فصــل في مذهب سائر المسلمين في إثبات القيامة الكبرى
 
/ قَالَ شِيْخُ الإِسْلاَمِ تَقِي الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بن تَيْميَّة ـ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏
فصــل
مذهب سائر المسلمين ـ بل وسائر أهل الملل ـ إثبات القيامة الكبرى، وقيام الناس من قبورهم، والثواب والعقاب هناك، وإثبات الثواب والعقاب في البرزخ ـ ما بين الموت إلى يوم القيامة ـ هذا قول السلف قاطبة وأهل السنة والجماعة، وإنما أنكر ذلك في البرزخ قليل من أهل البدع‏.‏
لكن من أهل الكلام من يقول‏:‏ هذا إنما يكون على البدن فقط، كأنه ليس عنده نفس تفارق البدن، كقول من يقول ذلك من المعتزلة والأشعرية‏.‏
ومنهم من يقول‏:‏ بل هو على النفس فقط، بناء على أنه ليس في البرزخ عذاب على البدن ولا نعيم، كما يقول ذلك ابن ميسرة، وابن حزم‏.‏
/ ومنهم من يقول‏:‏ بل البدن ينعم ويعذب بلا حياة فيه، كما قاله طائفة من أهل الحديث، وابن الزاغوني يميل إلى هذا في مصنفه في حياة الأنبياء في قبورهم، وقد بسط الكلام على هذا في مواضع‏.‏
والمقصود هنا أن كثيراً من أهل الكلام ينكر أن يكون للنفس وجود بعد الموت، ولا ثواب ولا عقاب، ويزعمون أنه لم يدل على ذلك القرآن والحديث، كما أن الذين أنكروا عذاب القبر والبرزخ مطلقاً زعموا أنه لم يدل على ذلك القرآن، وهو غلط، بل القرآن قد بين في غير موضع بقاء النفس بعد فراق البدن، وبين النعيم والعذاب في البرزخ‏.‏
وهو ـ سبحانه ـ وتعالى في السورة الواحدة يذكر[القيامة الكبرى‏] و[‏الصغرى‏] ‏كما في سورة الواقعة، فإنه ذكر في أولها القيامة الكبرى، وأن الناس يكونون أزواجاً ثلاثة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 1-7‏]‏‏.‏
ثم إنه في آخرها ذكر القيامة الصغرى بالموت، وأنهم ثلاثة أصناف بعد الموت، فقال‏:‏ ‏{‏فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 83-94‏]‏، فهذا فيه أن النفس تبلغ الحلقوم وأنهم لا يمكنهم رجعها، وبين حال المقربين وأصحاب اليمين والمكذبين حينئذ‏.‏
وفي سورة القيامة‏:‏ ذكر أيضاً القيامتين فقال‏:‏ ‏{‏لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 1‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 2‏]‏ وهي نفس الإنسان‏.‏
وقد قيل‏:‏ إن النفس تكون لوامة، وغير لوامة، وليس كذلك، بل نفس كل إنسان لوامة، فإنه ليس بشر إلا يلوم نفسه ويندم إما في الدنيا، وإما في الآخرة، فهذا إثبات النفس‏.‏ ثم ذكر معاد البدن فقال‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ‏} ‏‏[‏القيامة‏:‏ 3]‏‏.‏
ثم ذكر الموت فقال‏:‏ ‏{‏كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 26‏]‏ وهذا إثبات للنفس وأنها تبلغ التراقى كما قال هناك‏:‏ ‏{‏بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 83‏]‏‏.‏ والتراقي متصلة بالحلقوم‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 27‏]‏ يرقيها، وقيل‏:‏ من صاعد يصعد بها إلى اللّه، والأول أظهر؛ لأن هذا قبل الموت، فإنه قال‏:‏ ‏{‏وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 28‏]‏ فدل على أنهم يرجونه ويطلبون له راقياً يرقيه، وأيضاً فصعودها لا يفتقر إلى طلب من يرقى بها، فإن للّه ملائكة يفعلون ما يؤمرون، والرقية أعظم الأدوية فإنها دواء / روحاني؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في صفة المتوكلين‏:‏ ‏(‏لا يسترقون‏)‏‏.‏ والمراد أنه يخاف الموت، ويرجو الحياة بالراقي؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ‏}.‏
ثم قال‏:‏ ‏{‏وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ‏}‏ ‏[‏القيامة 29، 30‏]‏‏.‏
فدل على نفس موجودة قائمة بنفسها تساق إلى ربها، والعرض القائم بغيره لا يساق، ولا بدن الميت، فهذا نص في إثبات نفس تفارق البدن تساق إلى ربها، كما نطقت بذلك الأحاديث المستفيضة في قبض روح المؤمن وروح الكافر‏.‏
ثم ذكر بعد هذا صفة الكافر بقوله مع هذا الوعيد الذي قدمه‏:‏ ‏{‏فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 31‏]‏ وليس المراد أن كل نفس من هذه النفوس كذلك‏.‏
وكذلك سورة [‏ق‏] هي في ذكر وعيد القيامة، ومع هذا قال فيها‏:‏ ‏{‏وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 19‏]‏، ثم قال بعد ذلك‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 20‏]‏، فذكر القيامتين‏:‏ الصغرى والكبرى، وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ‏}‏ أي‏:‏ جاءت بما بعد الموت من ثواب وعقاب، وهو الحق الذي أخبرت به الرسل، ليس مراده أنها جاءت بالحق الذي هو الموت؛ فإن هذا مشهور لم ينازع فيه، ولم يقل أحد‏:‏ إن الموت باطل حتى يقال‏:‏ جاءت بالحق‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ‏}‏، فالإنسان وإن كره الموت فهو يعلم أنه تلاقيه ملائكته، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 99‏]‏ واليقين‏:‏ /ما بعد الموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أما عثمان بن مظعون فقد جاءه اليقين من ربه‏)‏،
