فصــل: في بعض ما يظهر به كفرهم وفساد قولهم وذلك من وجوه
 
فصــل‏:‏
في بعض ما يظهر به كفرهم، وفساد قولهم‏.‏ وذلك من وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن حقيقة قولهم‏:‏ أن الله لم يخلق شيئا، ولا ابتدعه، ولا برأه ولا صوره؛ لأنه إذا لم يكن وجود إلا وجوده، فمن الممتنع أن يكون خالقًا لوجود نفسه، أو بارئا لذاته، فإن العلم بذلك من أبين العلوم، وأبدهها للعقول، أن الشيء لا يخلق نفسه‏.‏
ولهذا قال سبحانه‏:‏ ‏{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏35‏]‏‏.‏ فإنهم يعلمون أنهم لم يكونوا مخلوقين من غير خالق، ويعلمون أن الشيء لا يخلق نفسه فتعين أن لهم خالقا‏.‏
وعند هؤلاء الكفار، الملاحدة الفرعونية‏:‏ أنه ما ثم شيء يكون الرب قد خلقه أو برأه، أو أبدعه إلا نفسه المقدسة، ونفسه المقدسة لا تكون إلا مخلوقة، مربوبة مصنوعة، مبروءة، لامتناع ذلك في بدائه العقول، وذلك من أظهر الكفر عند جميع أهل الملل والآراء‏.‏
وأما على رأي صاحب الفصوص‏:‏ فما ثم إلا وجوده، والذوات الثابتة في العدم الغنية عنه، ووجوده لا يكون مخلوقا، والذوات غنية عنه، فلم يخلق الله شيئا‏.‏
/الثاني‏:‏ أن عندهم أن الله ليس رب العالمين، ولا مالك الملك، إذ ليس إلا وجوده، وهو لا يكون رب نفسه، ولا يكون الملك المملوك هو الملك المالك، وقد صرحوا بهذا الكفر مع تناقضه، وقالوا‏:‏ إنه هو ملك الملك، بناء على أن وجوده مفتقر إلى ذوات الأشياء، وذوات الأشياء مفتقرة إلى وجوده، فالأشياء مالكة لوجوده، فهو ملك الملك‏.‏
الثالث‏:‏ أن عندهم أن الله لم يرزق أحدًا شيئا، ولا أعطى أحدًا شيئا، ولا رحم أحدًا، ولا أحسن إلى أحد، ولا هدى أحدًا، ولا أنعم على أحد نعمة، ولا علم أحدًا علما، ولا علم أحدًا البيان، وعندهم في الجملة‏:‏ لم يصل منه إلى أحد لا خير ولا شر، ولا نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا إضلال أصلا‏.‏ وأن هذه الأشياء جميعها عين نفسه، ومحض وجوده، فليس هناك غير يصل إليه، ولا أحد سواه ينتفع بها، ولا عبد يكون مرزوقا، أو منصورًا، أو مهديا‏.‏
ثم على رأى صاحب الفصوص‏:‏ أن هذه الذوات ثابتة في العدم، والذوات هي أحسنت وأساءت، ونفعت وضرت، وهذا عنده سر القدر‏.‏
وعلى رأي الباقين ما ثم ذات ثابتة غيره أصلا، بل هو ذام نفسه بنفسه، ولاعن نفسه بنفسه، وقاتل نفسه بنفسه، وهو المرزوق المضروب المشتوم، وهو الناكح والمنكوح، والآكل والمأكول، وقد صرحوا بذلك تصريحا بينًا‏.‏
الرابع‏:‏ أن عندهم أن الله هو الذي يركع ويسجد، ويخضع ويعبد، / ويصوم ويجوع، ويقوم وينام، وتصيبه الأمراض والأسقام، وتبتليه الأعداء ويصيبه البلاء، وتشتد به اللأواء، وقد صرحوا بذلك، وصرحوا بأن كل كرب يصيب النفوس فإنه هو الذي يصيبه الكرب، وأنه إذا نفس الكرب، فإنما يتنفس عنه؛ ولهذا كره بعض هؤلاء ـ الذين هم من أكفر خلق الله وأعظمهم نفاقا وإلحادًا وعتوًا على الله وعنادًا ـ أن يصبر الإنسان على البلاء؛ لأن عندهم أنه هو المصاب المبتلى‏.‏
وقد صرحوا بأنه موصوف بكل نقص وعيب، فإنه ما ثم من يتصف بالنقائص والعيوب غيره، فكل عيب ونقص، وكفر وفسوق في العالم، فإنه هو المتصف به، لا متصف به غيره، كلهم متفقون على هذا في الوجود‏.‏
ثم صاحب الفصوص يقول‏:‏ إن ذلك ثابت في العدم، وغيره يقول‏:‏ ما ثم سوى وجود الحق، الذي هو متصف بهذه المعايب والمثالب‏.‏
الخامس‏:‏ أن عندهم أن الذين عبدوا اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، والذين عبدوا ودًا، وسواعًا، ويغوث، ويعوق، ونسرًا، والذين عبدوا الشعرى، والنجم، والشمس، والقمر‏.‏ والذين عبدوا المسيح، وعزيرًا، والملائكة، وسائر من عبد الأوثان والأصنام‏:‏ من قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم فرعون، وبني إسرائيل، وسائر المشركين من العرب، ما عبدوا إلا الله، ولا يتصور أن يعبدوا غير الله، وقد صرحوا بذلك في مواضع كثيرة، مثل قول صاحب الفصوص في فص الكلمة النوحية‏:‏ /‏{‏وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏22‏]‏، لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو؛ لأنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية‏{‏أَدْعُو إِلَى اللّهِ‏}‏ فهذا عين المكر ‏{‏عَلَى بَصِيرَةٍ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏ ففيه أن الأمر له كله، فأجابوه مكرًا كما دعاهم ـ إلى أن قال‏:‏ فقالوا في مكرهم‏:‏ ‏{‏لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏23‏]‏ فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء، فإن للحق في كل معبود وجها خاصا، يعرفه من عرفه، ويجهله من جهله في المحمديين ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏23‏]‏ أي‏:‏ حكم، فالعالم يعلم من عبد، وفي أي صورةظهر حتى عبد، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية‏.