تتمة الحديث الثامن عشر: اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن
 

عن أبي ذر جندب بن جنادة وأبي عبدالرحمن معاذ بن جبل رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن

رواه الترمذي وقال حديث حسن‏

وخرج الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل حسنة أخرى فانفكت أخرى حتى يخرج إلى الأرض ومما يكفر الخطايا ذكر الله عز وجل وقد ذكرنا فيما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قول لا إله إلا الله أمن الحسنات قال هي من أحسن الحسنات‏.‏

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قال سبحان الله وبحمده في كل يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر وفيهما عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أفضل من ذلك‏.‏

وفي المسند وكتاب ابن ماجه عن أم هانيء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا إله إلا الله لا تترك ذنبا ولا يسبقها عمل‏.‏

وخرج الترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بشجرة يابسة الورق فضربها بعصاة فتناثر الورق فقال إن الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر لتساقط من ذنوب العبد كما يتساقط ورق هذه الشجرة وخرجه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر تنفض الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها والأحاديث في هذا كثيرة جدًا ويطول الكتاب بذكرها وسئل الحسن عن رجل لا يتحاشى عن معصية إلا أن لسانه لا يفتر عن ذكر الله قال إن ذلك لعون حسن‏.‏

وسئل الإمام أحمد عن رجل اكتسب مالًا من شبهة أصلاته وتسبيحه يحط عنه شيئًا من ذلك فقال إن صلى وسبح يريد به ذلك فأرجو قال الله تعالى ‏{‏خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ التوبة‏.‏

وقال مالك بن دينار البكاء على الخطيئة يحط الخطايا كما يحط الريح الورق اليابس‏.‏

وقال عطاء من جلس مجلسًا من مجالس الذكر كفر به عشرة مجالس من مجالس الباطل وقال شويش العدوي، وكان من قدماء التابعين إن صاحب اليمين أمير أو قال أمين على صاحب الشمال فإذا عمل ابن آدم سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين لا تعجل لعله يعمل حسنة فإن عمل حسنة ألقى واحدة وكتبت له تسع حسنات فيقول الشيطان يا ويله من يدرك تضعيف ابن آدم‏.‏

وخرج الطبراني بإسناد فيه نظر عن أبي مالك الأشعري عن النبي الله صلى الله عليه وسلم إذا نام ابن آدم قال الملك للشيطان أعطني صحيفتك فيعطيه إياها فما وجد في صحيفته من حسنة محى بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان وكتبهن حسنات فإذا أراد أن ينام أحدكم فليكبر ثلاثًا وثلاثين تكبيرة ويحمد أربعا وثلاثين تحميدة ويسبح ثلاثًا وثلاثين تسبيحة فتلك مائة وهذا غريب منكر وروى وكيع حدثنا الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص قال قال عبدالله يعني ابن مسعود وددت أني صولحت على أن أعمل كل يوم تسع خطيئات وحسنة وهذا إشارة منه إلى أن الحسنة يمحي بها التسع الخطيئات ويفضل له ضعف واحد من ثواب الحسنة فيكتفي به والله أعلم‏.

وقد اختلف الناس في مسئلتين إحداهما هل تكفر الأعمال الصالحة الكبائر والصغائر أم لا تكفر سوى الصغائر فمنهم من قال لا تكفر سوى الصغائر وقد روي هذا عن عطاء وغيره من السلف في الوضوء أنه يكفر الصغائر وقال سلمان الفارسي في الوضوء إنه يكفر الجراحات الصغار والمشي إلى المسجد يكفر أكبر من ذلك والصلاة تكفر أكبر من ذلك خرجه محمد بن نصر المرزوي وأما الكبائر فلابد لها من التوبة لأن الله أمر العباد بالتوبة وجعل من لم يتب ظعالمًا واتفقت الأمة على أن التوبة فرض والفرائض لا تؤدي إلا بنية وقصد ولو كانت الكبائر تقع مكفرة بالوضوء والصلاة وأداء بقية أركان الإسلام لم يحتج إلى التوبة وهذا باطل بالإجماع وأيضا فلو كفرت الكبائر بفعل الفرائض لم يبق لأحد ذنب يدخل به النار إذا أتى بالفرائض وهذا يشبه قول المرجئة وهو باطل هذا ما ذكره ابن عبدالبر في كتابه التمهيد وحكي إجماع المسلمين على ذلك واستدل عليه بأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر وهو مخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة وهذا يدل على أن الكبائر لا تكفرها هذه الفرائض وقد حكى ابن عطية في تفسيره في معنى هذا الحديث قولين أحدهما عن جمهور أهل السنة أن اجتناب الكبائر شرط لتكفير هذه الفرائض للصغائر فإن لم يجتنب لم تكفر هذه الفرائض شيئًا بالكلية والثاني أنها تكفر الصغائر مطلقا ولا تكفر الكبائر إن وجدت لكن يشترط التوبة من الصغائر وعدم الإصرار عليها ورجح هذا القول وحكاه عن الحذاق، وقوله بشرط التوبة من الصغائر وعدم الإصرار عليها مراده أنه إذا أصر عليها صارت كبيرة فلم تكفرها الأعمال والقول الأول الذي حكاه غريب مع أنه إذا أصر عليها وقد حكي عن أبي بكر عبدالعزيز بن جعفر من أصحابنا مثله وفي صحيح مسلم عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من امريء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب مالم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله‏.‏

