فصـــل في قولهم الاستدلال لابد فيه من مقدمتين
 
فصـــل
وأما قولهم‏:‏ الاستدلال لابد فيه من مقدمتين بلا زيادة ولا نقصان، فهذا قول باطل طردًا وعكسا، وذلك أن احتياج المستدل إلى المقدمات مما يختلف فيه حال الناس، فمن الناس من لا يحتاج إلا إلى مقدمة واحدة لعلمه بما سوى ذلك، كما أن منهم من لا يحتاج في علمه بذلك إلى استدلال، بل قد يعلمه بالضرورة ومنهم من يحتاج إلى مقدمتين، ومنهم من يحتاج إلى ثلاث، ومنهم من يحتاج إلى أربع وأكثر، فمن أراد أن يعرف أن هذا المسكر المعين محرم، فإن كان يعرف أن كل مسكر محرم، ولكن لا يعرف هل هذا المسكر المعين يسكر أم لا، لم يحتج إلا إلى مقدمة واحدة، وهو أن يعلم أن هذا مسكر، فإذا قيل له‏:‏ هذا حرام، فقال‏:‏ ما الدليل عليه‏؟‏ فقال المستدل‏:‏ الدليل على ذلك أنه مسكر، تم المطلوب‏.‏
وكذلك لو تنازع اثنان في بعض أنواع الأشربة‏:‏ هل هو مسكر أم لا‏؟‏ / كما يسأل الناس كثيرًا عن بعض الأشربة ولا يكون السائل ممن يعلم أنها تسكر أو لا تسكر، ولكن قد علم أن كل مسكر حرام، فإذا ثبت عنده بخبر من يصدقه أو بغير ذلك من الأدلة أنه مسكر علم تحريمه، وكذلك سائر ما يقع الشك في اندراجه تحت قضية كلية من الأنواع والأعيان، مع العلم بحكم تلك القضية كتنازع الناس في النرد والشطرنج‏:‏ هل هما من الميسر أم لا‏؟‏ وتنازعهم في النبيذ المتنازع فيه، هل هو من الخمر أم لا‏؟‏ وتنازعهم في الحلف بالنذر والطلاق والعتاق، هل هو داخل في قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏2‏]‏ أم لا‏؟‏ وتنازعهم في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏237‏]‏ هل هو الزوج أو الولي المستقل‏؟‏ وأمثال ذلك‏.‏
وقد يحتاج الاستدلال إلى مقدمتين، لمن لم يعلم أن النبيذ المسكر المتنازع فيه محرم، ولم يعلم أن هذا المعين مسكر، فهو لا يعلم أنه محرم، حتى يعلم أنه مسكر، ويعلم أن كل مسكر حرام‏.‏ وقد يعلم أن هذا مسكر، ويعلم أن كل مسكر خمر، لكن لم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخمر؛ لقرب عهده بالإسلام، أو لنشأته بين جهال أو زنادقة يشكون في ذلك، أو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏ أو يعلم أن هذا خمر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخمر، لكن لم يعلم أن محمدًا رسول الله، أو لم يعلم أنه حرمها على جميع المؤمنين، بل ظن أنه أباحها لبعض الناس، فظن أنه منهم، كمن ظن أنه أباح شربها للتداوي أو غير ذلك‏.‏ فهذا لا يكفيه في العلم / بتحريم هذا النبيذ المسكر تحريمًا عامًا، إلا أن يعلم أنه مسكر وأنه خمر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم كل مسكر، وأنه رسول الله حقًا، فما حرمه حرمه الله، وأنه حرمه تحريمًا عامًا لم يبحه للتداوي أو للتلذذ‏.‏