‏ فما عبد غير الله في كل معبود، فالأدنى من تخيل فيه الألوهية، فلولا هذا التخيل ما عبد الحجر ولا غيره؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ سَمُّوهُمْ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏33‏]‏ فلو سموهم لسموهم حجرًا وشجرًا وكوكبًا‏.‏ ولو قيل لهم‏:‏ من عبدتم‏؟‏ لقالوا‏:‏ إلها واحدًا، ما كانوا يقولون‏:‏ الله ولا الإله، إلا على ما تخيل، بل قال‏:‏ هذا مجلى إلهي ينبغي تعظيمه فلا يقتصر، فالأدنى صاحب التخيل يقول‏:‏ ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏3‏]‏، والأعلى العالم يقول‏:‏ ‏{‏فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا‏}‏، حيث ظهر ‏{‏وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏34، 35‏]‏ خبت نار طبيعتهم فقالوا‏:‏ ‏[‏إلها‏]‏ ولم يقولوا‏:‏ ‏[‏طبيعة‏]‏‏.‏ وقال ـ أيضا ـ في فص الهارونية‏:‏ ثم قال هارون لموسى‏:‏ ‏{‏إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏94‏]‏، فتجعلني سببًا في تفريقهم، فإن عبادة العجل فرقت بينهم، فكان فيهم من عبده اتباعا للسامري، وتقليدا له، ومنهم من توقف عن عبادته، حتى يرجع موسى إليهم فيسألونه في ذلك، فخشى هارون أن ينسب ذلك التفريق بينهم إليه، فكان موسى أعلم بالأمر من هارون؛ لأنه علم ما عبده أصحاب العجل، لعلمه بأن الله قد قضى ألا يعبد إلا إياه، وما حكم الله بشيء إلا وقع، فكان عتب موسى أخاه هارون، لما وقع الأمر في إنكاره، وعدم اتساعه، فإن العارف من يري الحق في كل شِيء، بل يراه عين كل شيء، فكان موسى يربي هارون تربية علم، وإن كان أصغر منه في السن‏.‏
ولذلك لما قال له هارون ما قال، رجع إلى السامري فقال له‏:‏ ‏{‏فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏95‏]‏ يعني‏:‏فيما صنعت من عدولك إلى صورة العجل، على الاختصاص، وساق الكلام إلى أن قال‏:‏ فكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل، كما سلط موسى عليه، حكمة من الله ظاهرة في الوجود، ليعبد في كل صورة وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك‏.‏ فما ذهبت إلا بعد ما تلبست عند عابدها بالألوهية‏.‏ ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا وعبد، إما عبادة تأله، وإما عبادة تسخير، ولابد من ذلك لمن عقل، وما عبد شيء من العالم إلا بعد التلبس بالرفعة عند العابد، والظهور بالدرجة في قلبه‏.‏
/ولذلك تسمى الحق لنا برفيع الدرجات، ولم يقل‏:‏ رفيع الدرجة، فكثر الدرجات في عين واحدة، فإنه قضى ألا يعبد إلا إياه في درجات كثيرة مختلفة، أعطت كل درجة مجلى إلهيًا عبد فيها، وأعظم مجلى عبد فيه، وأعلاه الهوى كما قال‏:‏‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ٍ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏23‏]‏، فهو أعظم معبود، فإنه لا يعبد شيء إلا به، ولا يعبد هو إلا بذاته‏.‏ وفيه أقول‏:‏
وحق الهوى إن الهوى سبب الهوى ** ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى
ألا ترى علم الله بالأشياء ما أكمله ‏!‏ كيف تمم في حق من عبد هواه، واتخذه إلهًا، فقال‏:‏ ‏{‏وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏ والضلالة الحيرة، وذلك أنه لما رأى هذا العابد ما عبد إلا هواه، بانقياده لطاعته فيما يأمره به، من عبادة من عبده من الأشخاص، حتى إن عبادة الله كانت عن هوى أيضا، فإنه لو لم يقع له في ذلك الجناب المقدس هوى، وهو الإرادة بمحبة ما عبد الله، ولا آثره على غيره‏.‏