وفي مسند الإمام أحمد عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يتطهر الرجل يعني يوم الجمعة فيحسن طهوره ثم يأتي الجمعة فينصت حتى يقضي الإمام صلاته إلا كان كفارة ما بينه وبين الجمعة المقبلة ما أجتنبت الكبائر المقتلة‏.‏

وخرج النسائي وابن حبان والحاكم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسي بيده ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة ثم قيل له أدخل بسلام‏.‏

وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه أيضًا‏.‏

وخرج الحاكم معناه من حديث عبدالله بن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ويروى من حديث ابن عمر مرفوعًا يقول الله عز وجل ابن آدم اذكرني من أول النهار ساعة ومن آخر النهار ساعة أغفر لك ما بين ذلك إلا الكبائر أو تتوب منها‏.‏

وقال ابن مسعود الصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر وقال سلمان حافظوا على الصلوات الخمس فإنهن كفارات لهذه الجوارح مالم تصب المقتلة‏.‏

وقال ابن عمر لرجل أتخاف النار أن تدخلها وتحب الجنة أن تدخلها قال نعم قال بر أمك فوالله لئن ألنت لها الكلام وأطعمتها الطعام لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر وقال قتادة إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر وذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اجتنبوا الكبائر وسددوا وأبشروا وذهب قوم من أهل الحديث وغيرهم إلى أن هذه الأعمال تكفر الكبائر ومنهم ابن حزم الظاهري وإياه عني ابن عبدالبر في كتاب التمهيد بالرد عليه وقال قد كنت أرغب بنفسي عن الكلام في هذا الباب لولا قول ذلك القائل وخشيت أن يغتر به جاهل فينهمك في الموبقات اتكالا على أنها تكفرها الصلوات دون الندم والاستغفار والتوبة والله أسأله العصمة والتوفيق قلت وقد وقع مثل هذا في كلام طائفة من أهل الحديث في الوضوء ونحوه ووقع مثله في كلام ابن المنذر في قيام ليلة القدر قال يرجى لمن قامها أن يغفر له جميع ذنوبه كبيرها وصغيرها فإن كان مرادهم أن من أتى بفرائض الإسلام وهو مصر على الكبائر تغفر له الكبائر قطعا فهذا باطل قطعا يعلم بالضرورة من الدين بطلانه وقد سبق قوله صلى الله عليه وسلم من أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر يعني بعمله في الجاهلية والإسلام وهذا أظهر من أن يحتاج إلى بيان وإن أراد هذا القائل أن من ترك الإصرار على الكبائر وحافظ على الفرائض من غير توبة ولا ندم على ما سلف منه كفرت ذنوبه كلها بذلك واستدل بظاهر قوله تعالى ‏{‏إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا‏}‏ النساء وقال السيئات تشمل الكبائر والصغائر وكما أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر من غير قصد ولا نية فكذلك الكبائر وقد يستدل لذلك بأن الله وعد المؤمنين والمتقين بالمغفرة وتكفير السيئات وهذا مذكور في غير موضع من القرآن وقد صار هذا من المتقين فإنه فعل الفرائض واجتنب الكبائر واجتناب الكبائر لا يحتاج إلى نية وقصد فهذا القول يمكن أن يقال في الجملة والصحيح قول الجمهور أن الكبائر لا تكفر بدون التوبة لأن التوبة فرض على العباد وقد قال عز وجل ‏{‏وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏ الحجرات وقد فسرت الصحابة كعمر وعلى وابن مسعود التوبة بالندم ومنهم من فسرها بالعزم على أن لا يعود وقد روي ذلك مرفوعًا من وجه فيه ضعف لكن لا يعلم مخالف من الصحابة في هذا، وكذلك التابعون ومن بعدهم كعمر بن عبدالعزيز والحسن وغيرهما وأما النصوص الكثيرة المتضمنة مغفرة الذنوب وتكفير السيئات للمتقين كقوله تعالى ‏{‏إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ الأنفال، وقوله تعالى ‏{‏وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏ التغابن، وقوله ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا‏}‏ الطلاق فإنه لم يبين في هذه الآيات خصال التقوى ولا العمل الصالح ومن جملة ذلك التوبة النصوح فمن لم يتب فهو ظالم غير متق وقد بين في سورة آل عمران خصال التقوى التي يغفر لأهلها ويدخلهم الجنة فذكر منها الاستغفار وعدم الإصرار فلم يضمن تكفير السيئات ومغفرة الذنوب إلا لمن كانت هذه الصفة له والله أعلم‏.‏

