مرات يعدل حجة، وغلاتهم يقولون‏:‏ الزيارة إليه مرة أفضل من حج البيت مرات متعددة‏.‏ ونحو ذلك، فهذا شرك بهم، وإن كان يقع كثير من الناس فى بعضه‏.‏
الثانية‏:‏ أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين‏:‏ ادع الله لى، أو ادع لنا ربك، أو اسأل الله لنا، كما تقول النصارى لمريم وغيرها ـ فهذا أيضًا لايستريب عالم أنه غير جائز ،وأنه من البدع التى لم يفعلها أحد من سلف الأمة؛ وإن كان السلام على أهل القبور جائز ومخاطبتهم جائزة كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم‏:‏ ‏(‏السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يغفر الله لنا ولكم، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ،ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم‏)‏‏.‏
وروى أبو عمر بن عبد البر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه فى الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام‏.‏
/وفى سنن أبى داود عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يسلم علىَّ إلا رد الله على روحى حتى أرد علىه السلام‏)‏، لكن ليس من المشروع أن يطلب من الأموات لا دعاء ولا غيره‏.‏ وفى موطأ مالك أن ابن عمر كان يقول‏:‏ السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت ثم ينصرف‏.‏
وعن عبد الله بن دينار قال‏:‏ رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبى صلى الله عليه وسلم، فيصلى على النبى صلى الله عليه وسلم، ويدعو لأبى بكر وعمر‏.‏ وكذلك أنس بن مالك وغيره نقل عنهم أنهم كانوا يسلمون على النبى صلى الله عليه وسلم، فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة يدعون الله تعالى، لا يدعون مستقبلى الحجرة، وإن كان قد وقع فى بعض ذلك طوائف من الفقهاء والصوفية والعامة من لا اعتبار بهم، فلم يذهب إلى ذلك إمام متبع فى قوله، ولا من له فى الأمة لسان صدق عام‏.‏
ومذهب الأئمة الأربعة ـ مالك وأبى حنيفة والشافعى وأحمد ـ وغيرهم من أئمة الإسلام أن الرجل إذا سلم على النبى صلى الله عليه وسلم وأراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة‏.‏ واختلفوا فى وقت السلام عليه، فقال الثلاثة ـ مالك والشافعى وأحمد‏:‏ يستقبل الحجرة ويسلم عليه من تلقاء وجهه، وقال أبوحنيفة‏:‏ لا يستقبل الحجرة وقت السلام، كما لا يستقبلها وقت الدعاء باتفاقهم‏.‏
ثم فى مذهبه قولان ‏:‏
قيل‏:‏ يستدبر الحجرة، وقيل يجعلها عن يساره‏.‏ فهذا نزاعهم فى وقت السلام، وأما فى وقت الدعاء فلم يتنازعوا فى أنه إنما يستقبل القبلة لا الحجرة‏.‏
والحكاية التى تذكر عن مالك أنه قال للمنصور لما سأله عن استقبال الحجرة فأمره بذلك وقال‏:‏ ‏(‏هو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم‏)‏ كذب على مالك ليس لها إسناد معروف، وهو خـلاف الثابت المنقول عنـه بأسـانيد الثقـات فى كتـب أصحابـه‏.‏ كمـا ذكـره إسـماعيل بن إسحـاق القاضـى وغيره، مثل ما ذكروا عنه أنه سئل عن أقوام يطيلون القيام مستقبلى الحجـرة يـدعون لأنفسـهم، فأنكـر مـالك ذلك، وذكـر أنه من البـدع، التى لـم يفعلها الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وقال‏:‏ لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها‏.‏