وكذلك كل من عبد صورة ما من صور العالم، واتخذها إلها ما اتخذها إلا بالهوى، فالعابد لا يزال تحت سلطان هواه، ثم رأى المعبودات تتنوع في العابدين، فكل عابد أمرًا ما يكفر من يعبد سواه، والذي عنده أدنى تنبه يحار لاتحاد الهوى، بل لإحدىة الهوى كما ذكر، فإنه عين واحدة في كل عابد فـ‏{‏وَأَضَلَّهُ اللَّهُ‏}‏ أي حيره الله على علم، بأن كل عابد ما عبد إلا هواه، ولا استعبده إلا هواه، سواء/صادف الأمر المشروع أو لم يصادف‏.‏ والعارف المكمل من رأى كل معبود مجلى للحق يعبد فيه‏.‏
ولذلك سموه كلهم إلهًا مع اسمه الخاص شجر، أو حجر، أو حيوان، أو إنسان، أو كوكب، أو ملك، هذا اسم الشخصية فيه، والألوهية مرتبة تخيل العابد له، أنها مرتبة معبوده، وهي على الحقيقة مجلى الحق لبصر هذا العابد، المعتكف على هذا المعبود في هذا المجلى المختص بحجر‏.‏
ولهذا قال بعض من لم يعرف مقاله جهالة‏:‏‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏3‏]‏ مع تسميتهم إياهم آلهة، كما قالوا‏:‏ ‏{‏أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏5‏]‏ فما أنكروه بل تعجبوا من ذلك، فإنهم وقفوا مع كثرة الصورة، ونسبة الألوهية لها، فجاء الرسول ودعاهم إلى إله واحد يعرف، ولا يشهد بشهادتهم أنهم أثبتوه عندهم، واعتقدوه في قولهم‏:‏ ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ لعلمهم بأن تلك الصور حجارة‏.‏
ولذلك قامت الحجة عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ سَمُّوهُمْ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏33‏]‏ فما يسمونهم إلا بما يعلمون أن تلك الأسماء لهم حقيقة كحجر، وخشب، وكوكب، وأمثالها‏.‏
وأما العارفون بالأمر على ما هو عليه، فيظهرون بصورة الإنكار لما عبد من الصور؛ لأن مرتبتهم في العلم تعطيهم أن يكونوا بحكم الوقت، لحكم الرسول الذي آمنوا به عليهم، الذي به سموا مؤمنين، فهم عباد الوقت، مع علمهم بأنهم ما عبدوا من تلك الصور أعيانها، وإنما عبدوا الله فيها بحكم سلطان التجلي، / الذي عرفوه منهم، وجهله المنكر الذي لا علم له بما يتجلى، وستره العارف المكمل من نبي أو رسول، أو وارث عنهم‏.‏
فأمرهم بالانتزاح عن تلك الصور، لما انتزح عنها رسول الوقت اتباعًا للرسول، طمعًا في محبة الله إياهم بقوله‏:‏‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏31‏]‏ فدعا إلى إله يصمد إليه، ويعلم من حيث الجملة، ولا يشهد، ولا تدركه الأبصار، بل هو يدرك الأبصار للطفه وسريانه في أعيان الأشياء، فلا تدركه الأبصار، كما أنها لا تدرك أرواحها المدبرة أشباحها، وصورها الظاهرة، فهو اللطيف الخبير، والخبرة ذوق، والذوق تجل والتجلى في الصور، فلابد منها ولابد منه، فلابد أن يعبده من رآه بهواه إن فهمت هذا‏.‏ اهـ‏.‏
فتدبر حقيقة ما عليه هؤلاء، فإنهم أجمعوا على كل شرك في العالم، وعدلوا بالله كل مخلوق، وجوزوا أن يعبد كل شيء، ومع كونهم يعبدون كل شيء فيقولون‏:‏ ما عبدنا إلا الله‏.‏
فاجتمع في قولهم أمران‏:‏ كل شرك، وكل جحود وتعطيل، مع ظنهم أنهم ما عبدوا إلا الله، ومعلوم أن هذا خلاف دين المرسلين كلهم، وخلاف دين أهل الكتاب كلهم، والملل كلها، بل وخلاف دين المشركين أيضا، وخلاف ما فطر الله عليه عباده مما يعقلونه بقلوبهم ويجدونه في نفوسهم وهو في غاية الفساد، والتناقض، والسفسطة، والجحود لرب العالمين‏.‏
وذلك أنه علم بالاضطرار‏:‏ أن الرسل كانوا يجعلون ما عبده المشركون/ غير الله، ويجعلون عابده عابدًا لغير الله، مشركا بالله عادلا به، جاعلا له ندًا، فإنهم دعوا الخلق إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهذا هو دين الله، الذي أنزل به كتبه، وأرسل به رسله، وهو الإسلام العام، الذي لا يقبل الله من الأولىن والأخرىن غيره، ولا يغفر لمن تركه بعد بلاغ الرسالة، كما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏48‏]‏‏.‏
وهو الفارق بين أهل الجنة وأهل النار، والسعداء والأشقياء، كما قال النبي صلىالله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من كان آخر كلامه لا إله إلا الله‏:‏ وجبت له الجنة‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله وجبت له الجنة‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند الموت، إلا وجد روحه لها روحًا، وهي رأس الدين‏)‏، وكما قال‏:‏ ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله‏)‏‏.‏