ومما يستدل به على أن الكبائر لا تكفر بدون التوبة منها أو العقوبة عليها حديث عبادة بن الصامت قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا ولا تسرقوا ولاتزنوا وقرأ عليهم الآية فمن وفي منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له خرجاه في الصحيحين وفي رواية لمسلم من أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارته فهذا يدل على أن الحدود كفارات قال الشافعي لم أسمع في هذا الباب أن الحد يكون كفارة لأهله شيئًا أحسن من حديث عبادة بن الصامت، وقوله فعوقب يعم العقوبات الشرعية وهي الحدود المقدرة أو غير المقدرة أو غير المقدرة كالتعزيزات ويشمل العقوبات القدرية كالمصائب والأسقام والآلام فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال لا يصيب المسلم نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه وروي عن علي أن الحد كفارة لمن أقيم عليه وذكر ابن جرير الطبري في هذه المسئلة اختلافا بين الناس ورجح أن إقامة الحد بمجرده كفارة ووهن القول بخلاف ذلك جدًا قلت وقد روي عن سعيد بن المسيب وصفوان بن سليم أن إقامة الحد ليس بكفارة ولابد معه من التوبة ورجحه طائفة من المتأخرين منهم البغوي وأبو عبدالله بن تيمية في تفسيريهما وهو قول ابن حزم الظاهري والأول قول مجاهد وزيد بن أسلم والثوري وأحمد وأما حديث أبي هريرة المرفوع لا أدري الحدود طهارة لأهلها أم لا فقد خرجه الحاكم وغيره وأعله البخاري وقال لا يثبت وإنما هو مراسيل الزهري وهي ضعيفة وغلط عبدالرازق فوصله قال وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحدود كفارات ومما يستدل به من قال الحد ليس بكفارة قوله تعالى في المحاربين ‏{‏ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏.‏ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ‏}‏ المائدة وظاهره أنه يجتمع لهم عقوبة الدنيا والآخرة ويجاب عنه بأنه ذكر عقوبتهم في الدنيا وعقوبتهم في الآخرة ولا يلزم اجتماعهما وأما استثناء من تاب فإنما استثناه من عقوبة الدنيا خاصة فإن عقوبة الآخرة تسقط بالتوبة قبل القدرة وبعدها، وقوله صلى الله عليه وسلم ومن أصاب شيئًا من ذلك فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له صريح في أن هذه الكبائر من لقي الله بها كانت تحت مشيئته وهذا يدل على أن إقامة الفرائض لا تكفرها ولا تمحوها فإن عموم المسلمين يحافظون على الفرائض لا سيما من بايعهم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وخرج من ذلك من لقي الله وقد تاب عنها بالنصوص الدالة من الكتاب والسنة على أن من تاب إلى الله تاب الله عليه وغفر له فبقى من لم يتب داخلا تحت المشيئة وأيضا فيدل على أن الكبائر لا تكفرها الأعمال إن الله لم يجعل للكبائر في الدنيا كفارة واجبة وإنما جعل الكفارة للصغائر ككفارة وطء المظاهر ووطء المرأة في الحيض على حديث ابن عباس الذي ذهب إليه الإمام أحمد وغيره وكفارة من ترك شيئًا من واجبات الحج أو ارتكاب بعض محظوراته وهي أربعة أجناس هدي وعتق وصدقة وصيام ولهذا لا تجب الكفارة في قتل العمد عند جمهور العلماء ولا في اليمين الغموس أيضًا عند أكثرهم وإنما يؤمر القاتل بعتق رقبة استحبابا كما في حديث واثلة بن الأسقع أنهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صاحب لهم قد أوجب فقال اعتقوا عنه رقبة يعتقه الله بها من النار ومعنى أوجب عمل عملًا يجب له به النار ويقال إنه كان قتل قتيلا وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أنه ضرب عبدًا له فأعتقه وقال ليس لي فيه من الأجر مثل هذا وأخذ عودا من الأرض إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من لطم مملوكه أو ضربه فإن كفارته أن يعتقه فإن قيل فالمجامع في رمضان يؤمر بالكفارة والفطر في رمضان من الكبائر قيل ليست الكفارة للفطر ولهذا لا يجب عند الأكثرين على كل مفطر في رمضان عمدا وإنما هي لهتك حرمة رمضان بالجماع ولهذا لو كان مفطرا فطرا لا يجوز له نهار رمضان ثم جامع للزمته الكفارة عند الإمام أحمد لما ذكرنا ومما يدل على أن تكفير الواجبات مختص بالصغائر ما أخرجه البخاري عن حذيفة قال بينما نحن جلوس عند عمر إذ قال أيكم يحفظ قول رسول صلى الله عليه وسلم في الفتنة قال قلت فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره يكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال ليس عن هذا أسألك وخرجه مسلم بمعناه وظاهر هذا السياق يقتضي رفعه وفي رواية البخاري أن حذيفة قال سمعته يقول فتنة الرجل فذكره وهذا كالصريح في رفعه وفي رواية مسلم أن هذا من كلام عمر وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم للذي قال له أصبت حدا فأقمه على فتركه حتى صلى ثم قال له إن الله غفر لك حدك فليس صريحا في أن المراد به شيء من الكبائر لأن حدود الله محارمه كما قال تعالى ‏{‏تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ‏}‏ الطلاق، وقوله ‏{‏تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا‏}‏ البقرة، وقوله ‏{‏تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ‏}‏ النساء الآية إلى قوله ‏{‏وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ النساء‏.‏