ومما يبين أن تخصيص الاستدلال بمقدمتين باطل، أنهم قالوا في حد القياس الذي يشمل البرهاني والخطابي والجدلي والشعري والسوفسطائي‏:‏ إنه قول مؤلف من أقوال، أو عبارة عما ألف من أقوال، إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر، قالوا‏:‏ واحترزنا بقولنا‏:‏ من أقوال، عن القضية الواحدة التي تستلزم لذاتها صدق عكسها وعكس نقيضها، وكذب نقيضها وليست قياسًا‏.‏ قالوا‏:‏ ولم نقل‏:‏ مؤلف من مقدمات؛ لأنا لا يمكننا تعريف المقدمة ـ من حيث هي مقدمة ـ إلا بكونها جزء القياس‏.‏ فلو أخذناها في حد القياس كان دورًا، والقضية الخبرية إذا كانت جزء القياس سموها مقدمة، وإن كانت مستفادة بالقياس سموها نتيجة، وإن كانت مجردة عن ذلك سموها قضية، وتسمى ـ أيضًا ـ قضية مع تسميتها نتيجة ومقدمة، وهي الخبر وليست هي المبتدأ والخبر في اصطلاح النحاة، بل أعم منه، فإن المبتدأ والخبر لا يكون إلا جملة إسمية والقضية تكون جملة إسمية وفعلية، كما لو قيل‏:‏ قد كذب زيد، ومن كذب استحق التعزير ‏.‏
والمقصود هنا أنهم أرادوا بالقول ـ في قولهم‏:‏ القياس قول مؤلف من أقوال ـ القضية التي هي جملة تامة خبرية، لم يريدوا بذلك المفرد الذي هو / الحد، فإن القياس مشتمل على ثلاثة حدود‏:‏ أصغر وأوسط وأكبر، كما إذا قيل‏:‏ النبيذ المتنازع فيه مسكر، وكل مسكر حرام، فالنبيذ والمسكر والحرام كل منها مفرد، وهي الحدود في القياس‏.‏ فليس مرادهم بالقول هذا، بل مرادهم‏:‏ أن كل قضية قول، كما فسروا مرادهم بذلك‏.‏
ولهذا قالوا‏:‏ القياس قول مؤلف من أقوال، إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر‏.‏ واللازم إنما هي النتيجة، وهي قضية وخبر وجملة تامة وليست مفردًا‏.‏ ولذلك قالوا‏:‏ القياس قول مؤلف؛ فسموا مجموع القضيتين قولا، وإذا كانوا قد جعلوا القياس مؤلفًا من أقوال ـ وهي القضايا ـ لم يجب أن يراد بذلك قولان فقط؛ لأن لفظ الجميع إما أن يكون متناولا للاثنين فصاعدا كقوله‏:‏ ‏{‏فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏11‏]‏، وإما أن يراد به الثلاثة فصاعدًا، وهو الأصل عند الجمهور‏.‏ ولكن قد يراد به جنس العدد، فيتناول الاثنين فصاعدا ، ولا يكون الجمع مختصًا باثنين‏.‏
فإذا قالوا‏:‏ هو مؤلف من أقوال، إن أرادوا جنس العدد كان هذا المعنى من اثنين فصاعدًا، فيجوز أن يكون مؤلفا من ثلاث مقدمات وأربع مقدمات، فلا يختص بالاثنين، وإن أرادوا الجمع الحقيقي، لم يكن مؤلفًا إلا من ثلاث فصاعدًا، وهم قطعًا ما أرادوا هذا، لم يبق إلا الأول‏.‏
فإذا قيل‏:‏ هم يلتزمون ذلك‏.‏ ويقولون‏:‏ نحن نقول‏:‏ أقل ما يكون القياس / من مقدمتين، وقد يكون من مقدمات‏.‏
فيقال‏:‏ ولا هذا خلاف ما في كتبكم، فإنكم لا تلتزمون إلا مقدمتين فقط‏.‏ وقد صرحوا أن القياس الموصل إلى المطلوب، سواء كان اقترانيًا أو استثنائيًا، لا ينقص عن مقدمتين ولا يزيد عليهما، وعللوا ذلك بأن المطلوب المتحد لا يزيد على جزأين مبتدأ وخبر‏.‏