وفضائل هذه الكلمة وحقائقها، وموقعها من الدين‏:‏ فوق ما يصفه الواصفون، ويعرفه العارفون، وهي حقيقة الأمر كله، كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏25‏]‏، فأخبر ـ سبحانه ـ أنه يوحى إلى كل رسول بنفي الألوهية عما سواه وإثباتها له وحده‏.‏ وزعم هؤلاء الملاحدة المشركون‏:‏ أن كل شيء يستحق الألوهية كاستحقاق الله لها، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏45‏]‏، وزعم هؤلاء الملاحدة أن كل شيء فإنه إله معبود، فأخبر ـ سبحانه ـ أنه لم يجعل من دون الرحمن آلهة، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏36‏]‏‏.‏ فأمر الله ـ سبحانه ـ بعبادته واجتناب الطاغوت‏.‏ وعند هؤلاء‏:‏ أن الطواغيت جميعها فيها الله، أو هي الله، و من عبدها فما عبد إلا الله، وقال تعالى‏:‏‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ الآيتين ‏[‏البقرة‏:‏21‏]‏‏.‏ فأمر ـ سبحانه ـ بعبادة الرب الخالق لهذه الآيات، وعند هؤلاء الملاحدة الملاعين‏:‏ هو عين هذه الآيات، ونهى ـ سبحانه ـ أن يجعل الناس له أندادًا، وعندهم هذا لا يتصور، فإن الأنداد هي عينه، فكيف يكون ندًا لنفسه‏؟‏ والذين عبدوا الأنداد فما عبدوا سواه‏.‏
ثم إن هؤلاء الملاحدة احتجوا بتسمية المشركين لما عبدوه إلهًا، كما قالوا‏:‏ ‏{‏أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 5‏]‏، واعتقدوا أنهم لما سموهم آلهة كانت تسمية المشركين دليلا على أن الإلهية ثابتة لهم‏.‏
وهذه الحجة قد ردها الله على المشركين في غير موضع، كقوله ـ سبحانه ـ عن هود في مخاطبته للمشركين من قومه‏:‏ ‏{‏أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏71‏]‏، هذا رد لقولهم‏:‏ ‏{‏أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏70‏]‏، فأخبر رسول الله صلىالله عليه وسلم، أن تسميتهم إياها آلهة/ومعبودين تسمية ابتدعوها هم وآباؤهم، ما أنزل الله بها من حجة ولا سلطان، والحكم ليس إلا لله وحده‏.‏
وقد أمر هو ـ سبحانه ـ ألا يعبد إلا إياه، فكيف يحتج بقول مشركين لا حجة لهم‏؟‏ وقد أبطل الله قولهم وأمر الخلق ألا يعبدوا إلا إياه دون هذه الأوثان، التي سماها المشركون آلهة، وعند الملاحدة عابدو الأوثان ما عبدوا إلا الله‏.‏
ثم إن المشركين أنكروا على الرسول، حيث جاءهم ليعبدوا الله وحده، ويذروا ما كان يعبد آباؤهم، فإذا كانوا هم ما زالوا يعبدون الله وحده، كما تزعمه الملاحدة، فلم يدعو إلى ترك ما يعبده آباؤهم، بل جاءهم ـ ليعبد كل شيء كان يعبده آباؤهم ـ هو وغيره من الأنبياء‏.‏
وكذلك قال ـ سبحانه ـ في سورة يوسف عنه‏:‏ ‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏39، 40‏]‏، وقال ـ سبحانه‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏19‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وهذه الثلاثة المذكورة في هذه السورة هي الأوثان العظام الكبار، التي كان المشركون ينتابونها من أمصارهم، فاللات‏:‏ كانت حذو قديد بالساحل/لأهل المدينة، والعزى‏:‏ كانت قريبة من عرفات لأهل مكة، ومناة‏:‏ كانت بالطائف لثقيف، وهذه الثلاث هي أمصار أرض الحجاز‏.‏
أخبر ـ سبحانه ـ أن الأسماء التي سماها المشركون أسماء ابتدعوها لا حقيقة لها، فهم إنما يعبدون أسماء لا مسميات لها، لأنه ليس في المسمى من الألوهية، ولا العزة، ولا التقدير شيء، ولم ينزل الله سلطانا بهذه الأسماء، إن يتبع المشركون إلا ظنا لا يغني من الحق شيئا، في أنها آلهة تنفع وتضر، ويتبعوا أهواء أنفسهم‏.‏
وعند الملاحدة أنهم إذا عبدوا أهواءهم فقد عبدوا الله، وقد قال ـ سبحانه ـ عن إمام الأئمة، وخليل الرحمن، وخير البرية ـ بعد محمد صلىالله عليه وسلم ـ أنه قال لأبيه‏:‏ ‏{‏يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏42‏:‏ 45‏]‏ فنهاه وأنكر عليه أن يعبد الأوثان، التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تغني عنه شيئا‏.‏
وعلى زعم هؤلاء الملحدين ـ فما عبدوا غير الله في كل معبود ـ فيكون الله هو الذي لا يسمع، ولا يبصر، ولا يغني عنه شيئا، وهو الذي نهاه عن عبادته، وهو الذي أمره بعبادته‏.‏ وهكذا قال أحذق طواغيتهم الفاجر التلمساني في قصيدة له‏:‏