وفي حديث العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم في ضرب مثل الإسلام بالصراط المستقيم على جنبيه سوران‏.‏

قال السوران حدود الله وقد سبق ذكره بتمامه فكل من أصاب شيئًا من محارم الله فقد أصاب حدوده وركبها وتعدى بها وعلى تقدير أن يكون الحد الذي أصابه كبيرة فهذا الرجل جاء نادمًا تائبًا وأسلم نفسه إلى إقامة الحد عليه والندم توبة والتوبة تكفر الكبائر بغير تردد وقد روي ما يستدل به على أن الكبائر تكفر ببعض الأعمال الصالحة فخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن عمر أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أصبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة قال فهل لك من أم قال لا قال فهل لك من خالة قال نعم قال فبرها وخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم وقال على شرط الشيخين لكن خرجه الترمذي من وجه آخر مرسلًا وذكر أن المرسل أصح من الموصول وكذا قال على بن المديني والدارقطني وروي عن عمر أن رجلًا قال له قتلت نفسا قال أمك حية قال لا قال فأبوك قال نعم قال فبره وأحسن إليه ثم قال عمر لو كانت أمه حية فبرها وأحسن إليها رجوت أن لا تطعمه النار أبدًا وعن ابن عباس بمعناه أيضًا، وكذلك المرأة التي عملت بالسحر بدومة الجندل وقدمت المدينة فسأل عن توبتها فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم قد توفي فقال لها أصحابه لو كان أبواك حيين أو أحدهما يكفيانك خرجه الحاكم وقال فيه إجماع الصحابة حدثان وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على أن بر الأبوين الوالدين يكفيانها وقال مكحول والإمام أحمد بر الوالدين كفارة الكبائر وروي عن بعض السلف في حمل الجنائز أنه يحبط الكبائر وروي مرفوعًا من وجوه لا تصح وقد صح من رواية أبي بردة أن أبا موسى لما حضرته الوفاة قال يا بني اذكروا صاحب الرغيف كان رجل يتعبد في صومعة أراه سبعين سنة فشبه الشيطان في عينه امرأة فكان معها سبعة أيام وسبع ليال ثم كشف عن الرجل غطاءه فخرج تائبًا ثم ذكر أنه بات بين مساكين فتصدق عليهم برغيف فأعطوه رغيفا ففقده صاحبه الذي كان يعطاه فلما علم بذلك أعطاه الرغيف وأصبح ميتا فوزنت السبعون سنة بالسبع ليال فرجحت الليالي ووزن الرغيف بالسبع ليال فرجح الرغيف وروي ابن المبارك بإسناده في كتاب البر والصلة عن ابن مسعود قال عبدالله رجل سبعين سنة ثم أصاب فاحشة فأحبط الله عمله ثم أصابته زمانة وأقعد فرأى رجلًا يتصدق على مساكين فجاء إليه