فَصْــل: أثبت اللّه في القرآن إسلامًا بلا إيمان
 
فَصْــل
وقد أثبت اللّه في القرآن إسلامًا بلا إيمان في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏14‏]‏‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين، عن سعد بن أبي وقاص، قال‏:‏ أعطى النبي صلىالله عليه وسلم رهطاً ـ وفي رواية قسم قسماً ـ وترك فيهم من لم يعطه، وهو أعجبهم إلى، فقلت‏:‏ يا رسول اللّه، مالك عن فلان‏؟‏ فواللّه إني لأراه مؤمناً، فقال رسول اللّه صلىالله عليه وسلم‏:‏‏(‏أو مسلمًا‏)‏‏.‏ أقولها ثلاثا، ويرددها على رسول اللّه صلىالله عليه وسلم ثلاثاً، ثم قال‏:‏ ‏(‏إني لأعطي الرجل، وغيره أحب إلي منه، مخافة أن يَكُبَّهُ اللّه على وجهه في النار‏)‏، وفي رواية‏:‏ فضرب بين عنقي وكتفي، وقال‏:‏‏(‏أقتال أي سعد‏؟‏‏!‏‏)‏‏.‏
فهذا الإسلام الذي نفى اللّه عن أهله دخول الإيمان في قلوبهم، هل هو إسلام يثابون عليه‏؟‏ أم هو من جنس إسلام المنافقين‏؟‏ فيه قولان مشهوران للسلف والخلف‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه إسلام يثابون عليه، ويخرجهم من الكفر والنفاق‏.‏ وهذا مروي عن الحسن، وابن سيرين، وإبراهيم النَّخَعِي، /وأبي جعفر الباقر، وهو قول حماد بن زيد، وأحمد بن حنبل، وسهل بن عبد اللّه التَّسْتُرِي، وأبي طالب المكي، وكثير من أهل الحديث والسنة والحقائق‏.‏
قال أحمد بن حنبل‏:‏ حدثنا مُؤَمَّل بن إسحاق عن عمار بن زيد قال‏:‏ سمعت هشاماً يقول‏:‏ كان الحسن ومحمد يقولان‏:‏ مسلم، ويهابان‏:‏ مؤمن، وقال أحمد بن حنبل‏:‏ حدثنا أبو سلمة الخُزَاعِي، قال‏:‏ قال مالك، وشريك، وأبو بكر بن عياش، وعبد العزيز ابن أبي سلمة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد‏:‏ الإيمان‏:‏ المعرفة والإقرار والعمل، إلا أن حماد بن زيد يفرق بين الإسلام والإيمان، يجعل الإيمان خاصاً، والإسلام عاماً‏.‏
والقول الثاني‏:‏ أن هذا الإسلام هو الاستسلام خوف السبي والقتل، مثل إسلام المنافقين، قالوا‏:‏ وهؤلاء كفار، فإن الإيمان لم يدخل في قلوبهم، ومن لم يدخل الإيمان في قلبه فهو كافر‏.‏ وهذا اختيار البخاري، ومحمد بن نصر المروزي، والسلف مختلفون في ذلك‏.‏
قال محمد بن نصر‏:‏ حدثنا إسحاق، أنبأنا جَرِير، عن مُغِيرة، قال‏:‏ أتيت إبراهيم النَّخَعِي، فقلت‏:‏ إن رجلاً خاصمني يقال له‏:‏ سعيد العَنْبَرِيّ، فقال إبراهيم‏:‏ليس بالعنبري ولكنه زُبٍيْدِيّ‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏14‏]‏ فقال‏:‏ هو الاستسلام، فقال إبراهيم‏:‏ لا، هو الإسلام‏.‏
وقال‏:‏ حدثنا محمد بن يحيي، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان عن /مجاهد‏:‏ ‏{‏قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا‏}‏، قال‏:‏ استسلمنا خوف السبي والقتل، ولكن هذا منقطع، سفيان لم يدرك مجاهداً، والذين قالوا‏:‏ إن هذا الإسلام هو كإسلام المنافقين، لا يثابون عليه، قالوا‏:‏ لأن اللّه نفى عنهم الإيمان، ومن نفى عنه الإيمان فهو كافر، وقال هؤلاء‏:‏ الإسلام هو الإيمان، وكل مسلم مؤمن، وكل مؤمن مسلم، ومن جعل الفساق مسلمين غير مؤمنين، لزمه ألاّ يجعلهم داخلين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏9‏]‏ وأمثال ذلك، فإنهم إنما دعوا باسم الإيمان، لا باسم الإسلام، فمن لم يكن مؤمناً لم يدخل في ذلك‏.‏
وجواب هذا أن يقال‏:‏ الذين قالوا من السلف‏:‏ إنهم خرجوا من الإيمان إلى الإسلام، لم يقولوا‏:‏ إنه لم يبق معهم من الإيمان شيء، بل هذا قول الخوارج، والمعتزلة‏.‏ وأهل السنة الذين قالوا هذا يقولون‏:‏ الفساق يخرجون من النار بالشفاعة، وإن معهم إيماناً يخرجون به من النار‏.‏ لكن لا يطلق عليهم اسم الإيمان، لأن الإيمان المطلق هو الذي يستحق صاحبه الثواب، ودخول الجنة، وهؤلاء ليسوا من أهله،وهم يدخلون في الخطاب بالإيمان؛ لأن الخطاب بذلك هو لمن دخل في الإيمان وإن لم يستكمله، فإنه إنما خوطب ليفعل تمام الإيمان، فكيف يكون قد أتمه قبل الخطاب‏؟‏‏!‏ وإلا كنا قد تبينا أن هذا المأمور من الإيمان قبل الخطاب، وإنما صار من الإيمان بعد أن أمروا به، فالخطاب بـ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏، غير قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏15‏]‏ ونظائرها،فإن الخطاب بـ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}‏ أولاً‏:‏ يدخل فيه من أظهر الإيمان، وإن كان منافقاً في الباطن يدخل فيه في الظاهر، فكيف لا يدخل فيه من لم يكن منافقاً، وإن لم يكن من المؤمنين حقاً‏.‏