يا عاذلي أنت تنهاني، وتأمرنـــــي ** والوجد أصدق نهَّاء وأمَّــار
/ فإن أطعك وأعص الوجد عدت عمي ** عن العيان إلى أوهام أخبــار
وعين ما أنــت تدعونــي إليــــه إذا ** حققته تره المنهي يا جــاري‏!‏
وقد قال أيضا إبراهيم لأبيه‏:‏‏{‏يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏44‏]‏، وعندهم أن الشيطان مجلى إلهي، ينبغي تعظيمه، ومن عبده فما عَبَدَ غير الله، وليس الشيطان غير الرحمن حتى نعصيه، وقد قال سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏60‏:‏ 62‏]‏، فنهاهم عن عبادة الشيطان، وأمرهم بعبادة الله سبحانه وحده، وعندهم عبادة الشيطان هي عبادته أيضا، فينبغي أن يعبد الشيطان وجميع الموجودات فإنها عينه‏.‏
وقال ـ تعالى ـ أيضا ـ عن إمام الخلائق خليل الرحمن أنه لما ‏{‏رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ‏}‏إلى قوله‏:‏‏{‏وَهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏76‏:‏ 82‏]‏، وقال أيضا‏:‏‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏}‏‏[‏الممتحنة‏:‏4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي‏}‏ الآية‏[‏الزخرف‏:‏26، 27‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏75‏:‏ 98‏]‏، /وقال تعالى‏:‏‏{‏إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعلىنَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏32‏:‏ 68‏]‏‏.‏
فهذا الخليل الذي جعله الله إمام الأئمة، الذين يهتدون بأمره، من الأنبياء والمرسلين بعده، وسائر المؤمنين قال‏:‏‏{‏إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا‏}‏‏[‏الأنعام‏:‏78، 79‏]‏‏.‏
وعند الملاحدة‏:‏ الذي أشركوه، هو عين الحق ليس غيره، فكيف يتبرأ من الله الذي وجه وجهه إليه‏؟‏ وأحد الأمرين لازم على أصلهم، إما أن يعبده في كل شيء من المظاهر بدون تقييد ولا اختصاص ـ وهو حال المكمل عندهم ـ فلا يتبرأ من شيء، وإما أن يعبده في بعض المظاهر، كفعل الناقصين عندهم‏.‏
وأما التبرؤ من بعض الموجودات فقد قال‏:‏ إن قوم نوح لو تركوهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا من تلك الأوثان، والرسل قد تبرأت من الأوثان، فقد تركت الرسل من الحق شيئا كثيرًا، وتبرؤوا من الله الذي دعوا الخلق إليه، والمشركون ـ على زعمهم ـ أحسن حالا من المرسلين؛ لأن المشركين عبدوه في بعض المظاهر، ولم يتبرؤوا من سائرها، والرسل تبرؤوا منه في عامة المظاهر‏.‏
ثم قول إبراهيم‏:‏ ‏{‏وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ‏}‏‏[‏الأنعام‏:‏79‏]‏ باطل على أصلهم، فإنه لم يفطرها، إذ هي ليست غيره، فما أجدرهم بقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏51‏]‏‏.‏ /ثم قول الخليل‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏81‏]‏‏.‏ وهذه حجة الله التي آتاها إبراهيم على قومه بقوله‏:‏ كيف أخاف ما عبدتموه من دون الله‏؟‏ وهي المخلوقات المعبودة من دونه، وعندهم ليست معبودة من دونه، ومن لم يخفها فلم يخف الله، فالرسل لم يخافوا الله‏.‏
وقول الخليل‏:‏‏{‏أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عليكم سُلْطَانًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏81‏]‏ لم يصح عندهم، فإنهم لم يشركوا بالله شيئا؛ إذ ليس ثم غيره حتى يشركوه به، بل المعبود الذي عبدوه هو الله، وأكثر ما فعلوه أنهم عبدوه في بعض المظاهر، وليس في هذا أنهم جعلوا غيره شريكا له في العبادة‏.‏
وقوله‏:‏‏{‏الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 82‏]‏، وورد في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب النبي صلىالله عليه وسلم وقالوا‏:‏ أينا لم يظلم نفسه‏؟‏ فقال النبي صلىالله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح‏:‏‏{‏لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏‏)‏ ‏[‏لقمان‏:‏13‏]‏‏.‏ فقد أخبر الله ورسوله أن الشرك ظلم عظيم، وأن الأمن هو لمن آمن بالله، ولم يخلط إيمانه بشرك، وعلى زعم هؤلاء الملاحدة، فإيمان الذين خلطوا إيمانهم بشرك هو الإيمان الكامل التام، وهو إيمان المحقق العارف عندهم؛ لأن من آمن بالله في جميع مظاهره وعبده في كل موجود، هو أكمل ممن لم يؤمن به حيث لم يظهر، ولم يعبده إلا من حيث لا يشهد ولا يعرف، وعندهم لا يتصور أن يوجد إلا في المخلوق، فمن لم يعبده في شيء/ من المخلوقات أصلا، فما عبده في الحقيقة أصلا، وإذا أطلقوا أنه عبده فهو لفظ لا معنى له، أي إذا فسروه بالتخصيص فيكون بالتخصيص بمعنى أنه خصص بعض المظاهر بالعبادة، وهذا عندهم نقص لا من جهة ما أشركه وعبده، وإنما هو من جهة ما تركه، فليس عندهم في الشرك ظلم ولا نقص إلا من جهة قِلَّتِه، وإلا فإذا كان الشرك عاما كان أكمل وأفضل‏.‏
