فَصْــل استلزام الخوف والرجاء للمحبة ـ ب ـ
 

/ثم إنه لما طال الأمد صار في طوائف المتكلمة من المعتزلة وغيرهم من ينكر هذه المحبة‏.‏
وصار في بعض المتصوفة من يطلب تحريكها بأنواع من سماع الحديث كالتغيير، وسماع المكاء والتصدية، فيسمعون من الأقوال والأشعار ما فيه تحريك جنس الحب الذي يحرك من كل قلب ما فيه من الحب بحيث يصلح لمحب الأوثان والصلبان والإخوان والأوطان والمردان والنسوان كما يصلح لمحب الرحمن، ولكن كان الذين يحضرونه من الشيوخ يشترطون له المكان والإمكان والخلان، وربما اشترطوا له الشيخ الذي يحرس من الشيطان، ثم توسع في ذلك غيرهم حتى خرجوا فيه إلى أنواع من المعاصي، بل إلى أنواع من الفسوق، بل خرج فيه طوائف إلى الكفر الصريح بحيث يتواجدون على أنواع من الأشعار التي فيها الكفر والإلحاد، مما هو من أعظم أنواع الفساد، وينتج ذلك لهم من الأحوال بحسبه، كما تنتج لعباد المشركين وأهل الكتاب عباداتهم بحسبها‏.‏
والذي عليه محققو المشائخ أنه كما قال الجنيد ـ رحمه اللّه‏:‏ من تكلف السماع فتن به، ومن صادفه السماع استراح به، ومعنى ذلك أنه لا يشرع الاجتماع لهذا السماع المحدث، ولا يؤمر به، ولا يتخذ ذلك دينًا، وقربة، فإن القرب والعبادات إنما تؤخذ عن الرسل ـ صلوات اللّه وسلامه عليهم ـ فكما أنه لا حرام إلا ما حرمه اللّه ولا دين إلا ما شرعه اللّه‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 21‏]‏؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏، فجعل محبتهم للّه موجبة لمتابعة رسوله، وجعل متابعة رسوله موجبة لمحبة اللّه لهم، قال أبي بن كعب ـ رضي اللّه عنه‏:‏ عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر اللّه فاقشعر جلده من مخافة اللّه إلا تحاتت عنه خطاياه، كما يتحات الورق اليابس عن الشجرة، وما من عبد على السبيل والسنة ذكر اللّه خاليًا ففاضت عيناه من خشية اللّه إلا لم تمسه النار أبدًا، وإن اقتصادًا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا أن تكون أعمالكم اقتصادًا واجتهادًا على منهاج الأنبياء وسنتهم، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏
فلو كان هذا مما يؤمر به ويستحب وتصلح به القلوب للمعبود المحبوب، لكان ذلك مما دلت الأدلة الشرعية عليه‏.‏ ومن المعلوم أنه لم يكن في القرون الثلاثة المفضلة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خير القرون قرني الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم‏)‏ لا في الحجاز، ولا في الشام، ولا في اليمن، ولا في العراق، ولا في مصر، ولا في خُرَاسان أحد من أهل الخير والدين يجتمع على السماع المبتدع لصلاح القلوب؛ ولهذا كرهه الأئمة كالإمام أحمد وغيره، حتى عده الشافعي من أحداث الزنادقة حين قال‏:‏ خلفت ببغداد شيئًا أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير ، يصدون به الناس عن القرآن‏.‏
/وأما ما لم يقصده الإنسان من الاستماع، فلا يترتب عليه لا نهي ولا ذم باتفاق الأئمة؛ ولهذا إنما يترتب الذم والمدح على الاستماع لا على السماع، فالمستمع للقرآن يثاب عليه والسامع له من غير قصد وإرادة لا يثاب على ذلك؛إذ الأعمال بالنيات، وكذلك ما ينهى عن استماعه من الملاهي لو سمعه السامع بدون قصده لم يضره ذلك، فلو سمع السامع بيتًا يناسب بعض حاله فحرك ساكنه المحمود وأزعج قاطنه المحبوب أو تمثل بذلك ونحو ذلك لم يكن هذا مما ينهى عنه، وكان المحمود الحسن حركة قلبه التي يحبها اللّه ورسوله إلى محبته التي تتضمن فعل ما يحبه اللّه وترك ما يكرهه اللّه، كالذي اجتاز بيتًا فسمع قائلًا يقول‏:‏
كل يوم تتلون ** غير هذا بك أجمل
فأخذ منه إشارة تناسب حاله، فإن الإشارات من باب القياس والاعتبار وضرب الأمثال‏.‏
ومسألة ‏[‏السماع‏]‏ كبيرة منتشرة قد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع‏.‏
والمقصود هنا أن المقاصد المطلوبة للمريدين تحصل بالسماع الإيماني القرآني النبوي الديني الشرعي الذي هو سماع النبيين، وسماع العالمين، وسماع العارفين، وسماع المؤمنين‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ‏}‏إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 58‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 107ــ 109‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 83‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 2‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ‏}‏ الآية ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏‏.‏
