فَصْــل: التفاضل في حقيقة الإيمان ـ أ ـ
 
فَصْــل
إذا تبين ذلك، فمعلوم أن هذا الباب يتفاضلون فيه تفاضلًا عظيمًا، وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان، وهم ينقسمون فيه، إلى عام، وخاص ؛ ولهذا كانت ربوبية الرب لهم فيها عموم وخصوص ؛ ولهذا كان الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل‏.‏ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏تَعِسَ عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطى رضي، وإن منع سخط‏)‏‏.‏
فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدرهم، وعبد الدينار، وعبد القطيفة، وعبد الخميصة‏.‏ وذكر ما فيه دعاء وخبر، وهو قوله‏:‏ ‏"‏تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش‏"‏، والنقش‏:‏ إخراج الشوكة من الرجل، والمنقاش ما يخرج به الشوكة، وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه، ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال، وقد وصف ذلك بأنه ‏(‏إذا أعطى رضى، وإذا منع سخط‏)‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 58‏]‏، فرضاهم لغير اللّه وسخطهم لغير اللّه، وهكذا حال من كان متعلقًا برئاسة أو بصورة ونحو ذلك من أهواء نفسه إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب، واستعبده فهو عبده، ولهذا يقال‏:‏
العبـد حـر مـا قنـع ** والحر عبد ما طمع
وقال القائل‏:‏
أطعت مطامعي فاستعبدتني ** ولو أنى قنعت لكنت حرًا
ويقال‏:‏ الطمع غل في العنق، قيد في الرجل، فإذا زال الغل من العنق زال القيد من الرجل‏.‏ ويروي عن عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ أنه قال‏:‏ الطمع فقر، واليأس غني، وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه‏.‏ وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه، فإن الأمر الذي ييأس منه لا يطلبه، ولا يطمع به، ولا يبقى قلبه فقيرًا إليه، ولا إلى من يفعله، وأما إذا طمع في أمر من الأمور، ورجاه تعلق قلبه به، فصار فقيرًا إلى حصوله، وإلى من يظن أنه سبب في حصوله، وهذا في المال والجاه، والصور وغير ذلك‏.‏ قال الخليل صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏‏[‏العنكبوت17‏]‏‏.‏
/فالعبد لابد له من رزق، وهو محتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من اللّه صار عبدًا للّه، فقيرًا إليه، وإن طلبه من مخلوق صار عبدًا لذلك المخلوق فقيرًا إليه‏.‏
ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة‏.‏ وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد‏.‏ كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعَة لحم‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خُدوشًا أو خُموشًا، أو كدوحًا في وجهه‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏لا تحل المسألة إلا لذي غرم مفظع، أو دم موجع، أو فقر مدقع‏)‏، هذا المعنى في الصحيح‏.‏ وفيه أيضًا‏:‏ ‏(‏لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه، أو منعوه‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل، ولا مشرف فخذه، وما لا فلاتتبعه نفسك‏)‏ فكره أخـذه من سؤال اللسان واستشراف القلب، وقال في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏من يستغن يغنه اللّه، ومن يستعفف يعفه اللّه، ومن يتصبر يصبره اللّه، وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر‏)‏ وأوصى خواص أصحابه ألا يسألوا الناس شيئًا وفي المسند‏:‏ إن أبا بكر كان يسقط السوط من يده، فلا يقول لأحد ناولني إياه، ويقول‏:‏ إن خليلي أمرني ألا أسأل الناس شيئًا‏.‏ وفي صحيح مسلم وغيره، عن عوف ابن مالك‏:‏ أن /النبي صلى الله عليه وسلم بايعه في طائفة وأسر إليهم كلمة خفية‏:‏ ‏(‏ألا تسألوا الناس شيئًا‏)‏، فكان بعض أولئك النفر يسقط السوط من يد أحدهم، ولا يقول لأحد‏:‏ ناولني إياه‏.‏