وكذلك ـ أيضا ـ قول الخليل لقومه‏:‏ ‏{‏إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏ تبرأ عندهم من الحق الذي ظهر فيهم وفي آلهتهم، وكذلك كفره به ومعاداته لهم كفر بالحق عندهم ومعاداة له‏.‏
ثم قوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏4‏]‏ كلام لا معنى له عندهم، فإنهم كانوا مؤمنين بالله وحده؛ إذ لا يتصور عندهم غيره، وإنما غايتهم أنهم عبدوه في بعض المظاهر، وتركوا بعضها من غير كفر به فيها‏.‏
وكذلك سائر ما قصه عن إبراهيم من معاداته لما عبده أولئك هو عندهم معاداة لله؛ لأنه ما عبد غير الله كما زعم الملحدون، محتجين بقوله‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏23‏]‏، قالوا‏:‏ وما قضى الله شيئا إلا وقع‏.‏
وهذا هو الإلحاد في آيات الله، وتحريف الكلم عن مواضعه، والكذب على الله، فإن ‏[‏قضى‏]‏ هنا ليست بمعنى القدر والتكوين بإجماع المسلمين، بل وبإجماع العقلاء، حتى يقال‏:‏ ما قدر الله شيئا إلا وقع، وإنما هي بمعنى أمر، وما أمر الله به فقد يكون وقد لا يكون، فتدبر هذا التحريف‏.‏
/وكذلك قوله ما حكم الله بشيء إلا وقع كلام مجمل، فإن الحكم يكون بمعنى الأمر الديني، وهو الأحكام الشرعية، كقوله‏:‏‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏1‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا‏}‏‏[‏المائدة‏:‏50‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏10‏]‏، ويكون الحكم حكما بالحق والتكوين والفعل كقوله‏:‏ ‏{‏فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏80‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ‏}‏‏[‏الأنبياء‏:‏112‏]‏‏.‏
ولهذا كان بعض السلف يقرؤون ‏[‏ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه‏]‏ ذكره ثعلب عن ابن عباس، وذكروا أنها كذلك في بعض المصاحف؛ ولهذا قال في سياق الكلام‏:‏ ‏{‏وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏ الآية ‏[‏الإسراء‏:‏23‏]‏ وساق أمره، ووصاياه، إلى أن قال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏39‏]‏
فختم الكلام بمثل ما فتحه به، من أمره بالتوحيد، ونهيه عن الشرك، ليس هو إخبارا أنه ما عبد أحد إلا الله، وأن الله قدر ذلك وكونه، وكيف وقد قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏39‏]‏، وعندهم ليس في الوجود شيء يجعل إلها آخر، فأي شيء عبد فهو نفس الإله ليس آخر غيره‏.‏
ومثل معاداة إبراهيم والمؤمنين لله ـ على زعمهم ـ حيث عادى العابدين والمعبودين، وما عبد غير الله، وما عبد الله غير الله، فهو عين كل عابد وعين كل معبود، فكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أولياء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏1‏]‏‏.‏ وعلى زعمهم ما لله عدو أصلا، وأنه ما ثم غير، ولا سوى، بحيث يتصور أن يكون عدو نفسه أو عدو الذوات التي لا يظهر إلا بها‏.‏
السادس‏:‏ أن عندهم أن دعوة العباد إلى الله مكر بهم، كما صرح به، حيث قال‏:‏ إن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو، فإنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية‏.‏
وقال ـ أيضا ـ صاحب الفصوص‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏34‏]‏ الذين خبت نار طبيعتهم فقالوا‏:‏ إلها ولم يقولوا‏:‏ طبيعة، ‏{‏وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا‏}‏ أي‏:‏ حيروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب، ‏{‏وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ‏}‏لأنفسهم، المصْطَفِينَ الَّذين أورثوا الكتاب، فهم أول الثلاثة، فقدمه على المقتصد والسابق، ‏{‏إِلَّا ضَلَالًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏24‏]‏ أي‏:‏ إلا حيرة‏.‏ وفي المحمدي‏:‏ زدني فيك تحيرًا‏.‏
