سؤال الجنيد عن التوحيد
 
/ ولهذا سئل الجنيد عن التوحيد فقال‏:‏ التوحيد إفراد الحدوث عن القدم، فبين أنه لابد من تمييز المحدث عن القديم‏.‏
ولهذا اتفق أئمة المسلمين على أن الخالق بائن عن مخلوقاته، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، بل الرب رب، والعبد عبد‏:‏ ‏{‏إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ‏.‏ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ‏.‏ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا‏}‏‏[‏مريم‏:‏93‏:‏ 95‏]‏
وإن كان المتكلم بهذا البيت أراد الاتحاد الوصفي ـ وهو أن يحب العبد ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه الله، ويرضى بما يرضى الله،ويغضب لما يغضب الله،ويأمر بما يأمر الله به،،وينهى عما ينهى الله عنه،ويوالي من يواليه الله،ويعادي من يعاديه الله، ويحب لله ويبغض لله، ويعطي لله ويمنع لله، بحيث يكون موافقا لربه تعالى ـ فهذا المعنى حق وهو حقيقة الإيمان وكماله،كما في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالى‏:‏ من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء / أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه‏)‏‏.‏
وهذا الحديث يحتج به أهل الوحدة وهو حجة عليهم من وجوه كثيرة‏:‏
منها‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة‏)‏ فأثبت نفسه ووليه ومعادي وليه، وهؤلاء ثلاثة، ثم قال‏:‏ ‏(‏وما تقرب إلىّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه‏)‏ فأثبت عبداً يتقرب إليه بالفرائض ثم بالنوافل، وأنه لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يحبه، فإذا أحبه كان العبد يسمع به، ويبصر به، ويبطش به، ويمشي به‏.‏
وهؤلاء هو عندهم قبل أن يتقرب بالنوافل، وبعده هو عين العبد وعين غيره من المخلوقات فهو بطنه وفخذه، لا يخصون ذلك بالأعضاء الأربعة المذكورة في الحديث، فالحديث مخصوص بحال مقيد، وهم يقولون بالإطلاق والتعميم، فأين هذا من هذا‏؟‏
وكذلك قد يحتجون بما في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إن الله يتجلى لهم يوم القيامة ثم يأتيهم في صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة فيقول‏:‏ أنا ربكم، فيقولون‏:‏ نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه‏.‏ ثم يأتيهم في الصورة التي رأوه فيها في أول مرة فيقول‏:‏ أنا ربكم فيقولون‏:‏ أنت ربنا‏)‏ فيجعلون هذا حجة لقولهم‏:‏ إنه يرى في الدنيا في كل صورة بل هو كل صورة‏.‏
/وهذا الحديث حجة عليهم في هذا أيضا، فإنه لا فرق عندهم بين الدنيا والآخرة وهو عندهم ـ في الآخرة ـ المنكرون الذين قالوا‏:‏ نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا‏.‏
وهؤلاء الملاحدة يقولون‏:‏ إن العارف يعرفه في كل صورة، فإن الذين أنكروه يوم القيامة في بعض الصور كان لقصور معرفتهم‏.‏ وهذا جهل منهم، فإن الذين أنكروه يوم القيامة ثم عرفوه لما تجلى لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة هم الأنبياء والمؤمنون، وكان إنكارهم مما حمدهم ـ سبحانه وتعالى ـ عليه، فإنه امتحنهم بذلك حتى لا يتبعوا غير الرب الذي عبدوه؛ فلهذا قال في الحديث‏:‏ ‏(‏وهو يسألهم ويثبتهم وقد نادى المنادي‏:‏ ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون‏)‏
ثم يقال لهؤلاء الملاحدة‏:‏ إذا كان عندكم هو الظاهر في كل صورة، فهو المنكر وهو المنكر، كما قال بعض هؤلاء لآخر‏:‏ من قال لك‏:‏ إن في الكون سوى الله فقد كذب، وقال له الآخر‏:‏ فمن هو الذي كذب‏؟‏
وذكر ابن عربي أنه دخل على مريد له في الخلوة وقد جاءه الغائط فقال‏:‏ ما أبصر غيره أبول عليه‏؟‏ فقال له شيخه‏:‏ فالذي يخرج من بطنك من أين هو‏؟‏ قال‏:‏ فرجت عني‏.‏