فأخذ منه رغيفا فتصدق به على مسكين فغفر الله له ورد عليه عمل سبعين سنة وهذه كلها لا دلالة فيها على تكفير الكبائر بالأعمال لأن كل من ذكر فيها كان نادمًا تائبًا من ذنبه وإنما كان سؤاله عن عمل صالح يتقرب به إلى الله بعد التوبة حتى يمحو به أثر الذنب بالكلية فإن الله شرط في قبول التوبة ومغفرة الذنوب بها العمل الصالح كقوله إلا من تاب وآمن وعمل صالحًا مريم، وقوله فأما من تاب وآمن وعمل صالحًا فعسى أن يكون من المفلحين القصص وفي هذا متعلق لمن يقول إن التائب بعد التوبة في المشيئة، وكان هذا حال كثير من الخائفين من السلف وقال بعضهم هل أذنبت ذنبا قال نعم قال فعلمت أن الله كتبه عليك قال نعم قال فاعمل حتى تعلم أن الله قد محاه ومنه قال ابن مسعود إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب طار على أنفه فقال به هكذا وهكذا خرجه البخاري وكانوا يتهمون أعمالهم وتوباتهم ويخافون أن لا يكون قد قبل منهم ذلك فكان ذلك يوجب لهم شدة الخوف وكثرة الاجتهاد في العمل الصالح قال الحسن أدركت أقواما لو أنفق أحدهم ملء الأرض ما أمن لعظم الذنب في نفسه‏.‏

وقال ابن عون لا تثق بكثرة العمل فإنك لا تدري أيقبل منك أم لا ولا تأمن ذنوبك فإنك لا تدري أكفرت عنك أم لا إن عملك مغيب عنك كله والأظهر والله أعلم‏.‏

في هذه المسألة أعني مسئلة تكفير الكبائر بالأعمال إن أريد أن الكبائر تمحي بمجرد الإتيان بالفرائض وتقع الكبائر مكفرة بذلك كما تكفر الصغائر باجتناب الكبائر فهذا باطل وإن أريد أنه قد يوازن يوم القيامة بين الكبائر وبين بعض الأعمال فتمحي الكبيرة بما يقابلها من العمل ويسقط العمل فلا يبقى له ثواب فهذا قد يقع وقد تقدم عن ابن عمر أنه لما أعتق مملوكه الذي ضربه قال ليس لي فيه من الأجر شيء حيث كان كفارة لذنبه ولم يكن ذنبه من الكبائر فكيف بما كان من الأعمال مكفرا للكبائر وسبق أيضًا قول من قال من السلف إن السيئة تمحي ويسقط نظيرها حسنة من الحسنات التي هي ثواب العمل فإذا كان هذا في الصغائر فكيف بالكبائر فإن بعض الكبائر قد يحبط بعض الأعمال المنافية لها كما يبطل المن والأذى الصدقة وتبطل المعاملة بالربا الجهاد كما قالت عائشة وقال حذيفة قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة وروي عنه مرفوعًا خرجه البزار في مسنده والحاكم من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يؤتي بحسنات العبد وسيئاته يوم القيامة فيقض أو يقضي بها بعضها من بعض فإن بقيت له حسنة وسع له بها في الجنة‏.‏