وحقيقته أن من لم يكن من المؤمنين حقاً، يقال فيه‏:‏ إنه مسلم، ومعه إيمان يمنعه الخلود في النار، وهذا متفق عليه بين أهل السنة، لكن هل يطلق عليه اسم الإيمان‏؟‏ هذا هو الذي تنازعوا فيه‏.‏ فقيل‏:‏ يقال‏:‏ مسلم، ولا يقال‏:‏ مؤمن‏.‏ وقيل‏:‏ بل يقال‏:‏مؤمن‏.‏
والتحقيق أن يقال‏:‏ إنه مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، ولا يعطي اسم الإيمان المطلق، فإن الكتاب والسنة نفيا عنه الاسم المطلق، واسم الإيمان يتناوله فيما أمر اللّه به ورسوله؛ لأن ذلك إيجاب عليه وتحريم عليه، وهو لازم له كما يلزمه غيره، وإنما الكلام في اسم المدح المطلق، وعلى هذا فالخطاب بالإيمان يدخل فيه ثلاث طوائف‏:‏ يدخل فيه المؤمن حقاً‏.‏ ويدخل فيه المنافق في أحكامه الظاهرة، وإن كانوا في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، وهو في الباطن ينفي عنه الإسلام والإيمان، وفي الظاهر يثبت له الإسلام والإيمان الظاهر‏.‏ ويدخل فيه الذين أسلموا وإن لم تدخل حقيقة الإيمان في قلوبهم، لكن معهم جزء من الإيمان والإسلام يثابون عليه‏.‏
/ثم قد يكونون مفرطين فيما فرض عليهم، وليس معهم من الكبائر ما يعاقبون عليه كأهل الكبائر، لكن يعاقبون على ترك المفروضات، وهؤلاء كالأعراب المذكورين في الآية وغيرهم، فإنهم قالوا‏:‏ آمنا، من غير قيام منهم بما أمروا به باطناً وظاهراً‏.‏ فلا دخلت حقيقة الإيمان في قلوبهم، ولا جاهدوا في سبيل اللّه، وقد كان دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد وقد يكونون من أهل الكبائر المعرضين للوعيد، كالذين يصلون ويزكون ويجاهدون، ويأتون الكبائر، وهؤلاء لا يخرجون من الإسلام، بل هم مسلمون ولكن بينهم نزاع لفظي‏:‏ هل يقال‏:‏ إنهم مؤمنون، كما سنذكره إن شاء اللّه‏؟‏
وأما الخوارج والمعتزلة، فيخرجونهم من اسم الإيمان والإسلام؛ فإن الإيمان والإسلام عندهم واحد، فإذا خرجوا عندهم من الإيمان خرجوا من الإسلام، لكن الخوارج تقول‏:‏ هم كفار، والمعتزلة تقول‏:‏ لا مسلمون ولا كفار، ينزلونهم منزلة بين المنزلتين، والدليل على أن الإسلام المذكور في الآية هو إسلام يثابون عليه وأنهم ليسوا منافقين، أنه قال‏:‏ ‏{‏قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏14‏]‏، فدل على أنهم إذا أطاعوا اللّه ورسوله مع هذا الإسلام، آجرهم اللّه على الطاعة، والمنافق عمله حابط في الآخرة‏.‏
وأيضاً، فإنه وصفهم بخلاف صفات المنافقين، فإن المنافقين وصفهم بكفر في قلوبهم، وإنهم يبطنون خلاف ما يظهرون، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً‏}‏ الآيات ‏[‏البقرة‏:‏8‏:‏ 10‏]‏، وقال‏:‏‏{‏إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏1‏]‏، فالمنافقون يصفهم في القرآن بالكذب، وأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وبأن في قلوبهم من الكفر ما يعاقبون عليه، وهؤلاء لم يصفهم بشيء من ذلك، لكن لما ادعوا الإيمان قال للرسول‏:‏‏{‏قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا‏}‏‏.‏ ونفى الإيمان المطلق لا يستلزم أن يكونوا منافقين، كما في قوله‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏1‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏2‏:‏ 4‏]‏، ومعلوم أنه ليس من لم يكن كذلك، يكون منافقاً من أهل الدرك الأسفل من النار، بل لا يكون قد أتى بالإيمان الواجب، فنفى عنه كما ينفي سائر الأسماء عمن ترك بعض ما يجب عليه، فكذلك الأعراب لم يأتوا بالإيمان الواجب، فنفى عنهم لذلك وإن كانوا مسلمين، معهم من الإيمان ما يثابون عليه‏.‏
وهذا حال أكثر الداخلين في الإسلام ابتداء، بل حال أكثر من لم يعرف /حقائق الإيمان، فإن الرجل إذا قوتل حتى أسلم، كما كان الكفار يقاتلون حتى يسلموا، أو أسلم بعد الأسْرِ، أو سمع بالإسلام فجاء فأسلم، فإنه مسلم ملتزم طاعة الرسول، ولم تدخل إلى قلبه المعرفة بحقائق الإيمان، فإن هذا إنما يحصل لمن تيسرت له أسباب ذلك، إما بفهم القرآن وإما بمباشرة أهل الإيمان والاقتداء بما يصدر عنهم من الأقوال والأعمال، وإما بهداية خاصة من اللّه يهديه بها‏.‏ والإنسان قد يظهر له من محاسن الإسلام ما يدعوه إلى الدخول فيه، وإن كان قد ولد عليه وتربى بين أهله فإنه يحبه، فقد ظهر له بعض محاسنه وبعض مساوئ الكفار‏.‏ وكثير من هؤلاء قد يرتاب إذا سمع الشبه القادحة فيه، ولا يجاهد في سبيل اللّه، فليس هو داخلاً في قوله‏:‏‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏15‏]‏، وليس هو منافقاً في الباطن مضمراً للكفر، فلا هو من المؤمنين حقاً ولا هو من المنافقين، ولا هو ـ أيضاً ـ من أصحاب الكبائر، بل يأتي بالطاعات الظاهرة ولا يأتي بحقائق الإيمان التي يكون بها من المؤمنين حقاً، فهذا معه إيمان وليس هو من المؤمنين حقاً، ويثاب على ما فعل من الطاعات؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا‏}‏؛ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏17‏]‏ يعني‏:‏ في قولكم‏:‏ ‏{‏آمنا‏}‏‏.‏
يقول‏:‏ إن كنتم صادقين فاللّه يمن عليكم أن هداكم للإيمان، وهذا/ يقتضي أنهم قد يكونون صادقين في قولهم‏:‏ ‏{‏آمنا‏}‏‏.‏ ثم صدقهم، إما أن يراد به اتصافهم بأنهم آمنوا باللّه ورسوله ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه أولئك هم الصادقون‏.‏ وإما أن يراد به أنهم لم يكونوا كالمنافقين، بل معهم إيمان وإن لم يكن لهم أن يدعوا مطلق الإيمان، وهذا أشبه ـ واللّه أعلم ـ لأن النسوة الممتحنات قال فيهن‏:‏ ‏{‏فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏10‏]‏، ولا يمكن نفي الرِّيبِ عنهن في المستقبل، ولأن اللّه إنما كذب المنافقين ولم يكذب غيرهم، وهؤلاء لم يكذبهم ولكن قال‏:‏‏{‏لَّمْ تُؤْمِنُوا‏}‏ كما قال‏:‏ ‏(‏لا يؤمن أحدُكُمْ حتى يحب لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه‏)‏، وقوله‏:‏‏(‏لا يزني الزاني حين يزني وهومؤمن‏)‏،و‏(‏لا يؤمن من لا يأمن جاره بَوَائِقَهُ‏)‏ وهؤلاء ليسوا منافقين‏.‏
وسياق الآية يدل على أن اللّه ذمهم؛ لكونهم مَنُّوا بإسلامهم لجهلهم وجفائهم، وأظهروا ما في أنفسهم مع علم اللّه به، فإن اللّه تعالى قال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏16‏]‏، فلو لم يكن في قلوبهم شيء من الدين لم يكونوا يعلمون اللّه بدينهم، فإن الإسلام الظاهر يعرفه كل أحد، ودخلت الباء في قوله‏:‏ ‏{‏أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ‏}‏ لأنه ضُمِّن معنى‏:‏ يخبرون ويحدثون، كأنه قال‏:‏ أتخبرونه وتحدثونه بدينكم وهو يعلم ما في السموات وما في الأرض‏.‏ وسياق الآية يدل على أن الذي أخبروا به اللّه هو ما ذكره اللّه عنهم من قولهم‏:‏ ‏{‏آمنا‏}‏ فإنهم أخبروا عما في قلوبهم‏.‏
/وقد ذكر المفسرون أنه لما نزلت هاتان الآيتان أتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم،ويحلفون أنهم مؤمنون صادقون، فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات ‏:‏16‏]‏، وهذا يدل على أنهم كانوا صادقين أولاً في دخولهم في الدين؛ لأنه لم يتجدد لهم بعد نزول الآية جهاد حتى يدخلوا به في الآية، إنما هوكلام قالوه، وهو سبحانه قال‏:‏‏{‏وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏14‏]‏، ولفظ‏:‏‏{‏لما‏}‏ ينفي به ما يقرب حصوله ويحصل غالباً كقوله‏:‏‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏142‏]‏، وقد قال السُّدِّيّ‏:‏ نزلت هذه الآية في أعراب مُزَيْنَة وجُهيْنَة وأسْلَمَ، وأشْجَع وغِفَار، وهم الذين ذكرهم اللّه في سورة الفتح وكانوا يقولون‏:‏ آمنا باللّه؛ ليأمنوا على أنفسهم، فلما استنفروا إلى الحُدَيْبِيَةِ تخلّفوا، فنزلت فيهم هذه الآية‏.‏
وعن مقاتل‏:‏ كانت منازلهم بين مكة والمدينة، وكانوا إذا مرت بهم سَرِيَّةٌ من سرايا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ آمنا؛ ليأمنوا على دمائهم وأموالهم،فلما سار رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية استنفرهم،فلم ينفروا معه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ نزلت في أعراب بني أسد بن خُزَيْمة، ووصف غيره حالهم فقال‏:‏ قدموا المدينة في سنة مُجْدِبَةٍ، فأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارهم، وكانوا يمنون على رسول اللّه/ صلى الله عليه وسلم يقولون‏:‏ أتيناك بالأثقال والعيال، فنزلت فيهم هذه الآية‏.‏ وقد قال قتادة في قوله‏:‏‏{‏يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏17‏]‏ قال‏:‏ منوا على النبي صلى الله عليه وسلم حين جاؤوا فقالوا‏:‏ إنا أسلمنا بغير قتال، لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، فقال اللّه لنبيه‏:‏ ‏{‏يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ‏}‏‏.‏
وقال مُقاتِل بن حَيَّان‏:‏ هم أعراب بني أسد بن خزيمة، قالوا‏:‏ يا رسول اللّه، أتيناك بغير قتال، وتركنا العشائر والأموال، وكل قبيلة من العرب قاتلتك حتى دخلوا كرها في الإسلام، فلنا بذلك عليك حق، فأنزل اللّه تعالى‏:‏‏{‏يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ فله بذلك المن عليكم، وفيهم أنزل اللّه‏:‏ ‏{‏وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏33‏]‏، ويقال‏:‏ من الكبائر التي ختمت بنار، كل موجبة من ركبها ومات عليها لم يتب منها‏.‏
وهذا كله يبين أنهم لم يكونوا كفاراً في الباطن، ولا كانوا قد دخلوا فيما يجب من الإيمان، وسورة الحجرات قد ذكرت هذه الأصناف، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏4‏]‏، ولم يصفهم بكفر ولا نفاق، لكن هؤلاء يخشى عليهم الكفر والنفاق؛ ولهذا ارتد بعضهم لأنهم لم يخالط الإيمان بشاشة قلوبهم، وقال بعد ذلك‏:‏‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا‏}‏ الآية ‏[‏الحجرات‏:‏6‏]‏ وهذه الآية نزلت في الوليد بن عُقْبَة، وكان قد كذب فيما أخبر‏.‏
قال المفسرون‏:‏ نزلت هذه الآية في الوليد بن عقبة، بعثه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى بني المُصْطَلِق ليقبض صدقاتهم، وقد كانت بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فسار بعض الطريق ثم رجع إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إنهم منعوا الصدقة وأرادوا قتلي، فضرب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم البعث إليهم، فنزلت هذه الآية‏.‏ وهذه القصة معروفة من وجوه كثيرة، ثم قال تعالى في تمامها‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏7‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى‏}‏ الآية ‏[‏الحجرات‏:‏9‏]‏، ثم نهاهم عن أن يسخر بعضهم ببعض، وعن اللَّمْزِ والتَّنَابُزِ بالألقاب وقال‏:‏ ‏{‏بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏11‏]‏، وقد قيل‏:‏ معناه‏:‏ لا تسميه فاسقاً ولا كافراً بعد إيمانه، وهذا ضعيف، بل المراد‏:‏ بئس الاسم أن تكونوا فساقا بعد إيمانكم، كما قال تعالى في الذي كذب‏:‏ ‏{‏إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا‏}‏ فسماه فاسقاً‏.‏
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏سِبَابُ المسلم فُسُوقٌ وقتاله كُفْر‏)‏، يقول‏:‏ فإذا ساببتم المسلم وسخرتم منه ولمزتموه، استحققتم أن تسموا فساقاً، وقد قال في آية القَذْف‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏4‏]‏‏.‏ يقول‏:‏ فإذا أتيتم بهذه الأمور التي تستحقون بها أن تسموا /فساقاً كنتم قد استحققتم اسم الفسوق بعد الإيمان، وإلا فهم في تنابزهم ما كانوا يقولون‏:‏ فاسق، كافر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وبعضهم يُلَقِّب بعضاً‏.‏
وقد قال طائفة من المفسرين في هذه الآية‏:‏ لا تسميه بعد الإسلام بدينه قبل الإسلام، كقوله لليهودي إذا أسلم‏:‏ يا يهودي، وهذا مروي عن ابن عباس وطائفة من التابعين، كالحسن، وسعيد بن جُبَيْر، وعطاء الخراساني، والقُرَظِيّ‏.‏ وقال عِكْرِمَة‏:‏ هو قول الرجل‏:‏ يا كافر، يا منافق‏.‏ وقال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ هو تسمية الرجل بالأعمال، كقوله‏:‏ يا زاني، يا سارق، يا فاسق‏.‏ وفي تفسير العَوْفِيّ عن ابن عباس قال‏:‏ هو تعيير التائب بسيئات كان قد عملها، ومعلوم أن اسم الكفر، واليهودية، والزاني، والسارق وغير ذلك من السيئات ليست هي اسم الفاسق، فعلم أن قوله‏:‏ ‏{‏بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ‏}‏ لم يرد به تسمية المسبوب باسم الفاسق، فإن تسميته كافرًا أعظم، بل إن الساب يصير فاسقًا لقوله‏:‏‏(‏سِبَابُ المسلم فُسُوق وقتاله كُفْر‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏11‏]‏،فجعلهم ظالمين إذا لم يتوبوا من ذلك وإن كانوا يدخلون في اسم المؤمنين، ثم ذكر النهي عن الغيبة، ثم ذكر النهي عن التفاخر بالأحساب، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏13‏]‏، ثم ذكر قول الأعراب‏:‏ ‏{‏آمنا‏}‏‏.‏
فالسورة تنهى عن هذه المعاصى والذنوب التي فيها تَعَدٍّ على الرسول وعلى/ المؤمنين، فالأعراب المذكورون فيها من جنس المنافقين‏.‏ وأهل السباب والفسوق والمنادين من وراء الحجرات وأمثالهم، ليسوا من المنافقين؛ ولهذا قال المفسرون‏:‏ إنهم الذين استنفروا عام الحديبية، وأولئك وإن كانوا من أهل الكبائر فلم يكونوا في الباطن كفاراً منافقين‏.‏
قال ابن إسحاق‏:‏ لما أراد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم العمرة ـ عمرة الحديبية ـ استنفر من حول المدينة من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه خوفاً من قومه أن يعرضوا له بحرب أو بصد، فتثاقل عنه كثير منهم، فهم الذين عني اللّه بقوله‏:‏‏{‏سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏11‏]‏ أي‏:‏ ادع الله أن يغفر لنا تخلفنا عنك ‏{‏يّقٍولٍونّ بٌأّلًسٌنّتٌهٌم مَّا لّيًسّ فٌي قٍلٍوبٌهٌمً‏}‏ أي‏:‏ ما يبالون، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، وهذا حال الفاسق الذي لا يبالي بالذنب، والمنافقون قال فيهم‏:‏‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏5، 6‏]‏، ولم يقل مثل هذا في هؤلاء الأعراب‏.‏ بل الآية دليل على أنهم لو صدقوا في طلب الاستغفار نفعهم استغفار الرسول لهم ثم قال‏:‏ ‏{‏سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏16‏]‏، فوعدهم الله بالثواب على طاعة الداعي إلى الجهاد، وتوعدهم بالتولي عن طاعته‏.‏
وهذا كخطاب أمثالهم من أهل الذنوب والكبائر، بخلاف من هو كافر/ في الباطن، فإنه لا يستحق الثواب بمجرد طاعة الأمر حتى يؤمن أولاً، ووعيده ليس على مجرد توليه عن الطاعة في الجهاد، فإن كفره أعظم من هذا‏.‏
فهذا كله يدل على أن هؤلاء من فساق الملة، فإن الفسق يكون تارة بترك الفرائض، وتارة بفعل المحرمات، وهؤلاء لما تركوا ما فرض الله عليهم من الجهاد وحصل عندهم نوع من الريب الذي أضعف إيمانهم، لم يكونوا من الصادقين الذين وصفهم، وإن كانوا صادقين في أنهم في الباطن متدينون بدين الإسلام‏.‏
وقول المفسرين‏:‏ لم يكونوا مؤمنين، نفى لما نفاه الله عنهم من الإيمان كما نفاه عن الزاني، والسارق، والشارب، وعمن لا يأمن جاره بَوَائِقَه، وعمن لا يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه، وعمن لا يجيب إلى حكم الله ورسوله، وأمثال هؤلاء‏.‏ وقد يحتج على ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏11‏]‏ كما قال‏:‏ ‏(‏سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر‏)‏،فذم من استبدل اسم الفسوق بعد الإيمان؛ فدل على أن الفاسق لا يسمى مؤمناً،فدل ذلك على أن هؤلاء الأعراب من جنس أهل الكبائر لا من جنس المنافقين‏.‏
وأما ما نقل من أنهم أسلموا خوف القتل والسبي، فهكذا كان إسلام غير المهاجرين والأنصار، أسلموا رغبة ورهبة، كإسلام الطلقاء من قريش بعد أن قهرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وإسلام المؤلفة قلوبهم من هؤلاء ومن أهل نَجْد وليس كل من أسلم لرغبة أو رهبة كان من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل/من النار،بل يدخلون في الإسلام والطاعة وليس في قلوبهم تكذيب ومعاداة للرسول،ولا استنارت قلوبهم بنور الإيمان ولا استبصروا فيه،وهؤلاء قد يحسن إسلام أحدهم فيصير من المؤمنين كأكثر الطُّلَقَاء، وقد يبقى من فساق الملة، ومنهم من يصير منافقاً مرتاباً إذا قال له منكر ونكير‏:‏ ‏(‏ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم، فيقول‏:‏ هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلتهَ‏)‏
وقد تقدم قول من قال‏:‏ إنهم أسلموا بغير قتال، فهؤلاء كانوا أحسن إسلاماً من غيرهم، وأن اللّه إنما ذمهم لكونهم منوا بالإسلام وأنزل فيهم‏:‏ ‏{‏وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏33‏]‏ وإنهم من جنس أهل الكبائر‏.‏
وأيضًا، قوله‏:‏ ‏{‏وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏14‏]‏ و‏{‏لما‏}‏ إنما ينفي بها ما ينتظر ويكون حصوله مترقباً، كقوله‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏142‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏، فقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ‏}‏ يدل على أن دخول الإيمان منتظر منهم، فإن الذي يدخل في الإسلام ابتداء لا يكون قد حصل في قلبه الإيمان، لكنه يحصل فيما بعد كما في الحديث‏:‏‏(‏كان الرجل يسلم أول النهار رَغْبَةً في الدنيا، فلا يجيء آخر النهار إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس‏)‏؛ ولهذا كان عامة الذين أسلموا رغبة ورهبة دخل الإيمان في قلوبهم بعد ذلك، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا‏}‏ / أمر لهم بأن يقولوا ذلك، والمنافق لا يؤمر بشيء، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏14‏]‏ والمنافق لا تنفعه طاعة اللّه ورسوله حتى يؤمن أولاً‏.‏
وهذه الآية مما احتج بها أحمد بن حنبل وغيره، على أنه يستثنى في الإيمان دون الإسلام، وأن أصحاب الكبائر يخرجون من الإيمان إلى الإسلام‏.‏ قال الميموني‏:‏ سألت أحمد بن حنبل عن رأيه في‏:‏ أنا مؤمن إن شاء اللّه ‏؟‏ فقال‏:‏ أقول‏:‏ مؤمن إن شاء اللّّه، وأقول‏:‏ مسلم ولا أستثني، قال‏:‏ قلت لأحمد‏:‏ تفرق بين الإسلام والإيمان‏؟‏ فقال لي‏:‏ نعم، فقلت له‏:‏ بأي شيء تحتج‏؟‏ قال لي‏:‏ ‏{‏قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏14‏]‏، وذكر أشياء‏.‏ وقال الشَّالَنْجِيّ‏:‏ سألت أحمد عمن قال‏:‏ أنا مؤمن عند نفسي من طريق الأحكام والمواريث، ولا أعلم ما أنا عند اللّّه‏؟‏ قال‏:‏ ليس بمرجئ‏.‏