وإلا فنفس الموت ـ مجرد عما بعده ـ أمر مشهور لم ينازع فيه أحد حتى يسمى يقينًا‏.‏
وذكر عذاب القيامة والبرزخ معاً في غير موضع؛ ذكره في قصة آل فرعون فقال‏:‏ ‏{‏وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ‏}‏‏[‏غافر‏:‏ 45، 46‏]‏،
وقال في قصة نوح‏:‏ ‏{‏مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 25‏]‏ مع إخبار نوح لهم بالقيامة في قوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17، 18‏]‏‏.‏
وقد ذكرنا ـ في غير موضع ـ أن الرسل قبل محمد أنذروا بالقيامة الكبرى تكذيباً لمن نفى ذلك من المتفلسفة، وقال عن المنافقين‏:‏ ‏{‏سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 101‏]‏‏.‏ قال غير واحد من العلماء‏:‏ المرة الأولى في الدنيا، والثانية في البرزخ ‏{‏ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ‏}‏ في الآخرة‏.‏
وقال تعالى في الأنعام‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 93، 94‏]‏، وهذه صفة حال الموت وقوله‏:‏ /‏{‏أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ‏}‏ دل على وجود النفس التي تخرج من البدن، وقوله‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ‏}‏ دل على وقوع الجزاء عقب الموت‏.‏
وقال تعالى في الأنفال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 50، 51‏]‏ وهذا ذوق له بعد الموت‏.‏
وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى المشركين يوم بدر في القليب ناداهم‏:‏ ‏(‏يا فلان، يا فلان، هل وجدتم ما وعد ربكم حقّا‏؟‏ فقد وجدت ما وعدني ربي حقا‏)‏‏.‏ وهذا دليل على وجودهم وسماعهم، وأنهم وجدوا ما وعدوه بعد الموت من العذاب، وأما نفس قتلهم فقد علمه الأحياء منهم‏.‏
وقال تعالى في سورة النساء‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 97‏]‏، وهذا خطاب لهم إذا توفتهم الملائكة، وهم لا يعاينون الملائكة إلا وقد يئسوا من الدنيا، ومعلوم أن البدن لم يتكلم لسانه، بل هو شاهد، يعلم أن الذي يخاطب الملائكة هو النفس، والمخاطب لا يكون عرضاً‏.‏
وقال تعالى في النحل‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 28، 29‏]‏‏.‏ وهذا إلقاء للسلم إلى حين الموت، وقولٌ للملائكة‏:‏ ‏{‏مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ‏}‏ وهذا إنما يكون من النفس‏.‏
وقد قال في النحل‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 32‏]‏، وقال في السجدة‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30، 31‏] ‏وقد ذكروا أن هذا التنزل عند الموت‏.‏
وقال تعالى في سورة آل عمران‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 169-171‏]‏ ، وقال قبل ذلك في سورة البقرة‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 154‏]‏‏.‏
وأيضاً، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏، وهذا /بيان لكون النفس تقبض وقت الموت، ثم منها ما يمسك فلا يرسل إلى بدنه، وهو الذي قضى عليه الموت، ومنها ما يرسل إلى أجل مسمى، وهذا إنما يكون في شىء يقوم بنفسه، لا في عَرَض قائم بغيره، فهو بيان لوجود النفس المفارقة بالموت‏.‏
والأحاديث الصحيحة توافق هذا، كقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏باسمك ربي وَضَعْتُ جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكتَ نَفْسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين‏)‏‏.‏ وقال ـ لما ناموا عن صلاة الصبح‏:‏ ‏(‏إن اللّه قبض أرواحنا حيث شاء‏)‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 60-62‏]‏ ، فهذا تَوَفٍّ لها بالنوم إلى أجل الموت الذي ترجع فيه إلى اللّه، وإخبار أن الملائكة تتوفاها بالموت ثم يردون إلى اللّه، والبدن وما يقوم
به من الأعراض لا يرد، إنما يرد الروح‏.‏
وهو مثل قوله في يونس‏:‏ ‏{‏وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 30‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 8‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 27-30‏]‏، وقال تعالى‏:‏
‏{‏قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 11‏]‏، وَتوفى الملك إنما يكون لما هو موجود قائم بنفسه، وإلا فالعَرَض القائم بغيره لا يتوفى، فالحياة القائمة بالبدن لا تتوفى، بل تزول وتعدم كما تعدم حركته وإدراكه‏.‏
وقال تعالى في المؤمنين‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99 ،100‏]‏
، فقوله‏:‏ ‏{‏ارْجِعُونِ‏}‏ طلب لرجع النفس إلى البدن، كما قال في الواقعة‏:‏ ‏{‏فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 86، 87‏]‏‏.‏
وهو يبين أن النفـس موجودة تفارق البـدن بالموت، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 100‏]‏‏.‏ آخره‏.‏
والحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وعلى آله وصحبه وسلم‏.‏