وخرج بن أبي حاتم من حديث ابن لهيعة قال حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله عز وجل ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ‏}‏ الزلزلة‏.‏

قال كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه فيجيء المسكين فيستقلون أن يعطوه تمرة وكسرة وجوزة ونحو ذلك فيردونه ويقولون ما هذا بشيء إنما نؤجر على ما يعطي ونحن نحبه وكانوا يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير مثل الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك يقولون إنما وعد الله النار على الكبائر فرغبهم الله في القليل من الخير أن يعملوه فإنه يوشك أن يكثر وحذرهم اليسير من الشر فإنه يوشك أن يكثر فنزلت فمن يعمل مثقال ذرة الزلزلة يعني ذرة أصغر النمل خيرًا يره الزلزلة يعني في ويسره ذلك قال يكتب لكل بر وفاجر بكل سيئة واحدة سيئة وبكل حسنة عشر حسنات فإذا كان يوم القيامة ضاعف الله حسنات المؤمن أيضًا بكل واحدة عشرًا فيمحو عنه بكل حسنة عشر سيئات فمن زادت حسناته على سيئاته مثقال ذرة دخل الجنة‏.‏

وظاهر هذا أنه يقع المقاصة بين الحسنات والسيئات ثم يسقط الحسنات المقابلة للسيئات وينظر إلى ما يفضل منها بعد المقاصة وهذا يوافق قول من قال بأن من رجحت حسناته على سيئاته بحسنة واحدة أثيب بتلك الحسنة خاصة وتسقط باقي حسناته في مقابلة سيئاته خلافًا لمن قال يثاب بالجميع وتسقط سيئاته كأنها لم تكن وهذا في الكبائر أما الصغائر فإنه قد تمحى بالأعمال الصالحة مع بقاء ثوابها كما قال صلى الله عليه وسلم ألا أدلكم على ما يمحق الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فأثبت لهذه الأعمال تكفير الخطايا ورفع الدرجات، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له مائة مرة كتب الله له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له عدل عشر رقاب فهذا يدل على أن الذكر يمحو السيئات ويبقى ثوابه لعامله مضاعفا، وكذلك سيئات التائب توبة نصوحا تكفر عنه وتبقى له حسناته كما قال الله تعالى ‏{‏حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏.‏ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ‏}‏ الأحقاف وقال تعالى ‏{‏وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏.‏ لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ‏.‏ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ الزمر‏.‏

فلما وصف هؤلاء بالتقوى والإحسان دل على أنهم ليسوا بمصرين على الذنوب بل تائبون منها، وقوله ‏{‏لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا‏}‏ الزمر يدخل فيه الكبائر لأنها أسوأ الأعمال وقال ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا‏}‏ الطلاق فرتب على التقوى المتضمنة لفعل الواجبات وترك المحرمات تكفير السيئات وتعظيم الأجر وأخبر الله عن المؤمنين المتفكرين في خلق السموات والأرض أنهم قالوا ‏{‏رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ‏}‏ آل عمران فأخبر أنه استجاب لهم ذلك وأنه كفر عنهم سيئاتهم وأدخلهم الجنات، وقوله ‏{‏فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا‏}‏ آل عمران‏.‏