فإن كان القياس اقترانيًا، فكل واحد من جزأي المطلوب لابد وأن يناسب مقدمة منه‏.‏ أي يكون فيها إما مبتدأ وإما خبرًا، ولا يكون هو نفس المقدمة ‏.‏
قالوا‏:‏ وليس للمطلوب أكثر من جزأين‏.‏ فلا يفتقر إلى أكثر من مقدمتين‏.‏ وإن كان القياس استثنائيًا فلابد فيه من مقدمة شرطية متصلة أو منفصلة تكون مناسبة لكل المطلوب أو نقيضه، فلابد من مقدمة استثنائية فلا حاجة إلى ثالثة‏.‏
قالوا‏:‏ لكن ربما أدرج في القياس قول زائد على مقدمتي القياس، إما غير متعلق بالقياس أو متعلق به، والمتعلق بالقياس إما لترويج الكلام وتحسينه أو لبيان المقدمتين أو إحداهما، ويسمون هذا القياس المركب‏.‏
قالوا‏:‏ وحاصله يرجع إلى أقيسة متعددة سيقت لبيان مطلوب واحد، إلا أن القياس المبين للمطلوب بالذات منها ليس إلا واحدًا، والباقي / لبيان مقدمات القياس، قالوا‏:‏ ربما حذفوا بعض مقدمات القياس إما تعويلًا على فهم الذهن لها أو لترويج المغلطة؛ حتى لا يطلع على كذبها عند التصريح بها‏.‏
قالوا‏:‏ ثم إن كانت الأقيسة لبيان المقدمات، قد صرح فيها بنتائجها، فيسمى القياس مفصولًا وإلا فموصول، ومثلوا الموصول بقول القائل‏:‏ كل إنسان حيوان، وكل حيوان جسم، وكل جسم جوهر، فكل إنسان جوهر‏.‏ والمفصول بقولهم‏:‏ كل إنسان حيوان، وكل حيوان جسم، فكل إنسان جسم‏.‏ ثم يقول‏:‏ كل حيوان جسم، وكل جسم جوهر، فكل إنسان حيوان، فيلزم منهما أن كل إنسان جوهر‏.‏
فيقال لهم‏:‏ أما المطلوب الذي لا يزيد على جزأين فذاك في المنطوق به‏.‏ والمطلوب في العقل إنما هو شيء واحد لا اثنان، وهو ثبوت النسبة الحكمية أو انتفاؤها‏.‏ وإن شئت قلت‏:‏ اتصاف الموصوف بالصفة نفيًا أو إثباتًا، وإن شئت قلت‏:‏ نسبة المحمول إلى الموضوع والخبر إلى المبتدأ نفيًا وإثباتًا، وأمثال ذلك من العبارات الدالة على المعنى الواحد المقصود بالقضية‏.‏ فإذا كانت النتيجة أن النبيذ حرام أو ليس بحرام، أو الإنسان حساس أو ليس بحساس ونحو ذلك، فالمطلوب ثبوت التحريم للنبيذ أو انتفاؤه، وكذلك ثبوت الحس للإنسان أو انتفاؤه‏.‏ والمقدمة الواحدة إذا ناسبت ذلك / المطلوب حصل بها المقصود‏.‏ وقولنا النبيذ خمر يناسب المطلوب، وكذلك قولنا الإنسان حيوان‏.‏
فإذا كان الإنسان يعلم أن كل خمر حرام، ولكن يشك في النبيذ المتنازع فيه، هل يسمى في لغة الشارع خمرًا ‏؟‏ فقيل‏:‏ النبيد حرام؛ لأنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ كل مسكر خمر‏)‏ كانت القضية وهي قولنا‏:‏ قد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن كل مسكر خمر‏)‏‏:‏ يفيد تحريم النبيذ؛ وإن كان نفس قوله قد تضمن قضية أخرى‏.‏ والاستدلال بذلك مشروط بتقديم مقدمات معلومة عند المستمع، وهي أن ما صححه أهل العلم بالحديث، فقد وجب التصديق بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، وأن ما حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو حرام ونحو ذلك‏.‏ فلو لزم أن نذكر كل ما يتوقف عليه العلم، وإن كان معلومًا، كانت المقدمات أكثر من اثنتين، بل قد تكون أكثر من عشر‏.‏