وكما مدح المقبلين على هذا السماع فقد ذم المعرضين عنه في مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏‏[‏لقمان‏:‏ 6، 7‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 73‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِين َ‏.‏ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ‏.‏ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ‏}‏‏[‏المدثر‏:‏ 49 ـ 51‏]‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ‏.‏ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ‏}‏ الآية ‏[‏الأنفال‏:‏ 22، 23‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ‏}‏‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِين َ‏.‏ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ‏.‏ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 49 ـ 51‏]‏ ومثل هذا كثير في القرآن‏.‏
وهذا كان سماع سلف الأمة وأكابر مشائخها وأئمتها كالصحابة والتابعين ومن بعدهم من المشائخ كإبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، ويوسف بن أسباط، وحذيفة المرعشي، وأمثال هؤلاء‏.‏
وكان عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ يقول لأبي موسى الأشعري‏:‏ يا أبا موسى، ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يسمعون ويبكون‏.‏ وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ القرآن والباقي يستمعون، وقد ثبت في الصحيح‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ، فجعل يستمع لقراءته وقال‏:‏ ‏(‏لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك‏)‏، فقال‏:‏ لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا، أي‏:‏ لحسنته لك تحسينًا، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏زينوا القرآن بأصواتكم‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏للّه أشد أذنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته‏)‏ ـ أذنا أي‏:‏ استماعًا ـ كقوله‏:‏ ‏{‏وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 2‏]‏ أي‏:‏ استمعت، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أذن اللّه لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن يجهر به‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏ليس منا من لم يتغن بالقرآن‏)‏‏.‏
/ولهذا السماع من المواجيد العظيمة، والأذواق الكريمة، ومزيد المعارف والأحوال الجسيمة ما لا يتسع له خطاب، ولا يحويه كتاب، كما أن في تدبر القرآن وتفهمه من مزيد العلم والإيمان ما لا يحيط به بيان‏.‏
ومما ينبغي التفطن له أن اللّه ـ سبحانه ـ قال في كتابه‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏، قال طائفة من السلف‏:‏ ادعي قوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون اللّه فأنزل اللّه هذه الآية‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ‏}‏ الآية ، فبين ـ سبحانه ـ أن محبته توجب اتباع الرسول، وأن اتباع الرسول يوجب محبة اللّه للعبد، وهذه محبة امتحن اللّه بها أهل دعوى محبة اللّه، فإن هذا الباب تكثر فيه الدعاوى والاشتباه؛ ولهذا يروي عن ذي النون المصري أنهم تكلموا في مسألة المحبة عنده فقال‏:‏ اسكتوا عن هذه المسألة لئلا تسمعها النفوس فتدعيها‏.‏
وقال بعضهم‏:‏ من عبد اللّه بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد اللّه بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد، وذلك؛ لأن الحب المجرد تنبسط النفوس فيه حتى تتوسع في أهوائها، إذا لم يزعها وازع الخشية للّه حتى قالت اليهود والنصارى‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 18‏]‏، ويوجد في مدعي المحبة من مخالفة الشريعة ما لا يوجد في أهل الخشية؛ ولهذا قرن الخشية بها في قوله‏:‏ / ‏{‏هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ‏.‏ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ‏.‏ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ‏}‏‏[‏ق‏:‏ 32ـ34‏]‏‏.‏
وكان المشائخ المصنفون في السنة يذكرون في عقائدهم مجانبة من يكثر دعوى المحبة والخوض فيها من غير خشية؛ لما في ذلك من الفساد الذي وقع فيه طوائف من المتصوفة، وما وقع في هؤلاء من فساد الاعتقاد، والأعمال أوجب إنكار طوائف لأصل طريقة المتصوفة بالكلية، حتى صار المنحرفون صنفين ‏:‏
صنف يقر بحقها وباطلها‏.‏
وصنف ينكر حقها وباطلها، كما عليه طوائف من أهل الكلام والفقه‏.‏
والصواب إنما هو الإقرار بما فيها ، وفي غيرها من موافقة الكتاب، والسنة ، والإنكار لما فيها وفي غيرها من مخالفة الكتاب والسنة‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ‏}‏، فاتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وشريعته باطنًا وظاهرًا هي موجب محبة اللّه، كما أن الجهاد في سبيله، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه هو حقيقتها، كما في الحديث‏:‏ ‏(‏أوثق عرى الإيمان الحب في اللّه، والبغض في اللّه‏)‏، / وفي الحديث‏:‏ ‏(‏من أحب للّه، وأبغض للّه، وأعطى للّه، ومنع للّه، فقد استكمل الإيمان‏)‏‏.‏