فخص الله الذنوب بالمغفرة والسيئات بالتكفير فقد يقال السيئات تخص الصغائر والذنوب يراد بها الكبائر فالسيئات تكفر لأن الله جعل لها كفارات في الدنيا شرعية وقدرية والذنوب تحتاج إلى مغفرة تقي صاحبها من شرها أو المغفرة والتكفير يتقاربان فإن المغفرة قد قيل إنها ستر الذنوب وقيل وقاية شر الذنوب مع ستره ولهذا يسمى ما ستر الرأس ووقاه في الحرب مغفرا ولا يسمى كل ساتر للرأس مغفرا وقد أخبر الله عن الملائكة أنهم يدعون للمؤمنين التائبين بالمغفرة ووقاية السيئات والتكفير من هذا الجنس لأن أصل الكفر الستر والتغطية أيضًا وقد فرق بعض المتأخرين بينهما بأن التكفير محو أثر الذنب حتى كأنه لم يكن والمغفرة تتضمن مع ذلك إفضال الله على العبد وإكرامه وفي هذا نظر وقد يفسر بأن مغفرة الذنوب بالأعمال الصالحة تقلبهما حسنات وتكفيرها بالمكفرات تمحوها فقط وفيه أيضًا نظر فإنه قد صح أن الذنوب المعاقب عليها بدخلول النار تبدل حسنات فالمكفرة بعمل صالح يكون كفارة لها أولي ويحتمل معنيين آخرين أحدهما أن المغفرة لا تحصل إلا مع عدم العقوبة والمؤاخذة لأنها وقاية شر الذنب بالكلية والتكفير قد يقع بعد العقوبة فإن المصائب الدنيوية كلها مكفرات للخطايا وهي عقوبات، وكذلك العفو يقع مع العقوبة وبدونها، وكذلك الرحمة والثاني أن الكفارات من الأعمال ما جعل الله لمحو الذنوب المكفرة بها ويكون ذلك هو ثوابها ليس لها ثواب غيره والغالب عليها أن تكون من جنس مخالفة هوى النفس وتجشم المشقة كاجتناب الكبائر الذي جعله الله كفارة للصغائر وأما الأعمال التي تغفر بها الذنوب فهي ما عدا ذلك ويجتمع فيها المغفرة والثواب عليها كالذكر الذي يكتب به الحسنات ويمحي به السيئات وعلى هذا الوجه فيفرق بين الكفارات من الأعمال وغيرها وأما تكفير الذنوب ومغفرتها إذا أضيف ذلك إلى الله فلا فرق بينهما وعلى الوجه الأول يكون بينهما فرق أيضًا ويشهد لهذا الوجه الثاني أمران أحدهما قول ابن عمر لما أعتق العبد الذي ضربه ليس لي في عتقه من الأجر شيء واستدل بأنه كفارة والثاني أن المصائب الدنيوية كلها مكفرات للذنوب وقد قال كثير من الصحابة وغيرهم من السلف إنه لا ثواب فيها مع التكفير وإن كان بعضهم قد خالف في ذلك ولا يقال فقد فسر الكفارات في حديث المنام بإسباغ الوضوء في المكروهات ونقل الإقدام إلى الصلاة وقال من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه وهذه كلها مع تكفيرها للسيئات ترفع الدرجات ويحصل عليه الثواب لأنا نقول قد يجتمع في العمل الواحد شيئان يرفع بأحدهما الدرجات ويكفر بالآخر السيئات فالوضوء نفسه يثاب عليه لكن إسباغه في شدة البرد من جنس الآلام التي تحصل للنفوس في الدنيا فيكون كفارة في هذه الحال وأما في غير هذه الحالة فتغفر به الخطايا كما يغفر بالذكر وغيره، وكذلك المشي إلى الجماعات هو قربة وطاعة ويثاب عليه ولكن ما يحصل للنفس به من المشقة والألم بالتعب والنصب هو كفارة، وكذلك حبس النفس في المسجد لانتظار الصلاة وقطعها عن مألوفاتها من الخروج إلى المواضع التي تميل النفوس إليها إما لكسب الدنيا أو للتنزه هو من هذه الجهة مؤلم للنفس فيكون كفارة وقد جاء في الحديث إن إحدى خطوات الماشي إلى المسجد ترفع له درجة والأخرى تحط عنه خطيئة وهذا يقوي ما ذكرناه وإن ما حصل به التكفير غير ما حصل به رفع الدرجات والله أعلم‏.‏