‏{‏كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عليهمْ قَامُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏20‏]‏ له فالمحير له الدور، والحركة الدورية حول القطب، فلا يبرح منه، وصاحب الطريق المستطيل مائل خارج عن المقصود، طالب ما هو فيه، صاحب خيال إليه غايته، فله ‏[‏من‏]‏ و ‏[‏إلى‏]‏ وما بينهما، وصاحب الحركة الدورية لا بدء له، فيلزمه ‏[‏من‏]‏ ولا غاية فتحكم عليه ‏[‏إلى‏]‏ فله الوجود الأتم، وهو المؤتى جوامع الكلم‏.‏ اهـ‏.‏
/ وقال بعض شعرائهم‏:‏
مـا بـال عيـسك لا يقـر قرارهـا ** وإلامَ ضـلك لا ينـي متنقــلا‏؟‏
فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن ** إلا إليك إذا بلغت المـنــــزلا
فعندهم الإنسان هو غاية نفسه، وهو معبود نفسه، وليس وراءه شيء يعبده أو يقصده، أو يدعوه، أو يستجيب له؛ ولهذا كان قولهم حقيقة قول فرعون‏.‏
وكنت أقول لمن أخاطبه‏:‏ إن قولهم هو حقيقة قول فرعون، حتى حدثني بعض من خاطبته في ذلك من الثقات العارفين‏:‏ أن بعض كبرائهم لما دعا هذا المحدث إلى مذهبهم، وكشف له حقيقة سرهم، قال‏:‏ فقلت له‏:‏ هذا قول فرعون‏؟‏ قال‏:‏ نعم، ونحن على قول فرعون، فقلت له‏:‏ الحمد لله الذي اعترفوا بهذا، فإنه مع إقرار الخصم لا يحتاج إلى بينة‏.‏
وقد جعل صاحب الطريق المستطيل صاحب خيال، ومدح الحركة المستديرة الحائرة، والقرآن يأمر بالصراط المستقيم، ويمدحه ويثنى على أهله لا على المستدير، ففي أم الكتاب‏:‏ ‏{‏اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏6‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا‏}‏ الآيتين ‏[‏النساء‏:‏ 66‏]‏‏.‏
وقال تعالى في موسى وهارون‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏117، 118‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 126‏]‏، وقال عن إبليس‏:‏ ‏{‏فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 16، 17‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَّقَ عليهمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏20‏]‏‏.‏
وهؤلاء الملحدون من أكابر متبعيه، فإنه قعد لهم على صراط الله المستقيم، فصدهم عنه حتى كفروا بربهم، وآمنوا أن نفوسهم هي معبودهم وإلههم‏.‏
وقال تعالى في حق خاتم الرسل‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ‏}‏ الآية ‏[‏الشورى‏:‏52، 53‏]‏‏.‏
وأيضا فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 30‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ علىنَا حِسَابَهُمْ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏25، 26‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏48‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 6‏]‏، وهؤلاء عندهم ما ثم إلا أنت، وأنت إلى الآن مردود إلى الله وما زلت مردودا إليه، وليس هو شيء غيرك، حتى ترد إليه أو ترجع إليه أو تكدح إليه أو تلاقيه، ولهذا حدثونا أن ابن الفارض لما احتضر أنشد بيتين‏:‏
إن كان منزلتي في الحب عندكم ** ما قد لقيت فقد ضيعت أيامـي‏!‏
أمنـية ظـفـرت نفسـي بهـا زمنـا ** واليوم أحسبها أضغـاث أحـلام‏!‏
/ وذلك أنه كان يتوهم أنه هو الله، وأنه ما ثم مرد إليه ومرجع إليه غير ما كان هو عليه، فلما جاءته ملائكة الله تنزع روحه من جسمه، وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب، تبين له أن ما كان عليه أضغاث أحلام من الشيطان‏.‏
وكذلك حدثني بعض أصحابنا، عن بعض من أعرفه وله اتصال بهؤلاء، عن الفاجر التلمساني‏:‏ أنه وقت الموت تغير واضطرب، قال‏:‏ دخلت عليه وقت الموت فوجدته يتأوه، فقلت له‏:‏ مم تتأوه‏؟‏ فقال‏:‏ من خوف الفوت، فقلت‏:‏ سبحان الله، ومثلك يخاف الفوت، وأنت تدخل الفقير إلى الخلوة فتوصله إلى الله في ثلاثة أيام ‏؟‏‏!‏ فقال ما معناه‏:‏ زال ذلك كله وما وجدت لذلك حقيقة‏!‏
السابع‏:‏ أن عندهم من يدعي الإلهية من البشر، كفرعون والدجال المنتظر، أو ادعيت فيه وهو من أولياء الله نبيا كالمسيح، أو غير نبي كعلى، أو ليس من أولياء الله كالحاكم بمصر وغيرهم، فإنه عند هؤلاء الملاحدة المنافقين يصحح هذه الدعوى‏.‏
