سئل عن الأقضية هل هي مقتضية للحكمة أم لا ـ القسم الثاني ـ ‏
 
/ وسئل ـ رحمه الله ـ عن الأقضية، هل هي مقتضية للحكمة أم لا‏؟‏ وإذا كانت مقتضية للحكمة، فهل أراد من الناس ما هم فاعلوه أم لا‏؟‏ وإذا كانت الإرادة قد تقدمت، فما معنى وجود العذر والحالة هذه‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد لله رب العالمين‏.‏ نعم، لله حكمة بالغة في أقضيته وأقداره، وإن لم يعلمه العباد، فإن الله علم علمًا وعلمه لعباده، أو لمن يشاء منهم، وعلم علما لم يعلِّمه لعباده ‏{‏وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏255‏]‏
وهو ـ سبحانه ـ أراد من العباد ما هم فاعلوه إرادة تكوين، كما اتفق المسلمون على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وكما قال‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏125‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{‏وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏.‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏118، 119‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏253‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{‏يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم ‏:‏27‏]‏‏.‏
ولكن لم يرد المعاصي من أصحابها إرادة أمر وشرع ومحبة ورضى ودين، بل ذلك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏26‏]‏، ‏{‏وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا‏.‏ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏27، 28‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏، وكما قال تعالى‏:‏‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏‏.‏
وبالتقسيم والتفصيل في المقال، يزول الاشتباه، ويندفع الضلال، وقد بسطت الكلام في ذلك بما يليق به في غير موضع من القواعد، إذ ليس هذا موضع بسط ذلك‏.‏
وأما قول السائل‏:‏ ما معنى وجود العذر‏؟‏ فالمعذور الذي يعرف أنه معذور هو من كان عاجزًا عن الفعل مع إرادته له‏:‏ كالمريض العاجز عن القيام، والصيام، والجهاد، والفقير العاجز عن الإنفاق، ونحو ذلك، وهؤلاء ليسوا مكلفين، ولا معاقبين على ما تركوه، وكذلك العاجز عن السماع والفهم‏:‏ كالصبي والمجنون، ومن لم تبلغه الدعوة‏.‏
/وأما من جعل محبا مختارًا راضيًا بفعل السيئات حتى فعلها، فليس مجبورًا على خلاف مراده، ولا مكرها على ما يرضاه، فكيف يسمى هذا معذورا ‏؟‏‏!‏ بل ينبغي أن يسمى مغرورًا ‏.‏ولكن بسط ذلك يحتاج إلى الحكمة في الخلق والأمر، فهذا مذكور في موضعه، وهذا المكان لا يسعه، والله أعلم وصلى الله على محمد‏.‏