ومر شيخان منهم التلمساني هذا والشيرازي على كلب أجرب ميت، فقال الشيرازي للتلمساني‏:‏ هذا أيضا من ذاته‏؟‏ فقال التلمساني‏:‏ هل ثم شيء خارج عنها‏؟‏
/وكان التلمساني قد أضل شيخًا زاهدًا عابدًا ببيت المقدس يقال له‏:‏أبو يعقوب المغربي المبتلى، حتى كان يقول‏:‏ الوجود واحد، وهو الله ولا أرى الواحد، ولا أرى الله، ويقول‏:‏ نطق الكتاب والسنة بثنوية الوجود، والوجود واحد لا ثنوية فيه، ويجعل هذا الكلام له تسبيحا، يتلوه كما يتلو التسبيح
وأما قول الشاعر‏:‏
إذا بلغ الصب الكمال من الهوى ** وغاب عن المذكور في سطوة الذكر
فشاهــد حقا حين يشهده الهوى ** بأن صلاة العارفين من الكفــــــر
فهذا الكلام ـ مع أنه كفر ـ هو كلام جاهل لا يتصور ما يقول، فإن الفناء والغيب‏:‏ هو أن يغيب بالمذكور عن الذكر، وبالمعروف عن المعرفة، وبالمعبود عن العبادة، حتى يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، وهذا مقام الفناء الذي يعرض لكثير من السالكين؛ لعجزهم عن كمال الشهود المطابق للحقيقة، بخلاف الفناء الشرعي، فمضمونه الفناء بعبادته عن عبادة ما سواه، وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، فإن هذا تحقيق التوحيد والإيمان‏.‏
وأما النوع الثالث من الفناء ـ وهو الفناء عن وجود السوي بحيث يرى أن وجود الخالق هو وجود المخلوق ـ فهذا هو قول هؤلاء الملاحدة أهل الوحدة‏.‏
/والمقصود هنا أن قوله‏:‏ يغيب عن المذكور، كلام جاهل، فإن هذا لا يحمد أصلا، بل المحمود أن يغيب بالمذكور عن الذكر، لا يغيب عن المذكور في سطوات الذكر، اللهم إلا أن يريد أنه غاب عن المذكور فشهد المخلوق، وشهد أنه الخالق ولم يشهد الوجود إلا واحدًا، ونحو ذلك من المشاهد الفاسدة، فهذا شهود أهل الإلحاد لا شهود الموحدين، ولعمري إن من شهد هذا الشهود الإلحادي فإنه يرى صلاة العارفين من الكفر‏.‏
وأما قول القائل‏:‏
الكون يناديك أما تسمعنـي ** من ألف أشتاتي ومن فرقنـــي ‏؟‏
انظر لتراني منظرًا معتبـــرًا ** ما فيَّ سوى وجـود من أوجدني
فهو من أقوال هؤلاء الملاحدة، وأقوالهم كفر متناقض باطل في العقل والدين، فإنه إذا لم يكن فيه إلا وجود من أوجده، كان ذلك الوجود هو الكون المنادي، وهو المخاطب المنادي، وهو الأشتات المؤلفة المفرقة، وهو المخاطب الذي قيل له‏:‏ انظر‏.‏
وحينئذ يكون الوجود الواجب القديم الأزلي، قد أوجد نفسه وفرقها وألفها‏.‏ فهذا جمع بين النقيضين، فإن الواجب بنفسه لا يكون مفعولا مصنوعا، والشيء الواحد لا يكون خالقا مخلوقا، قديما محدثا، واجبا بنفسه واجبا بغيره، فإن هذا جمع بين النقيضين‏.‏
/فالواجب هو الذي لا تقبل ذاته العدم، والممكن هو الذي تقبل ذاته العدم، فيمتنع أن يكون الشيء الواحد قابلا للعدم غير قابل للعدم، والقديم هو الذي لا أول لوجوده، والمحدث هو الذي له أول، فيمتنع كون الشيء الواحد قديما محدثا‏.‏
ولولا أنه قد علم مرادهم بهذا القول، لأمكن أن يراد بذلك ما في سوى الوجود الذي خلقه من أوجدني، وتكون إضافة الوجود إلى الله إضافة الملك، لكن قد علم أنه لم يرد هذا؛ ولأن هذه العبارة لا تستعمل في هذا المعنى، وإنما يراد بوجود الله وجود ذاته لا وجود مخلوقاته، وهكذا قول القائل‏:‏
ذات وجود الــــــــ ** ـكون للخلق شهـــود
أن ليس لموجــــــــو ** د سوى الحق وجــود
مراده به أن وجود الكون هو نفس وجود الحق، وهذا هو قول أهل الوحدة، وإلا فلو أراد أن وجود كل موجود من المخلوقات هو من الحق تعالى ـ فليس لشيء وجود من نفسه، وإنما وجوده من ربه، والأشياء باعتبار أنفسها لا تستحق سوى العدم، وإنما حصل لها الوجود من خالقها وبارئها، فهي دائمة الافتقار إليه لا تستغني عنه لحظة، لا في الدنيا ولا في الآخرة ـ لكان قد أراد معنى صحيحا وهو الذي عليه أهل العقل والدين، من الأولىن والأخرىن‏.‏