وقال أبو أيوب سليمان بن داود الهاشمي‏:‏ الاستثناء جائز، ومن قال‏:‏ أنا مؤمن حقاً، ولم يقل‏:‏عند اللّه، ولم يستثن، فذلك عندي جائز وليس بمرجئ، وبه قال أبو خَيْثَمَة وابن أبي شيبة، وذكر الشالنجي أنه سأل أحمد بن حنبل عن المُصِرِّ على الكبائر يطلبها بجهده، أي‏:‏ يطلب الذنب بجهده، إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصوم؛ هل يكون مصراً من كانت هذه حاله‏؟‏ قال‏:‏ هو مصر مثل قوله‏:‏‏(‏لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن‏)‏ يخرج من الإيمان، ويقع في الإسلام، ومن نحو قوله‏:‏‏(‏ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا/ يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن‏)‏ ومن نحو قول ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏، فقلت له‏:‏ ما هذا الكفر‏؟‏ قال‏:‏ كفر لا ينقل عن الملة، مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه‏.‏ وقال ابن أبي شيبة‏:‏‏(‏لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن‏)‏ لا يكون مستكمل الإيمان، يكون ناقصاً من إيمانه‏.‏
قال الشالنجي‏:‏ وسألت أحمد عن الإيمان والإسلام‏.‏ فقال‏:‏ الإيمان قول وعمل، والإسلام إقرار، قال‏:‏ وبه قال أبو خيثمة‏.‏ وقال ابن أبي شيبة‏:‏ لا يكون إسلام إلا بإيمان، ولا إيمان إلا بإسلام، وإذا كان على المخاطبة فقال‏:‏ قد قبلت الإيمان، فهو داخل في الإسلام، وإذا قال‏:‏ قد قبلت الإسلام فهو داخل في الإيمان‏.‏ وقال محمد بن نصر المروزي‏:‏ وحكي غير هؤلاء أنه سأل أحمد بن حنبل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن‏)‏ فقال‏:‏ من أتى هذه الأربعة أو مثلهن أو فوقهن فهو مسلم، ولا أسميه مؤمنا، ومن أتى دون ذلك، يريد دون الكبائر، أسميه مؤمناً ناقص الإيمان‏.‏
قلت‏:‏ أحمد بن حنبل كان يقول تارة بهذا الفرق، وتارة كان يذكر الاختلاف ويتوقف، وهو المتأخر عنه، قال أبو بكر الأثرم في ‏[‏السنة‏]‏‏:‏ سمعت أبا عبد اللّه يسأل عن الاستثناء في الإيمان‏:‏ ما تقول فيه‏؟‏ فقال‏:‏ أما أنا فلا أعيبه، أي من الناس من يعيبه‏.‏ قال أبو عبد الله‏:‏ إذا كان يقول‏:‏ إن الإيمان قول /وعمل يزيد وينقص، فاستثنى مخافة واحتياطاً، ليس كما يقولون على الشك، إنما يستثنى للعمل‏.‏ قال أبو عبد اللّه‏:‏ قال اللّه تعالى‏:‏‏{‏لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏27‏]‏ أي‏:‏ أن هذا استثناء بغير شك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في أهل القبور‏:‏‏(‏وإنَّا إن شاء اللّه بكم لاحقون‏)‏ أي‏:‏ لم يكن يشك في هذا، وقد استثناه وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏وعليها نُبْعَثُ إن شاء الله‏)‏‏:‏يعني‏:‏ من القبر، وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إني لأرجو أن أكون أخشاكم للّه‏)‏ قال‏:‏ هذا كله تقوية للاستثناء في الإيمان‏.‏
قلت لأبي عبد اللّه‏:‏ وكأنك لا ترى بأساً ألا يستثنى‏.‏ فقال‏:‏ إذا كان ممن يقول الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فهو أسهل عندي، ثم قال أبو عبد الله‏:‏ إن قوماً تضعف قلوبهم عن الاستثناء، كالتعجب منهم، وسمعت أبا عبد اللّّه وقيل له‏:‏ شَبَابَة أي شيء تقول فيه‏؟‏ فقال‏:‏ شبابة كان يدعى الإرجاء، قال‏:‏ وحكى عن شبابة قول أخبث من هذه الأقاويل، ما سمعت عن أحد بمثله، قال أبو عبد اللّه‏:‏ قال شبابة‏:‏ إذا قال فقد عمل بلسانه كما يقولون، فإذا قال فقد عمل بجارحته، أي‏:‏ بلسانه حين تكلم به، ثم قال أبو عبد اللّه‏:‏ هذا قول خبيث، ما سمعت أحداً يقول به ولا بلغني، قيل لأبي عبد اللّه‏:‏ كنت كتبت عن شبابة شيئًا‏؟‏ فقال‏:‏ نعم، كنت كتبت عنه قديمًا يسيراً قبل أن نعلم أنه يقول بهذا، قلت لأبي عبد اللّه‏:‏ كتبت عنه بعد ‏؟‏ قال‏:‏ لا ولا حرف‏.‏ قيل لأبي عبد اللّه‏:‏ يزعمون أن سفيان كان يذهب إلى الاستثناء في الإيمان‏.‏ فقال‏:‏ هذا مذهب سفيان، المعروف به الاستثناء، قلت لأبي عبد اللّه‏:‏ من يرويه عن /سفيان‏؟‏ فقال‏:‏ كل من حكى عن سفيان في هذا حكاية كان يستثنى، قال‏:‏ وقال وَكِيع عن سفيان‏:‏ الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث‏؟‏ ولا ندري ما هم عند اللّه‏.‏ قلت لأبي عبد اللّّه‏:‏ فأنت بأي شيء تقول‏؟‏ فقال‏:‏ نحن نذهب إلى الاستثناء‏.‏