وعلى هذا فيجتمع في العمل الواحد تكفير السيئات ورفع الدرجات من جهتين ووصف في كل حال بكلا الوصفين فلا تنافي بين تسميته كفارة وبين الإخبار عنه بمضاعفة الثواب به أو وصفه برفع الدرجات ولهذا قال صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر فإن في حبس النفس على المواظبة على الفرائض من مخالفة هواها وكفها عما تميل إليه ما يوجب ذلك تكفير الصغائر، وكذلك الشهادة في سبيل الله تكفر الذنوب بما يحصل بها من الألم وترفع الدرجات بما اقترن بها من الأعمال الصالحة بالقلب والبدن فتبين بها أن بعض الأعمال يجتمع فيها ما يوجب رفع الدرجات وتكفير السيئات من وجهين ولا يكون بينهما منافاة وهذا ثابت في الذنوب الصغائر وبلا ريب وأما الكبائر فقد تكفر بالشهادة مع حصول الأجر للشهيد لكن الشهيد ذا الخطايا في رابع درجة من درجات الشهداء كذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث فضالة بن عبيد خرجه الإمام أحمد والترمذي وأما مغفرة الذنوب ببعض الأعمال مع توفير أجرها وثوابها فقد دلت عليه الأحاديث الصحيحة في الذكر وقد قيل إن تلك السيئات تكتب حسنات أيضًا كما في حديث أبي مالك الأشعري الذي سبق ذكره وذكرنا أيضًا عن بعض السلف أنه يمحي بإزاء السيئة الواحدة ضعف واحد من أضعاف ثواب الحسنة وتبقى له تسع حسنات والظاهر أن هذا مختص بالصغائر وأما في الآخرة فيوازن بين الحسنات والسيئات ويقتص بعضها من بعض فمن رجحت حسناته على سيئاته فقد نجا ودخل الجنة وسواء في هذا الصغائر والكبائر وهكذا من كانت له حسنات وعليه مظالم فاستوفى المظلومون حقوقهم من حسناته وبقي له حسنة ودخل بها الجنة‏.‏

قال ابن مسعود رضي الله عنه إن كان وليًا لله ففضل له مثقال ذرة ضاعفها الله حتى يدخل الجنة وإن كان شقيا قال الملك رب فنيت حسناته وبقي له طالبون كثير قال خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكاكا إلى النار خرجه ابن أبي حاتم وغيره والمراد أن تفضيل مثقال ذرة من الحسنات إنما هو بفضل الله عز وجل لمضاعفته لحسنات المؤمن وبركته فيها وهكذا حال من كانت له حسنات وسيئات وأراد الله رحمته فضل له من حسناته ما يدخله به الجنة وكله من فضل الله ورحمته فإنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله ورحمته‏.‏

وخرج أبو نعيم بإسناد ضعيف عن على مرفوعًا أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل قل لأهل طاعتي من أمتك لا يتكلوا على أعمالهم فإني لا أقاص عبدًا الحساب يوم القيامة أشاء أن أعذبه إلا عذبته وقل لأهل معصيتي من أمتك لا يلقوا بأيديهم فإني أغفر الذنب العظيم ولا أبالي ومصداق هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من نوقش الحساب عذب وفي رواية هلك‏.‏

المسألة الثانية أن الصغائر هل تجب التوبة منها كالكبائر أم لا لأنها تقع مكفرة باجتناب الكبائر لقوله تعالى ‏{‏إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا‏}‏ النساء‏.‏

هذا مما اختلف الناس فيه فمنهم من أوجب التوبة منها وهو قول أصحابنا وغيرهم من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم وقد أمر الله بالتوبة عقيب ذكر الصغائر والكبائر فقال تعالى ‏{‏قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ‏.‏ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ‏}‏ النور إلى قوله ‏{‏وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ النور وأمر بالتوبة من الصغائر بخصوصها في قوله ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏ الحجرات‏.‏

ومن الناس من لم يوجب التوبة منها وحكي عن طائفة من المعتزلة ومن المتأخرين من قال يجب أحد الأمرين إما التوبة منها أو الإتيان ببعض المكفرات للذنوب من الحسنات وحكي ابن عطية في تفسيره في تكفير الصغائر بامتثال الفرائض واجتناب الكبائر قولين أحدهما وحكاه عن جماعة من الفقهاء وأهل الحديث أنه يقطع بتكفيرها بذلك قطعا لظاهر الآية والحديث والثاني وحكاه عن الأصوليين أنه لا يقطع بذلك بل يحمل على غلبة الظن وقوة الرجاء وهو في مشيئته الله عز وجل إذ لو قطع بتكفيرها لكانت الصغائر في حكم المباح الذي لا تبعة فيه وذلك نقض لعري الشريعة قلت قد يقال لا يقطع بتكفيرها بها لأن أحاديث التكفير المطلقة بالأعمال جادت مقيدة بتحسين العمل كما ورد ذلك في الوضوء والصلاة وحينئذ يتحقق حسن العمل الذي يوجب التكفير وعلى هذا الاختلاف الذي ذكره ابن عطية ينبني الاختلاف في وجوب التوبة من الصغائر‏.‏

عودة الى بداية الحديث الثامن عشر: اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن

نهاية شرح الحديث الثامن عشر: اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن