فصــل ‏:‏ ‏ومن هنا لم يكن للفعل في ** ما يلحق الفاعل تأثير‏‏
 
فصــل
وأما قول السائل‏:‏
ومن هنا لم يكن للفعل في ** ما يلحق الفاعل تأثير
فإن أراد بذلك، أنه لا تأثير للفعل، فيما يلحق الفاعل من المدح والذم والثواب، والعقاب، فهذا إنما يقوله منكروا الأسباب، كجهم ومن / وافقه‏.‏ وإلا فالسلف والأئمة متفقون على إثبات الأسباب والحكم، خلقًا وأمرًا‏.‏
ففي الأمر، مثل ما يقول الفقهاء‏:‏ الأسباب المثبتة للإرث ‏[‏ثلاثة‏]‏ نسب، و نكاح، وولاء عتق، واختلفوا في المحالفة، والإسلام على يديه وكونهما من أهل الديوان، منهم من يجعل ذلك سببًا للإرث، كأبي حنيفة، ومنهم من لا يجعله سببًا، كمالك والشافعي، وعن أحمد روايتان‏.‏ ومثل ما يقولون‏:‏ ملك النصاب سبب لوجوب الزكاة، والقتل العمد العدوان المحض سبب للقود، والسرقة سبب للقطع‏.‏
ومذهب الفقهاء أن السبب له تأثير في مسببه، ليس علامة محضة، وإنما يقول‏:‏ إنه علامة محضة طائفة من أهل الكلام الذين بنوا على قول جهم، وقد يطلق ما يطلقونه طائفة من الفقهاء، وجمهور من يطلق ذلك من الفقهاء يتناقضون‏.‏ تارة يقولون‏:‏ بقول السلف والأئمة، وتارة يقولون‏:‏ بقول هؤلاء‏.‏
وكذلك الحكمة وشرع الأحكام للحكم مما اتفق عليه الفقهاء مع السلف‏.‏
وكذلك الحكمة في الخلق والقرآن مملوء بذلك في الخلق، والأمر، / ومملوء بأنه يخلق الأشياء بالأسباب، لا كما يقوله أتباع جهم، أنه يفعل عندها لا بها، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 65‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ‏.‏ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ‏.‏ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 9ـ11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 16‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 14‏]‏، ونحو ذلك‏.‏
وأما دخول لام كي في الخلق والأمر، فكثير جدًا، وهذا مبسوط في موضعه‏.‏
وقد بسط حجج نفاة الحكمة، والتعليل العقلية والشرعية، وبين فسادها كما بين فساد حجج المعتزلة والقدرية‏.‏
وحينئذ فالأفعال سبب للمدح والذم، والثواب والعقاب‏.‏
والفقهاء المثبتون للأسباب والحكم، قسموا خطاب الشرع وأحكامه إلى قسمين‏:‏ خطاب تكليف، وخطاب وضع وإخبار، كجعل الشيء سببًا وشرطًا ومانعًا، فاعترض عليهم نفاة ذلك، بأنكم إن أردتم بكون الشيء / سببًا أن الحكم يوجد إذا وجد فليس هنا حكم آخر، وإن أردتم معنى آخر فهو ممنوع‏.‏
وجوابهم‏:‏ أن المراد أن الأسباب تضمنت صفات مناسبة للحكم، شرع الحكم لأجلها، وشرع لإفضائه إلى الحكمة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ‏}‏ الآية‏[‏المائدة‏:‏ 91‏]‏‏.‏
وكذلك ـ أيضًا ـ الذين قالوا لا تأثير لقدرة العبد في أفعاله هم هؤلاء أتباع جهم نفاة الأسباب، وإلا فالذي عليه السلف وأتباعهم وأئمة أهل السنة وجمهور أهل الإسلام المثبتون للقدر المخالفون للمعتزلة إثبات الأسباب، وإن قدرة العبد مع فعله لها تأثير كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها، والله تعالى خلق الأسباب والمسببات‏.‏ والأسباب ليست مستقلة بالمسببات، بل لابد لها من أسباب أخر تعاونها، ولها ـ مع ذلك ـ أضداد تمانعها، والمسبب لا يكون حتى يخلق الله جميع أسبابه، ويدفع عنه أضداده المعارضة له، وهو سبحانه يخلق جميع ذلك بمشيئته وقدرته كما يخلق سائر المخلوقات، فقدرة العبد سبب من الأسباب، وفعل العبد لا يكون بها وحدها بل لابد من الإرادة الجازمة مع القدرة‏.‏
وإذا أريد بالقدرة القوة القائمة بالإنسان فلابد من إزالة الموانع، كإزالة /القيد والحبس ونحو ذلك، والصاد عن السبيل كالعدو وغيره‏.‏