وهؤلاء القائلون بالوحدة قولهم متناقض؛ ولهذا يقولون‏:‏ الشيء / ونقيضه، وإلا فقوله‏:‏ منه وإلا علاه يبدي ويعيد، يناقض الوحدة، فمن هو البادي والعائد منه وإليه إذا لم يكن إلا واحدًا‏.‏ وقوله‏:‏
وما أنا في طراز الكون شيء ** لأني مثل ظل مستحيـــــل
يناقض الوحدة؛ لأن الظل مغاير لصاحب الظل، فإذا شبه المخلوق بالظل لزم إثبات اثنين، كما إذا شبهه بالشعاع، فإن شعاع الشمس ليس هو نفس قرص الشمس، وكذلك إذا شبهه بضوء السراج وغيره‏.‏
والنصارى تشبه الحلول والاتحاد بهذا‏.‏
وقلت لمن حضرني منهم وتكلم بشيء من هذا‏:‏ فإذا كنتم تشبهون المخلوق بالشعاع الذي للشمس والنار، والخالق بالنار والشمس، فلا فرق في هذا بين المسيح وغيره، فإن كل ما سوى الله ـ على هذا ـ هو بمنزلة الشعاع والضوء، فما الفرق بين المسيح وبين إبراهيم وموسى‏؟‏ بل ما الفرق بينه وبين سائر المخلوقات على هذا ‏؟‏
وجعلت أردد عليه هذا الكلام، وكان في المجلس جماعة حتى فهمه فهما جيدًا، وتبين له وللحاضرين أن قولهم باطل لا حقيقة له، وأن ما أثبتوه للمسيح إما ممتنع في حق كل أحد وإما مشترك بين المسيح وغيره، وعلى التقديرين فتخصيص المسيح بذلك باطل‏.‏
وذكرت له‏:‏أنه ما من آية جاء بها المسيح إلا وقد جاء موسى بأعظم/ منها، فإن المسيح عليه السلام وإن كان جاء بإحياء الموتى فالموتى الذين أحياهم الله على يد موسى أكثر، كالذين قالوا‏:‏ ‏{‏لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ‏}‏ ثم بعثهم الله بعد موتهم‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏55، 65‏]‏، وكالذي ضرب ببعض البقرة، وغير ذلك‏.‏
وقد جاء بإحياء الموتى غير واحد من الأنبياء والنصارى يصدقون بذلك‏.‏
وأما جعل العصا حَيّة، فهذا أعظم من إحياء الميت، فإن الميت كانت فيه حياة فردت الحياة إلى محل كانت فيه الحياة، وأما جعل خشبة يابسة حيوانا تبتلع العِصِيّ والحبال، فهذا أبلغ في القدرة، وأنذر، فإن الله يحيي الموتي، ولا يجعل الخشب حيات‏.‏
وأما إنزال المائدة من السماء، فقد كان ينزل على قوم موسى كل يوم من المن والسلوى، وينبع لهم من الحجر من الماء ما هو أعظم من ذلك، فإن الحلوى أو اللحم دائما هو أجل في نوعه وأعظم في قدره مما كان على المائدة، من الزيتون والسمك وغيرهما‏.‏
وذكرت له نحوا من ذلك، مما يبين أن تخصيص المسيح بالاتحاد ودعوى الإلهية ليس له وجه، وأن سائر ما يذكر فيه إما أن يكون مشتركا بينه وبين غيره من المخلوقات، وإما أن يكون مشتركا بينه وبين غيره من الأنبياء والرسل، مع أن بعض الرسل كإبراهيم وموسى، قد يكون أكمل في ذلك منه، وأما / خلقه من امرأة بلا رجل، فخلق حواء من رجل بلا امرأة أعجب من ذلك، فإنه خلق من بطن امرأة، وهذا معتاد، بخلاف الخلق من ضلع رجل، فإن هذا ليس بمعتاد‏.‏
فما من أمر يذكر في المسيح عليه السلام إلا وقد شركه فيه أو فيما هو أعظم منه غيره من بني آدم، فعلم قطعا أن تخصيص المسيح باطل، وأن ما يدعونه له إن كان ممكنا فلا اختصاص له به، وإن كان ممتنعا فلا وجود له فيه ولا في غيره‏.‏
ولهذا قال هؤلاء الاتحادية‏:‏ إن النصارى إنما كفروا بالتخصيص، وهذا أيضا باطل، فإن في الاتحاد عمومًا وخصوصا‏.‏
والمقصود هنا‏:‏ أن تشبيه الاتحادية أحدهم بالظل المستحيل يناقض قولهم بالوحدة، وكذلك قول الآخر‏:‏
أحن إليه وهو قلبي وهل يـــرى ** سواي أخو وجد يحن لقلبه‏؟‏
ويحجب طرفي عنه إذ هو ناظري ** وما بعده إلا لإفراط قربـــــه
هو ـ مع ما قصده به من الكفر والاتحاد ـ كلام متناقض، فإن حنين الشيء إلى ذاته متناقض؛ ولهذا قال‏:‏ وهل يرى سواي أخو وجد يحن لقلبه‏؟‏
وقوله‏:‏وما بعده إلا لإفراط قربه‏.‏ متناقض، فإنه لا قرب ولا بعد عند/ أهل الوحدة، فإنها تقتضي اثنين يقرب أحدهما من الآخر، والواحد لا يقرب من ذاته ولا يبعد من ذاته‏.