وعلى ما قالوه، فينبغي لكل من استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول‏:‏ النبي حرم ذلك، وما حرمه فهو حرام، فهذا حرام، وكذلك يقول‏:‏ النبي أوجبه، وما أوجبه النبي فقد وجب، فإذا احتج على تحريم الأمهات والبنات ونحو ذلك، يحتاج أن يقول‏:‏ إن الله حرم هذا في القرآن وما حرمه الله فهو حرام‏.‏ وإذا احتج على وجوب الصلاة والزكاة والحج بمثل قول الله‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏، يقول‏:‏ إن الله أوجب الحج في / كتابه، وما أوجبه الله فهو واجب‏.‏ وأمثال ذلك مما يعتبره العقلاء لُكْنة وعِيّا وإيضاحًا للواضح، وزيادة قول لا حاجة إليها‏.‏
وهذا التطويل الذي لا يفيد في قياسهم نظير تطويلهم في حدودهم؛ كقولهم في حد الشمس‏:‏ إنها كوكب تطلع نهارًا‏.‏ وأمثال ذلك من الكلام الذي لا يفيد إلا تضييع الزمان، وإتعاب الأذهان، وكثرة الهذيان‏.‏ ثم إن الذين يتبعونهم في حدودهم وبراهينهم لا يزالون مختلفين في تحديد الأمور المعروفة بدون تحديدهم، ويتنازعون في البرهان على أمور مستغنية عن براهينهم‏.‏
وقولهم‏:‏ ليس للمطلوب أكثر من جزأين، فلا يفتقر إلى أكثر من مقدمتين، فيقال‏:‏ إن أردتم ليس له إلا اسمان مفردان، فليس الأمر كذلك، بل قد يكون التعبير عنه بأسماء متعددة، مثل من شك في النبيذ؛ هل هو حرام بالنص أم ليس حرامًا لا بنص ولا قياس‏؟‏ فإذا قال المجيب‏:‏ النبيذ حرام بالنص، كان المطلوب ثلاثة أجزاء، وكذلك لو سأل‏:‏ هل الإجماع دليل قطعي‏؟‏ فقال‏:‏ الإجماع دليل قطعي، كان المطلوب ثلاثة أجزاء، وإذا قال‏:‏ هل الإنسان جسم حساس نام متحرك بالإرادة ناطق أم لا‏؟‏ فالمطلوب هنا ستة أجزاء‏.‏
وفي الجملـة، فالموضـوع والمحمول الذي هو مبتدأ وخبر، وهو جملة خبرية، قد تكون جملة مركبــة من لفظين، وقد تكون من ألفاظ متعــددة إذا كــان / مضمونها مقيدًا بقيود كثيرة، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 100‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 218‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 75‏]‏، وأمثال ذلك من القيود التي يسميها النحاة الصفات والعطف والأحوال وظرف المكان وظرف الزمان ونحو ذلك‏.‏