قلت لأبي عبد اللّه‏:‏ فأما إذا قال‏:‏ أنا مسلم فلا يستثنى ‏؟‏ فقال‏:‏ نعم، لا يستثنى إذا قال‏:‏ أنا مسلم، قلت لأبي عبد اللّّه‏:‏ أقول‏:‏ هذا مسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده‏)‏، وأنا أعلم أنه لا يسلم الناس منه، فذكر حديث مَعْمَر عن الزهري، فنرى أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل، قال أبو عبد اللّّه‏:‏ حدثناه عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، قيل لأبي عبد الله‏:‏ فنقول‏:‏ الإيمان يزيد وينقص ‏؟‏ فقال‏:‏ حديث النبي صلى الله عليه وسلم يدل على ذلك، فذكر قوله‏:‏‏(‏أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال كذا، أخرجوا من كان في قلبه مثقال كذا‏)‏ فهو يدل على ذلك وذكر عند أبي عبد اللّه عيسى الأحمر، وقوله في الإرجاء فقال‏:‏ نعم، وذلك خبيث القول، وقال أبو عبد الله‏:‏ حدثنا مُؤَمَّل، حدثنا حماد بن زيد، سمعت هشاماً يقول‏:‏ كان الحسن ومحمد يقولان‏:‏ مسلم‏.‏ ويهابان‏:‏ مؤمن‏.‏
قلت لأبي عبد اللّّه‏:‏ رواه غير سُوَيْد‏؟‏ قال‏:‏ ما علمت بذلك، وسمعت أبا عبد اللّّه يقول‏:‏الإيمان قول وعمل‏.‏ قلت لأبي عبد اللّّه‏:‏فالحديث الذي يروى‏:‏‏(‏أعتقها فإنها مؤمنة‏)‏ قال‏:‏ ليس كل أحد يقول‏:‏ إنها مؤمنة، يقولون‏:‏ أعتقها‏.‏ قال‏:‏ ومالك سمعه من هذا الشيخ هلال بن علي لا يقول‏:‏‏(‏فإنها مؤمنة‏)‏/ وقد قال بعضهم بأنها مؤمنة، فهي حين تقر بذاك فحكمها حكم المؤمنة، وهذا معناه‏.‏ قلت لأبي عبد اللّّه‏:‏ تفرق بين الإيمان والإسلام‏؟‏ فقال‏:‏ قد اختلف الناس فيه، وكان حماد بن زيد ـ زعموا ـ يفرق بين الإيمان والإسلام، قيل له‏:‏ من المرجئة‏؟‏ قال‏:‏ الذين يقولون‏:‏ الإيمان قول بلا عمل‏.‏
قلت‏:‏ فأحمد بن حنبل لم يرد قط أنه سلب جميع الإيمان فلم يبق معه منه شيء، كما تقوله الخوارج والمعتزلة، فإنه قد صرح في غير موضع بأن أهل الكبائر معهم إيمان يخرجون به من النار، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ‏)‏، وليس هذا قوله ولا قول أحد من أئمة أهل السنة، بل كلهم متفقون على أن الفُسَّاق الذين ليسوا منافقين معهم شيء من الإيمان يخرجون به من النار، هو الفارق بينهم وبين الكفار والمنافقين، لكن إذا كان معه بعض الإيمان لم يلزم أن يدخل في الاسم المطلق الممدوح، وصاحب الشرع قد نفى الاسم عن هؤلاء فقال‏:‏‏(‏لا يرني الزاني حين يزني وهو مؤمن‏)‏، وقال‏:‏‏(‏لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏لا يؤمن من لا يأمن جاره بَوَائِقَه‏)‏ وأقسم على ذلك مرات وقال‏:‏ ‏(‏المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم‏)‏
والمعتزلة ينفون عنه اسم الإيمان بالكلية، واسم الإسلام ـ أيضاً ـ ويقولون‏:‏ ليس معه شيء من الإيمان والإسلام، ويقولون‏:‏ ننزله منزلة بين منزلتين، فهم يقولون‏:‏ إنه يخلد في النار لا يخرج منها بالشفاعة، وهذا هو الذي أنكر عليهم،/ وإلا لو نفوا مطلق الاسم وأثبتوا معه شيئًا من الإيمان يخرج به من النار لم يكونوا مبتدعة، وكل أهل السنة متفقون على أنه قد سلب كمال الإيمان الواجب، فزال بعض إيمانه الواجب، لكنه من أهل الوعيد، وإنما ينازع في ذلك من يقول‏:‏ الإيمان لا يتبعض من الجهمية والمرجئة، فيقولون‏:‏ إنه كامل الإيمان، فالذي ينفى إطلاق الاسم يقول‏:‏ الاسم المطلق مقرون بالمدح واستحقاق الثواب، كقولنا‏:‏ مُتَّقٍ، وبَرٌّ، وعلى الصراط المستقيم، فإذا كان الفاسق لا تطلق عليه هذه الأسماء، فكذلك اسم الإيمان، وأما دخوله في الخطاب، فلأن المخاطب باسم الإيمان كل من معه شيء منه؛ لأنه أمر لهم، فمعاصيهم لا تسقط عنهم الأمر‏.‏
وأما ما ذكره أحمد في الإسلام، فاتبع فيه الزهري حيث قال‏:‏ فكانوا يرون الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، في حديث سعد بن أبي وقاص، وهذا على وجهين، فإنه قد يراد به الكلمة بتوابعها من الأعمال الظاهرة، وهذا هو الإسلام الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:‏ ‏(‏الإسلام‏:‏ أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة،وتصوم رمضان، وتحج البيت‏)‏‏.‏وقد يراد به الكلمة فقط من غير فعل الواجبات الظاهرة، وليس هذا هو الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام‏.‏ لكن قد يقال‏:‏ إسلام الأعراب كان من هذا، فيقال‏:‏ الأعراب وغيرهم كانوا إذا أسلموا ـ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ـ ألزموا بالأعمال الظاهرة‏:‏ الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، ولم يكن أحد يترك بمجرد الكلمة، بل كان من أظهر المعصية يعاقب عليها‏.‏