وكثير ممن يدعي المحبة هو أبعد من غيره عن اتباع السنة، وعن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل اللّه، ويدعي مع هذا أن ذلك أكمل لطريق المحبة من غيره؛ لزعمه أن طريق المحبة للّه ليس فيه غيره، ولا غضب للّه، وهذا خلاف ما دل عليه الكتاب والسنة؛ ولهذا في الحديث المأثور، يقول اللّه ـ تعالى ـ يوم القيامة‏:‏ ‏(‏أين المتحابون بجلالي‏؟‏ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي‏)‏، فقوله‏:‏ أين المتحابون بجلال اللّه تنبيه على ما في قلوبهم من إجلال اللّه وتعظيمه مع التحاب فيه، وبذلك يكونون حافظين لحدوده، دون الذين لا يحفظون حدوده لضعف الإيمان في قلوبهم، وهؤلاء الذين جاء فيهم الحديث‏:‏ ‏(‏حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتجالسين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتباذلين في‏)‏، والأحاديث في المتحابين في اللّه كثيرة‏.‏
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه‏:‏ ‏(‏سبعة يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة اللّه، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه، ورجلان تحابا في اللّه اجتمعا وتفرقا عليه‏.‏ ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر اللّه خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة / ذات منصب وجمال فقال‏:‏ إني أخاف الله رب العالمين‏)‏‏.‏
وأصل المحبة‏:‏ هو معرفة اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ ولها أصلان‏:‏
أحدهما‏:‏ وهو الذي يقال له‏:‏ محبة العامة؛ لأجل إحسانه إلى عباده، وهذه المحبة على هذا الأصل لا ينكرها أحد، فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، واللّه ـ سبحانه ـ هو المنعم المحسن إلى عبده بالحقيقة، فإنه المتفضل بجميع النعم، وإن جرت بواسطة، إذ هو ميسر الوسائط؛ ومسبب الأسباب، ولكن هذه المحبة في الحقيقة إذا لم تجذب القلب إلى محبة اللّه نفسه، فما أحب العبد في الحقيقة إلا نفسه، وكذلك كل من أحب شيئًا لأجل إحسانه إليه فما أحب في الحقيقة إلا نفسه‏.‏ وهذا ليس بمذموم بل محمود‏.‏
وهذه المحبة هي المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أحبوا اللّه لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب اللّه، وأحبوا أهلي بحبي‏)‏، والمقتصر على هذه المحبة هو لم يعرف من جهة اللّه ما يستوجب أنه يحبه إلا إحسانه إليه، وهذا كما قالوا‏:‏ إن الحمد للّه على نوعين‏:‏
حمد هو شكر، وذلك لا يكون إلا على نعمته‏.‏
وحمد هو مدح وثناء عليه ومحبة له وهو بما يستحقه لنفسه ـ سبحانه ـ / فكذلك الحب، فإن الأصل الثاني فيه هو محبته لما هو له أهل، وهذا حب من عرف من اللّه ما يستحق أن يحب لأجله، وما من وجه من الوجوه التي يعرف اللّه بها مما دلت عليه أسماؤه وصفاته إلا وهو يستحق المحبة الكاملة من ذلك الوجه حتى جميع مفعولاته؛ إذ كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل؛ ولهذا استحق أن يكون محمودًا على كل حال، ويستحق أن يحمد على السراء، والضراء، وهذا أعلى وأكمل، وهذا حب الخاصة‏.‏
وهؤلاء هم الذين يطلبون لذة النظر إلى وجهه الكريم، ويتلذذون بذكره ومناجاته، ويكون ذلك لهم أعظم من الماء للسمك، حتى لو انقطعوا عن ذلك لوجدوا من الألم ما لا يطيقون، وهم السابقون كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ مر النبي صلى الله عليه وسلم بجبل يقال له‏:‏ جمدان، فقال‏:‏ ‏(‏سيروا هذا جمدان، سبق المفردون‏)‏، قالوا‏:‏ يا رسول اللّه، من المفردون‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الذاكرون اللّه كثيرًا والذاكرات‏)‏، وفي رواية أخرى قال‏:‏ ‏(‏المستهترون بذكر اللّه يضع الذكر عنهم أثقالهم، فيأتون الله يوم القيامة خفافًا‏)‏ والمستهتر بذكر الله يتولع به ينعم به كلف لا يفتر منه‏.‏
وفي حديث هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس ـ رضي اللّه عنهما ـ قال‏:‏ قال موسى‏:‏ يا رب، أي عبادك أحب إليك‏؟‏ قال‏:‏ الذي يذكرني ولا ينساني، قال‏:‏ أي عبادك أعلم‏؟‏ قال‏:‏ الذي يطلب علم الناس إلى علمه ليجد كلمة تدله على / هدى أو ترده عن ردى، قال أي عبادك أحكم‏؟‏ قال‏:‏ الذي يحكم على نفسه كما يحكم على غيره ويحكم لغيره كما يحكم لنفسه‏(‏3‏)‏‏.‏ فذكر في هذا الحديث الحب والعلم والعدل وذلك جماع الخير‏.‏
ومما ينبغي التفطن له أنه لا يجوز أن يظن في باب محبة اللّه ـ تعالى ـ ما يظن في محبة غيره مما هو من جنس التجني، والهجر، والقطيعة لغير سبب ونحو ذلك، مما قد يغلط فيه طوائف من الناس، حتى يتمثلون في حبه بجنس ما يتمثلون به في حب من يصد ويقطع بغير ذنب، أو يبعد من يتقرب إليه، وإن غلط في ذلك من غلط من المصنفين في رسائلهم حتى يكون مضمون كلامهم إقامة الحجة على اللّه، بل للّه الحجة البالغة‏.‏