وإذا كانت القضية مقيدة بقيود كثيرة لم تكن مؤلفة من لفظين، بل من ألفاظ متعددة ومعان متعددة، وإن أريد أن المطلوب ليس إلا معنيان، سواء عبر عنهما بلفظين أو ألفاظ متعددة، قيل‏:‏ وليس الأمر كذلك، بل قد يكون المطلوب معنى واحدًا، وقد يكون معنيين، وقد يكون معان متعددة، فإن المطلوب بحسب طلب الطالب، وهو الناظر المستدل والسائل المتعلم المناظر، وكل منهما قد يطلب معنى واحدًا، وقد يطلب معنيين، وقد يطلب معاني، والعبارة عن مطلوبه، قد تكون بلفظ واحد، وقد تكون بلفظين وقد تكون بأكثر‏.‏ فإذا قال‏:‏ النبيذ حرام، فقيل له‏:‏ نعم، كان هذا اللفظ وحده كافيًا في جوابه، كما لو قيل له‏:‏ هو حرام‏.‏
فإن قالوا‏:‏ القضية الواحدة قد تكون في تقدير قضايا، كما ذكرتموه من التمثيل بالإنسان، فإن هذه القضية الواحدة في تقدير خمس قضايا وهي خمس مطالب، والتقدير‏:‏ هل هو جسم أم لا‏؟‏ وهل هو حساس أم لا‏؟‏ وهل / هو نام أم لا‏؟‏ وهل هو متحرك أم لا‏؟‏ وهل هو ناطق أم لا‏؟‏وكذلك فيما تقدم‏:‏ هل النبيذ حرام أم لا‏؟‏ وإذا كان حرامًا فهل تحريمه بالنص أو بالقياس ‏؟‏ فيقال‏:‏ إذا رضيتم بمثل هذا وهو أن تجعلوا الواحد في تقدير عدد، فالمفرد قد يكون في معنى قضية، فإذا قال‏:‏ النبيذ المسكر حرام فقال المجيب‏:‏ نعم، فلفظ ‏[‏نعم‏]‏ في تقدير قوله‏:‏ هو حرام؛ وإن قال‏:‏ ما الدليل عليه‏؟‏ فقال‏:‏ تحريم كل مسكر أو أن كل مسكر حرام، وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏ ونحو ذلك من العبارات التي جعل الدليل فيها اسمًا مفردًا، وهو جزء واحد، لم يجعله قضية مؤلفة من اسمين مبتدأ وخبر، فإن قوله‏:‏ تحريم كل مسكر اسم مضاف‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏أن كل مسكر حرام‏)‏ بالفتح مفرد أيضًا، فإن أن وما في خبرها في تقدير المصدر المفرد، وإن المكسورة وما في خبرها جملة تامة‏.‏
وكذلك إذا قلت‏:‏ الدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم، أو الدليل عليه النص، أو إجماع الصحابة، أو الدليل عليه الآية الفلانية، أو الحديث الفلاني، أو الدليل عليه قيام المقتضي للتحريم السالم عن المعارض المقاوم، أو الدليل عليه أنه مشارك لخمر العنب فيما يستلزم التحريم، وأمثال ذلك فيما يعبر فيه عن الدليل باسم مفرد لا بالقضية التي هي جملة تامة‏.‏
ثم هذا الدليل الذي عبر عنه باسم مفرد هو إذا فصل عبر عنه بألفاظ متعددة‏.‏
/والمقصود أن قولكم‏:‏ إن الدليل الذي هو القياس لا يكون إلا جزأين فقط، إن أردتم لفظين فقط، وأن ما زاد على لفظين فهو أدلة لا دليل واحد؛ لأن ذلك اللفظ الموصوف بصفات تحتاج كل صفة إلى دليل‏.‏
قيل لكم‏:‏ وكذلك يمكن أن يقال في اللفظين‏:‏ هما دليلان لا دليل واحد، فإن كل مقدمة تحتاج إلى دليل، وحينئذ فتخصيص العدد باثنين دون ما زاد تحكم لا معنى له، فإنه إذا كان المقصود قد يحصل بلفظ مفرد وقد لا يحصل إلا بلفظين وقد لا يحصل إلا بثلاثة أو بأربعة وأكثر، فجعل الجاعل اللفظين هما الأصل الواجب دون ما زاد وما نقص، وأن الزائد إن كان في المطلوب جعل مطالب متعددة، وإن كان في الدليل تذكر مقدمات، جعل ذلك في تقدير أقيسة متعددة تحكم محض، ليس هو أولى من أن يقال‏:‏ بل الأصل في المطلوب أن يكون واحدًا ودليله جزءًا واحدًا، فإذا زاد المطلوب على ذلك جعل مطلوبين، أو ثلاثة أو أربعة بحسب دلالته، وهذا إذا قيل، فهو أحسن من قولهم؛ لأن اسم الدليل مفرد فيجعل معناه مفردًا، والقياس هو الدليل‏.‏
