فَصْــل في دلالة الأحاديث على الأفعال الاختيارية
 
فَصْــل
والأفعال نوعان‏:‏ مُتَعَدّ، ولازم، فالمتعدي مثل‏:‏ الخلق والإعطاء ونحو ذلك، واللازم‏:‏ مثل الاستواء، والنزول، والمجىء والإتيان، قال تعالى‏:‏‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏4‏]‏ فذكر الفعلين‏:‏ المتعدي واللازم، وكلاهما حاصل بمشيئته وقدرته، وهو متصف به، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع‏.‏
والمقصود هنا أن القرآن يدل على هذا الأصل في أكثر من مائة موضع‏.‏
وأما الأحاديث الصحيحة فلا يمكن ضبطها في هذا الباب، كما في الصحيحين‏:‏ عن زيد بن خالد الجُهَنِيّ‏:‏أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه صلاة الصبح بالحُدَيْبِيَة على أثر سَماء كانت من الليل، ثم قال‏:‏ ‏(‏أتدرون ماذا قال ربكم الليلة‏؟‏ قال‏:‏ أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر‏.‏ فأما من قال‏:‏ مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال‏:‏ مطرنا بَنوْءِ كذا، ونوء كذا وكذا، فذلك كافر بي، مؤمن بالكواكب‏)‏‏.‏
وفي الصحاح حديث الشفاعة‏:‏ ‏(‏فيقول كل من الرسل إذا أتوا إليه‏:‏ إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله‏)‏ وهذا بيان أن الغضب حصل في ذلك اليوم لا قبله‏.‏
وفي الصحيح‏:‏‏(‏إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات كجَرِّ السلسلة على الصَّفْوان‏)‏، فقوله‏:‏‏(‏إذا تكلم الله بالوحي سمع‏)‏، يدل على أنه يتكلم به حين يسمعونه، وذلك ينفي كونه أزليًا، وأيضًا فما يكون كجر السلسلة على الصَّفَا، ويكون شيئا بعد شىء والمسبوق بغيره لا يكون أزليًا‏.‏
وكذلك في الصحيح‏:‏ ‏(‏يقول الله‏:‏ قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل‏.‏ فإذا قال‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ قال الله‏:‏ حمدني عبدي‏.‏فإذا قال‏:‏‏{‏الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ‏}‏ قال الله‏:‏ أثني علي عبدي‏.‏ فإذا قال‏:‏‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ قال الله‏:‏ مَجَّدَني عبدي‏.‏ فإذا قال‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ قال الله‏:‏ هذه الآية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل‏.‏ فإذا قال‏:‏ ‏{‏اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏ قال الله‏:‏ هؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل‏)‏، فقد أخبر أن العبد إذا قال‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ للّهِ‏}‏ قال الله‏:‏ حمدني، فإذا قال‏:‏ ‏{‏الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ‏}‏ قال الله‏:‏ أثني علي عبدي‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏
وفي الصحاح حديث النزول‏:‏ ‏(‏ينزل ربنا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول‏:‏ من يدعوني فأستجيب له‏؟‏ من يسألني فأعطيه‏؟‏ من يستغفرني فأغفر له‏؟‏‏)‏، فهذا قول وفعل في وقت معين،وقد اتفق السلف على أن النزول فعل يفعله الرب، كما قال ذلك الأوزاعي، وحماد بن زيد، والفضيل بن عياض،وأحمد بن حنبل، وغيرهم‏.‏
وأيضًا، فقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَلَّهُ أشد أذُنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن، من صاحب الْقَيْنَةِ إلى قينته‏)‏، وفي الحديث الصحيح الآخر‏:‏ ‏(‏ما أذِنَ الله لشىء كأذنِه لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن، يجهر به‏)‏ ‏[‏أذِنَ يَأذَنُ أذَنًا‏:‏ أي‏:‏ استمع يستمع استماعَا‏]‏، ‏{‏وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏2‏]‏‏.‏ فأخبر أنه يستمع إلى هذا، وهذا‏.‏
وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها‏)‏، فأخبر أنه لا يزال يتقرب بالنوافل بعد الفرائض‏.‏
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى قال‏:‏ ‏(‏قال الله‏:‏ أنا عند ظني عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي‏.‏ وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم‏)‏ وحرف ‏[‏إن‏]‏ حرف الشرط، والجزاء يكون بعد الشرط، فهذا يبين أنه يذكر العبد إن ذكره في نفسه، وإن ذكره في ملأ ذكره في ملأ خير منهم‏.‏ والمنازع يقول‏:‏ ما زال يذكره أزلاً وأبدًا، ثم يقول‏:‏ ذكره، وذكر غيره، وسائر ما يتكلم الله به هو شىء واحد، لا يتبعض ولا يتعدد، فحقيقة قوله‏:‏ إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، ولا يذكر أحدا‏.‏
وفي صحيح مسلم في حديث تعليم الصلاة‏:‏ ‏(‏وإذا قال الإمام‏:‏ سمع الله لمن حمده، فقولوا‏:‏ اللّهم ربنا ولك الحمد، يسمع الله لكم، فإن الله قال على لسان نبيه‏:‏ سمع الله لمن حمده‏)‏ فقوله‏:‏ سمع الله لمن حمده؛ لأن الجزاء بعد الشرط، فقوله‏:‏ ‏(‏يسمع الله لكم‏)‏ مجزوم حرك لالتقاء الساكنين، وهذا يقتضي أنه يسمع بعد أن تحمدوا‏.