فصــل:وجاء في أولياء الله الذين هم المتقون نوع من هذا
 
/ فصـــل‏:‏
وجاء في أولياء الله الذين هم المتقون نوع من هذا‏:‏ فروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالى‏:‏ من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه‏)‏‏.‏
فأول ما في الحديث قوله‏:‏ ‏(‏من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة‏)‏ فجعل معاداة عبده الولي معاداة له، فعين عدوه عين عدو عبده، وعين معاداة وليه عين معاداته، ليسا هما شيئين متميزين، ولكن ليس الله هو عين عبده، ولا جهة عداوة عبده عين جهة عداوة نفسه، وإنما اتفقا في النوع‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏(‏فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ويده ورجله‏)‏ وفي رواية في غير الصحيح‏:‏ ‏(‏فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي‏)‏ فقوله‏:‏ / ‏(‏بي يسمع وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي‏)‏ بين معنى قوله‏:‏ ‏(‏كنت سمعه وبصره ويده ورجله‏)‏ لا أنه يكون نفس الحَدَقَة والشحْمَة والعَصَب والقدم، وإنما يبقى هو المقصود بهذه الأعضاء والقوى وهو بمنزلتها في ذلك، فإن العبد بحسب أعضائه وقواه يكون إدراكه وحركته، فإذا كان إدراكه وحركته بالحق، ليس بمعنى خلق الإدراك والحركة، فإن هذا قدر مشترك فيمن يحبه وفيمن لا يحبه، وإنما للمحبوب الحق من الحق من هذه الإعانة بقدر ما له من المعية والربوبية والإلهية، فإن كل واحدة من هذه الأمور عامة وخاصة‏.‏
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالى‏:‏ عبدي، مرضت فلم تَعُدْنِي، فيقول‏:‏ رب، كيف أعودك وأنت ربُّ العالمين‏؟‏ فيقول‏:‏ أما علمت أن عبدي فلانا مرض‏؟‏ فلو عدته لوجدتني عنده، عبدي، جُعْتُ فلم تُطْعِمْنِي‏.‏ فيقول‏:‏ رب، كيف أطعمك، وأنت رب العالمين‏؟‏ فيقول‏:‏ أما علمت أن عبدي فلانا جاع‏؟‏ فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي‏)‏ ففي هذا الحديث ذكر المعنيين الحقين، ونفى المعنيين الباطلين، وفسرهما‏.‏
فقوله‏:‏ ‏(‏جعت ومرضت‏)‏ لفظ اتحاد يثبت الحق‏.‏
وقوله‏:‏ ‏(‏لوجدتني عنده، ووجدت ذلك عندي‏)‏ نفى للاتحاد العيني بنفي الباطل، وإثبات لتمييز الرب عن العبد‏.‏
/ وقوله‏:‏ ‏(‏لوجدتني عنده‏)‏ لفظ ظرف، وبكل يثبت المعنى الحق من الحلول الحق، الذي هو بالإيمان لا بالذات‏.‏
ويفسر قوله‏:‏ ‏(‏مرضت فلم تعدني‏)‏ فلو كان الرب عين المريض والجائع، لكان إذا عاده وإذا أطعمه يكون قد وجده إياه، وقد وجده قد أكله‏.‏
وفي قوله في المريض‏:‏ ‏(‏وجدتني عنده‏)‏ وفي الجائع‏:‏ ‏(‏لوجدت ذلك عندي‏)‏ فُرْقَان حسن، فإن المريض الذي تستحب عيادته ويجد الله عنده هو المؤمن بربه، الموافق لإلهه الذي هو وليه، وأما الطاعم فقد يكون فيه عموم لكل جائع يستحب إطعامه، فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً‏}‏‏[‏البقرة‏:‏ 245‏]‏‏.‏ فَمَن تصدق بصدقة واجبة أو مستحبة، فقد أقرض الله ـ سبحانه ـ بما أعطاه لعبده‏.‏
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ـ ولا يقبل الله إلا الطيب ـ فإن الله يأخذها بيمينه فيُرَبِّيها كما يُرَبِّي أحدكم فَلُوَّه، أو فصيله، حتى تكون مثل الجبل العظيم‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن الصدقة لتقع بيد الحق قبل أن تقع بيد السائل‏)‏
لكن الأشبه‏:‏ أن هذا العبد المذكور في الجوع هو المذكور في المرض، وهو العبد الولي الذي فيه نوع اتحاد، وإن كان الله يثيب على طعام الفاسق والذمي‏.‏
ونظير القرض النصر، في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ‏}‏‏[‏محمد‏:‏ 7‏]‏ ونحو ذلك، لكن النصر فيه معنى، لكن لا يقال في مثله‏:‏ جعت‏.‏
فقد ذكر الله في القرآن القرض والنصر وجعله له، هذا في الرزق، وهذا في النصر، وجاء في الحديث العيادة، وهذه الثلاثة هي المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏، وإنما في الحديث أمر البأساء والضراء فقط، لأن ذلك ينفرد به الواحد المخاطب بقوله‏:‏ ‏(‏عبدي، مرضت وجعت‏)‏ فلذلك عاتبه‏.‏
وأما النصر، فيحتاج في العادة إلى عدد، فلا يعتب فيه على أحد معين غالبًا، أو المقصود بالحديث التنبيه، وفي القرآن النصر والرزق، وليس فيه العيادة؛ لأن النصر والقرض فيه عموم لا يختص بشخص دون شخص‏.‏
وأما العيادة، فإنما تكون لمن يجد الحق عنده‏.‏