/وأحمد إن كان أراد في هذه الرواية أن الإسلام هو الشهادتان فقط، فكل من قالها فهو مسلم، فهذه إحدى الروايات عنه، والرواية الأخرى‏:‏ لا يكون مسلماً حتى يأتي بها ويصلي، فإذا لم يصل كان كافراً‏.‏ والثالثة‏:‏ أنه كافر بترك الزكاة ـ أيضاً‏.‏ والرابعة‏:‏ أنه يكفر بترك الزكاة إذا قاتل الإمام عليها دون ما إذا لم يقاتله، وعنه أنه لو قال‏:‏ أنا أؤديها ولا أدفعها إلى الإمام، لم يكن للإمام أن يقتله، وكذلك عنه رواية أنه يكفر بترك الصيام والحج، وإذا عزم أنه لا يحج أبداً‏.‏ ومعلوم أنه على القول بكفر تارك المباني يمتنع أن يكون الإسلام مجرد الكلمة، بل المراد أنه إذا أتى بالكلمة دخل في الإسلام، وهذا صحيح، فإنه يشهد له بالإسلام ولا يشهد له بالإيمان الذي في القلب، ولا يستثنى في هذا الإسلام، لأنه أمر مشهور، لكن الإسلام ـ الذي هو أداء الخمس كما أمر به ـ يقبل الاستثناء، فالإسلام الذي لا يستثنى فيه الشهادتان باللسان فقط فإنها لا تزيد ولا تنقص فلا استثناء فيها‏.‏
وقد صار الناس في مسمى الإسلام على ثلاثة أقوال‏:‏ قيل‏:‏ هو الإيمان، وهما اسمان لمسمى واحد‏.‏ وقيل‏:‏هو الكلمة، وهذان القولان لهما وجه سنذكره، لكن التحقيق ابتداء هو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإسلام والإيمان، ففسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة، فليس لنا إذا جمعنا بين الإسلام والإيمان أن نجيب بغير ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم، وأما إذا أفرد اسم الإيمان فإنه يتضمن الإسلام، وإذا أفرد الإسلام، فقد يكون مع الإسلام مؤمناً بلا نزاع، وهذا / هو الواجب، وهل يكون مسلماً ولا يقال له‏:‏ مؤمن‏؟‏ قد تقدم الكلام فيه‏.‏ وكذلك هل يستلزم الإسلام للإيمان‏؟‏ هذا فيه النزاع المذكور وسنبينه، والوعد الذي في القرآن بالجنة وبالنجاة من العذاب، إنما هو معلق باسم الإيمان وأما اسم الإسلام مجرداً فما علق به في القرآن دخول الجنة، لكنه فرضه وأخبر أنه دينه الذي لا يقبل من أحد سواه‏.‏
وبالإسلام بعث اللّه جميع النبيين، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏85‏]‏،وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏19‏]‏، وقال نوح‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏71، 72‏]‏، وقد أخبر أنه لم ينج من العذاب إلا المؤمنين فقال‏:‏ ‏{‏قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏40‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏36‏]‏ وقال نوح‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏29‏]‏‏.‏ وكذلك أخبر عن إبراهيم أن دينه الإسلام فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏130‏:‏ 132‏]‏،/وقال‏:‏‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏125‏]‏، وبمجموع هذين الوصفين علق السعادة فقال‏:‏ ‏{‏بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏112‏]‏، كما علقه بالإيمان باليوم الآخر والعمل الصالح في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏62‏]‏‏.‏
وهذا يدل على أن الإسلام الذي هو إخلاص الدين للّه، مع الإحسان وهو العمل الصالح الذي أمر اللّه به، هو والإيمان المقرون بالعمل الصالح متلازمان، فإن الوعد على الوصفين وعد واحد وهو الثواب، وانتفاء العقاب، فإن انتفاء الخوف علة تقتضي انتفاء ما يخافه؛ ولهذا قال‏:‏‏{‏وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ لم يقل‏:‏ لا يخافون، فهم لا خوف عليهم وإن كانوا يخافون اللّه، ونفى عنهم أن يحزنوا؛ لأن الحزن إنما يكون على ماض، فهم لا يحزنون بحال لا في القبر ولا في عَرَصَات القيامة، بخلاف الخوف فإنه قد يحصل لهم قبل دخول الجنة ولا خوف عليهم في الباطن، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏62، 63‏]‏‏.‏
وأما الإسلام المطلق المجرد، فليس في كتاب اللّه تعليق دخول الجنة به، كما في كتاب اللّه تعليق دخول الجنة بالإيمان المطلق المجرد، كقوله‏:‏ ‏{‏سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏12‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏2‏]‏‏.‏ وقد وصف الخليل ومن اتبعه بالإيمان كقوله‏:‏ ‏{‏فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏26‏]‏، ووصفه بذلك فقال‏:‏ ‏{‏فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏81‏:‏ 83‏]‏، ووصفه بأعلى طبقات الإيمان، وهو أفضل البرية بعد محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ والخليل إنما دعا بالرزق للمؤمنين خاصة فقال‏:‏‏{‏وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏126‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏128‏]‏ ‏{‏وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏84‏]‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ ْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏83 ‏]‏، وقال‏:‏‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