ولا ريب أن الأمر كما قاله مالك، فإن الآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين تبين أن هذا لم يكن من عملهم وعادتهم، ولو كان استقبال الحجرة عند الدعاء مشروعًا لكانوا هم أعلم بذلك، وكانوا أسبق إليه ممن بعدهم والداعى يدعو الله وحده‏.‏ وقد نهى عن استقبال الحجرة عند دعائه لله تعالى، كما نهى عن استقبال الحجرة عند الصلاة لله تعالى كما ثبت فى صحيح مسلم وغيره عن أبى مرثد الغنوى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها‏)‏‏.‏ فلا يجوز أن يصلى إلى شىء من القبور، لا قبور الأنبياء ولا غيرهم، لهذا الحديث الصحيح‏.‏ ولا خلاف بين المسلمين أنه لا يشرع أن يقصد الصلاة إلى القبر، بل هذا من البدع المحدثة، وكذلك قصد شىء من القبور، لا سيما قبور الأنبياء والصالحين عند الدعاء، فإذا لم يجز قصد استقباله عند الدعاء لله تعالى، فدعاء الميت نفسه أولى ألا يجوز، كما أنه لا يجوز أن يصلى مستقبله فلأن لا يجوز الصلاة له بطريق الأولى‏.‏
فعلم أنه لا يجوز أن يسأل الميت شيئًا‏:‏ لا يطلب منه أن يدعو الله له ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يشكى إليه شىء من مصائب الدنيا والدين، ولو جاز أن يشكى إليه ذلك فى حياته، فإن ذلك فى حياته لا يفضى إلى الشرك وهذا يفضى إلى الشرك؛ لأنه فى حياته مكلف أن يجيب سؤال من سأله لما له فى ذلك من الأجر والثواب، وبعد الموت ليس مكلفا، بل ما يفعله من ذكر لله تعالى ودعاء، ونحو ذلك ـ كما أن موسى يصلى فى قبره، وكما صلى الأنبياء خلف النبى صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ببيت المقدس، وتسبيح أهل الجنة والملائكة ـ فهم يمتعون بذلك، وهم يفعلون ذلك بحسب ما يسّره الله لهم ويقدره لهم، ليس هو من باب التكليف الذى يمتحن به العباد‏.‏
وحينئذ، فسؤال السائل للميت لا يؤثر فى ذلك شيئا، بل ماجعله الله فاعلا له هو يفعله وإن لم يسأله العبد؛ كما يفعل الملائكة ما يؤمرون به، وهم إنما يطيعون أمر ربهم لا يطيعون أمر مخلوق؛ كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}‏‏[‏الأنبياء‏:‏26، 27‏]‏، فهم لا يعملون إلا بأمره سبحانه وتعالى‏.‏ ولا يلزم من جواز الشىء فى حياته جوازه بعد موته، فإن بيته كانت الصلاة فيه مشروعة‏.‏ وكان يجوز أن يجعل مسجدًا‏.‏ ولما دفن فيه حرم أن يتخـذ مسـجدًا، كمـا فـى الصحيحـين عنـه صلى الله عليه وسلم أنـه قـال‏:‏ ‏(‏لعـن اللـه اليهود والنصـارى اتخـذوا قبـور أنبيائهم مسـاجد‏)‏‏.‏ يحـذر مـا فعلوا‏.‏ ولولا ذلك لأبـرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدًا‏.‏
وفى صحيح مسلم وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.‏ وقد كان صلى الله عليه وسلم فى حياته يصلى خلفه، وذلك من أفضل الأعمال، ولا يجوز بعد موته أن يصلى الرجل خلف قبره، وكذلك فى حياته يطلب منه أن يأمر، وأن يفتى وأن يقضى، ولا يجوز أن يطلب ذلك منه بعد موته‏.‏ وأمثال ذلك كثير‏.‏
وقد كره مالك وغيره أن يقول الرجل‏:‏ زرت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا اللفظ لم يرد‏.‏ والأحاديث المروية فى زيارة قبره كلها ضعيفة بل كذب‏.‏ وهذا اللفظ صار مشتركًا فى عرف المتأخرين يراد به ‏[‏الزيارة البدعية‏]‏‏:‏ التى فى معنى الشرك؛ كالذى يزور القبر ليسأله أو يسأل الله به، أو يسأل الله عنده‏.‏