ولفظ ‏[‏القياس‏]‏ يقتضي التقدير، كما يقال‏:‏ قست هذا بهذا، والتقدير يحصل بواحد؛ وإذا قدر باثنين وثلاثة يكون تقديرين وثلاثة لا تقديرًا واحدًا، فتكون تلك التقديرات أقيسة لا قياسًا واحدًا، فجعلهم ما زاد على الاثنين من المقدمات في معنى أقيسة متعددة، وما نقص عن الاثنين نصف / قياس لا قياس تام، اصطلاح محض لا يرجع إلى معنى معقول، كما فرقوا بين الصفات الذاتية والعرضية اللازمة للماهية والوجود بمثل هذا التحكم‏.‏
وحينئذ، فيعلم أن القوم لم يرجعوا فيما سموه حدًا وبرهانًا إلى حقيقة موجودة ولا أمر معقول، بل إلى اصطلاح مجرد، كتنازع الناس في ‏[‏العلة‏]‏، هل هي اسم لما يستلزم المعلول بحيث لا يتخلف عنها بحال فلا يقبل النقيض والتخصيص، أو هو اسم لما يكون مقتضيًا للمعلول، وقد يتخلف عنه المعلول لفوات شرط أو وجود مانع، وكاصطلاح بعض أهل النظر والجدل في تسمية أحدهم ‏[‏الدليل‏]‏ لما هو مستلزم للمدلول مطلقًا، حتى يدخل في ذلك عدم المعارض، والآخر يسمى الدليل لما كان من شأنه أن يستلزم المدلول، وإنما يتخلف استلزامه لفوات شرط أو وجود مانع‏.‏ وتنازع أهل الجدل، هل على المستدل أن يتعرض في ذكر الدليل لتبيين المعارض جملة أو تفصيلا حيث يمكن التفصيل، أو لا يتعرض لا جملة ولا تفصيلا، أو يتعرض لتبيينه جملة لا تفصيلا‏.‏
وهذه أمور وضعية اصطلاحية بمنزلة الألفاظ التي يصطلح عليها الناس للتعبير عما في أنفسهم ليست حقائق ثابتة في أنفسها لأمور معقولة تتفق فيها الأمم كما يدعية هؤلاء في منطقهم، بل هؤلاء الذين يجعلون العلة والدليل يراد به هذا أو هذا أقرب إلى المعقول من جعل هؤلاء الدليل لا يكون إلا من مقدمتين، فإن هذا تخصيص لعدد دون عدد بلا موجب، وأولئك / لحظوا صفات ثابتة في العلة والدليل، وهو وصف التمام أو مجرد الاقتضاء، فكان ما اعتبره أولئك أولى بالحق والعقل مما اعتبره هؤلاء، الذين لم يرجعوا إلا إلى مجرد التحكم‏.‏
ولهذا كان العقلاء العارفون يصفون منطقهم بأنه أمر اصطلاحي، وضعه رجل من اليونان، لا يحتاج إليه العقلاء، ولا طلب العقلاء للعلم موقوفًا عليه كما ليس موقوفًا على التعبير بلغاتهم، مثل‏:‏ فيلاسوفيا، وسوفسطيقا، وأنولوطيقا وآثولوجيا، وقاطيغورياس، ونحو ذلك من لغاتهم التي يعبرون بها عن معانيهم فلا يقول أحد‏:‏ إن سائر العقلاء محتاجون إلى هذه اللغة‏.‏ لا سيما من كرمه الله بأشرف اللغات الجامعة لأكمل مراتب البيان المبينة لما تتصوره الأذهان بأوجز لفظ وأكمل تعريف‏.‏