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ ‏(‏يقول اللّه تعالى‏:‏ من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، ومن تقرب إلى شبرًا تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إلى ذراعًا تقربت إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة‏)‏‏.‏ وفي بعض الآثار يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏(‏أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي، وإن تابوا فأنا حبيبهم ـ لأن اللّه يحب التوابين ـ وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب حتى أطهرهم من المعائب‏)‏‏.‏
/وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 112‏]‏، قالوا‏:‏ الظلم‏:‏ أن يحمل عليه سيئات غيره، والهضم‏:‏ أن ينقص من حسنات نفسه‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 118‏]‏، وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يقول اللّه تعالى‏:‏ يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، ياعبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم، ياعبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه‏)‏‏.‏
ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس قال‏:‏ قال / رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سيد الاستغفار أن يقول العبد‏:‏ اللهم أنت ربي لا إله إلا اللّه أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبي فاغفرلي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏.‏ من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات في يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة‏)‏‏.‏
فالعبد دائما بين نعمة من اللّه يحتاج فيها إلى شكر، وذنب منه يحتاج فيه إلى الاستغفار، وكل من هذين من الأمور اللازمة للعبد دائمًا، فإنه لا يزال يتقلب في نعم اللّه وآلائه، ولا يزال محتاجًا إلى التوبة والاستغفار‏.‏
ولهذا كان سيد ولد آدم، وإمام المتقين محمد صلى الله عليه وسلم يستغفر في جميع الأحوال‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري‏:‏ ‏(‏أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فإني لأستغفر اللّه، وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة‏)‏، وفي صحيح مسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر اللّه في اليوم مائة مرة‏)‏، وقال عبد اللّه بن عمر‏:‏ كنا نعد لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول‏:‏ ‏(‏رب اغفر لي وتب على، إنك أنت التواب الغفور، مائة مرة‏)‏‏.‏
/ولهذا شرع الاستغفار في خواتيم الأعمال‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 17‏]‏، وقال بعضهم‏:‏ أحيوا الليل بالصلاة فلما كان وقت السحر، أمروا بالاستغفار، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا، وقال‏:‏ ‏(‏اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ياذا الجلال والإكرام‏)‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏ 198، 199‏]‏، وقد أمر اللّه نبيه بعد أن بلغ الرسالة، وجاهد في اللّه حق جهاده، وأتى بما أمر اللّه به مما لم يصل إليه أحد غيره ، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ‏.‏ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ‏.‏ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا‏}‏ ‏[‏سورة النصر‏]‏‏.‏
ولهذا كان قوام الدين بالتوحيد والاستغفار، كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ‏.‏ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ‏.‏ وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا‏}‏ الآية ‏[‏هود‏:‏ 1ـ3‏]‏، وقـال تعالـى‏:‏ ‏{‏فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 6‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 19‏]‏‏.‏
ولهذا جاء في الحديث ‏:‏ ‏(‏يقول الشيطان ‏:‏ أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا اللّه والاستغفار‏)‏ وقد قال يونس‏:‏ ‏{‏لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركب دابته يحمد اللّه ثم يكبر ثلاثا ويقول‏:‏ ‏(‏لا إله إلا أنت سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي‏)‏ ، وكفارة المجلس التي كان يختم بها المجلس‏:‏ ‏(‏سبحانك اللّهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك‏)‏‏.‏ واللّه أعلم، وصلى اللّه على محمد وسلم‏.‏
/وقال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية ـ رحمه اللّه تعالى ‏:‏
الحمد للّه، نستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ور سوله، صلى اللّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا‏.‏