وقد صرح صاحب الفصوص بتصحيح هذه الدعوى، كدعوى فرعون، وهم كثيرًا ما يعظمون فرعون، فإنه لم يتقدم لهم رأس في الكفر مثله، ولا يأتي متأخر لهم مثل الدجال الأعور الكذاب، وإذا نافقوا المؤمنين وأظهروا الإيمان قالوا‏:‏ إنه مات مؤمنًا، وإنه لا يدخل النار، وقالوا‏:‏ ليس في القرآن ما يدل على دخوله النار‏.‏
/ وأما في حقيقة أمرهم فما زال عندهم عارفًا بالله، بل هو الله، وليس عندهم نار فيها ألم أصلا، كما سنذكره إن شاء الله عنهم، ولكن يتفطن بهذا لكون البدع مظان النفاق، كما أن السنن شعائر الإيمان‏.‏
قال صاحب الفصوص في فص الحكمة ـ التي في ‏[‏الكلمة الموسوية‏]‏ لما تكلم على قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 23‏]‏ ـ قال‏:‏ وهنا سر كبير، فإنه أجاب بالفعل لمن سأل عن الحد الذاتي فجعل الحد الذاتي عين إضافته إلى ما ظهر به من صور العالم، أو ما ظهر فيه من صور العالم، فكأنه قال له في جواب قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ قال‏:‏ الذي يظهر فيه صور العالمين، من علو وهو السماء، وسفل وهو الأرض ‏{‏إن كُنتُم مُّوقِنِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏24‏]‏، أو يظهر هو بها‏.‏
فلما قال فرعون لأصحابه‏:‏ إنه لمجنون ـ كما قلنا في معنى كونه مجنونًا أي لمستور عنه ـ علم ما سألته عنه إذ لا يتصور أن يعلمه أصلا، زاد موسى في البيان ليعلم فرعون رتبته في العلم الإلهي، لعلمه بأن فرعون يعلم ذلك فقال‏:‏ ‏{‏رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ٌ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 28‏]‏، فجاء بما يظهر ويستر، وهو الظاهر والباطن ‏{‏وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏28‏]‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عليمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 101‏]‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏28‏]‏ أي إن كنتم أصحاب تقييد فإن العقل للتقييد‏.‏
والجواب الأول جواب الموقنين، وهم أهل الكشف والوجود، فقال له‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ موقنين‏}‏ أي‏:‏ أهل كشف ووجود فقد أعلمتكم بما تيقنتموه في كشفكم ووجودكم‏.‏
/ فإن لم تكونوا من هذا الصنف فقد أجبتكم بالجواب الثاني إن كنتم أهل عقل وتقييد، وحصرتم الحق فيما تعطيه أدلة عقولكم، فظهر موسى بالوجهين ليعلم فرعون فضله وصدقه، وعلم موسى أن فرعون علم ذلك، أو يعلم ذلك لكونه سأل عن الماهية، فعلم أن سؤاله ليس على اصطلاح القدماء في السؤال؛ فلذلك أجاب، فلو علم منه غير ذلك لخطأه في السؤال‏.‏
فلما جعل موسى المسؤول عنه عين العالم، خاطبه فرعون بهذا اللسان، والقوم لا يشعرون فقال له‏:‏ ‏{‏لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 29‏]‏، والسين في السجن من حروف الزوائد، أي‏:‏ لأسترنك، فإنك أجبت بما أيدتني به أن أقول مثل هذا القول، فإن قلت لي بلسان الإشارة، فقد جهلت يا فرعون بوعيدك إياي، والعين واحدة، فكيف فرقت‏؟‏ فيقول فرعون‏:‏ إنما فرقت المراتب العين، ما تفرقت العين، ولا انقسمت في ذاتها، ومرتبتي الآن التحكم فيك يا موسى بالفعل، وأنا أنت بالعين، وأنا غيرك بالرتبة‏.‏
وساق الكلام إلى أن قال‏:‏ ولما كان فرعون في منصب الحكم صاحب الوقت، وأنه الخليفة بالسيف، وأنه جار في العرف الناموسي؛ لذلك قال‏:‏ ‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏24‏]‏‏:‏ أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم، بما أعطيته في الظاهر من التحكم فيكم‏.‏
ولما علمت السحرة صدقه فيما قال لهم، لم ينكروه، وأقروا له بذلك، وقالوا له‏:‏ ‏{‏فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا‏}‏‏[‏طه‏:‏ 72‏]‏ فالدولة لك، / فصح قوله ‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ وإن كان عين الحق، فالصورة لفرعون، فقطع الأيدي والأرجل وصلب بعين حق في صورة باطل؛ لنيل مراتب لا تنال إلا بذلك الفعل؛ فإن الأسباب لا سبيل إلى تعطيلها؛ لأن الأعيان الثابتة اقتضتها، فلا تظهر في الوجود إلا بصورة ما هي عليه في الثبوت؛ إذ لا تبديل لكلمات الله، وليست كلمة الله سوى أعيان الموجودات‏.‏