/والزيارة الشرعية‏:‏ هى أن يزوره لله تعالى‏:‏ للدعاء له، والسلام عليه كما يصلى على جنازته‏.‏ فهذا الثانى هو المشروع، ولكن كثيرًا من الناس لا يقصد بالزيارة إلا المعنى الأول، فكره مالك أن يقول‏:‏ زرت قبره، لما فيه من إيهام المعنى الفاسد الذى يقصده أهل البدع والشرك‏.‏
الثالثة‏:‏ أن يقال‏:‏ أسألك بفلان، أو بجاه فلان عندك ونحو ذلك، الذى تقدم عن أبى حنيفة وأبى يوسف وغيرهما أنه منهى عنه‏.‏
وتقدم أيضًا أن هذا ليس بمشهور عن الصحابة، بل عدلوا عنه إلى التوسل بدعاء العباس وغيره
وقد تبين ما فى لفظ ‏[‏التوسل‏]‏ من الاشتراك بين ما كانت الصحابة تفعله وبين ما لم يكونوا يفعلونه، فإن لفظ التوسل والتوجه فى عرف الصحابة ولغتهم هو التوسل والتوجه بدعائه وشفاعته‏.‏
ولهذا يجوز أن يتوسل ويتوجه بدعاء كل مؤمن، وإن كان بعض الناس من المشايخ المتبوعين يحتج فيما يرويه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور‏)‏ ‏(‏أو فاستعينوا بأهل القبور‏)‏‏.‏ فهذا الحديث كذب مفترى على النبى صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه، ولم يروه أحد من العلماء بذلك، ولا يوجد فى شىء من كتب الحديث المعتمدة‏.‏
/وقد قال تعالى‏:‏‏{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا}‏‏[‏الفرقان‏:‏ 58‏]‏، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه غير مشروع، وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم عما هو أقرب من ذلك ـ عن اتخاذ القبور مساجد ونحو ذلك ـ ولعن أهله تحذيرًا من التشبه بهم، فإن ذلك أصل عبادة الأوثان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}‏‏[‏نوح‏:‏ 23‏]‏‏.‏
فإن هؤلاء كانوا قومًا صالحين فى قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروهم، ثم اتخذوا الأصنام على صورهم، كما تقدم ذكر ذلك عن ابن عباس وغيره من علماء السلف‏.‏ فمن فهم معنى قوله‏:‏ ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}‏‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ عرف أنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله وحده وأنه يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه، وكذلك الاستغاثة لا تكون إلا بالله، والتوكل لا يكون إلا عليه ‏{وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ}‏‏[‏آل عمران‏:‏ 126، الأنفال‏:‏10‏]‏، فالنصر المطلق ـ وهو خلق ما يغلب به العدو ـ لا يقدر عليه إلا الله، وفى هذا القدر كفاية لمن هداه الله، والله أعلم‏.‏
وهذا الذى نهى عنه النبى صلى الله عليه وسلم من هذا الشرك هو كذلك فى شرائع غيره من الأنبياء‏:‏ ففى التوراة أن موسى ـ عليه السلام ـ نهى بنى إسرائيل عن دعاء الأموات وغير ذلك من الشرك، وذكر أن ذلك من أسباب عقوبة الله لمن فعله؛ وذلك أن دين الأنبياء عليهم السلام واحد وإن تنوعت شرائعهم، كما فى الصحيح عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنا معشر الأنبياء ديننا واحد‏)‏‏.‏
وقد قال تعالى‏:‏ ‏{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}‏‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}‏‏[‏المؤمنون‏:‏51‏:‏ 53‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}‏‏[‏الروم‏:‏30‏:‏ 32‏]‏ وهذا هو دين الإسلام الذى لا يقبل الله دينا غيره من الأولين والآخرين، كما قد بسط الكلام عليه فى غير هذا الموضع‏.