وقد دلت النصوص على الأمر بمسألة الخالق، والنهي عن مسألة المخلوق، في غير موضع‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ‏.‏ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 7، 8‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس‏:‏ ‏(‏إذا سألت فاسأل اللّه، وإذا استعنت فاستعن باللّه‏)‏، ومنه قول الخليل‏:‏ ‏{‏فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 17‏]‏، ولم يقل‏:‏ فابتغوا الرزق عند اللّه؛ لأن تقديم الظرف يشعر بالاختصاص والحصر، كأنه قال‏:‏ لا تبتغوا الرزق إلا عند اللّه‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 32‏]‏، والإنسان لابد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه، ودفع ما يضره، وكلا الأمرين شرع له أن يكون دعاؤه للّه، فله أن يسأل اللّه، وإليه يشتكي، كما قال يعقوب ـ عليه السلام ـ‏:‏ ‏{‏قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 86‏]‏‏.‏
واللّه ـ تعالى ـ ذكر في القرآن الهجر الجميل، والصفح الجميل، والصبر الجميل‏.‏
وقد قيل‏:‏ إن الهجر الجميل، هو هجر بلا أذى‏.‏ والصفح الجميل صفح بلا معاتبة‏.‏ والصبر الجميل، صبر بغير شكوى إلى المخلوق؛ ولهذا قرئ على أحمد بن حنبل في مرضه أن طاوسًا كان يكره أنين / المريض، ويقول‏:‏ إنه شكوى فما أنَّ أحمد حتى مات ‏.‏
وأما الشكوى إلى الخالق، فلا تنافى الصبر الجميل، فإن يعقوب قال‏:‏ ‏{‏فَصَبْرٌ جَمِيلٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 83‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّه‏}‏، وكان عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ يقرأ في الفجر بسورة يونس، و يوسف، والنحل، فمر بهذه الآية في قراءته فبكى حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف، ومن دعاء موسى‏:‏ ‏(‏اللّهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك‏)‏‏.‏ وفي الدعاء الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لما فعل به أهل الطائف ما فعلوا‏:‏ ‏(‏اللّهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي‏.‏ اللّهم إلى من تكلني‏؟‏ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب على فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل على غضبك، لك العتبى حتى ترضى، فلا حول ولا قوة إلا بك ـ وفي بعض الروايات ـ ولا حول ولا قوة إلا بك‏)‏‏.‏
وكلما قوى طمع العبد في فضل اللّه ورحمته، ورجائه لقضاء حاجته، ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما سواه، فكما أن طمعه في / المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه‏.‏ كما قيل‏:‏ استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره‏.‏ فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من غير اللّه، والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية للّه، لاسيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق، بحيث يكون قلبه معتمدًا إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه، وإما على أهله وأصدقائه، وإما على أمواله وذخائره، وإما على ساداته وكبرائه، كمالكه وملكه، وشيخه ومخدومه وغيرهم، ممن هو قد مات أو يموت‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 58‏]‏‏.‏
وكل من علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه، أو يرزقوه، أو أن يهدوه خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميرًا لهم مدبرًا لهم متصرفًا بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيرًا لها، تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها؛ لأنه زوجها‏.‏ وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها لا سيما إذا درت بفقره إليها، وعشقه لها، وأنه لا يعتاض عنها بغيرها، فإنها حينئذ تحكم فيه بحـكم السيد القاهـر الظـالم في عبده المقهور، الذي لا يستطيع الخلاص / منه، بل أعظم، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استعبد بدنه واسترق لا يبالي، إذا كان قلبه مستريحًا من ذلك مطمئنًا، بل يمكنه الاحتىال في الخلاص‏.‏ وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقًا مستعبدًا، متيمًا لغير اللّه فهذا هو الذل، والأسر المحض، والعبودية لما استعبد القلب‏.‏
وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، فإن المسلم لو أسره كافر، أو استرقه فاجر بغيرحق لم يضره ذلك إذا كان قائمًا بما يقدر عليه من الواجبات، ومن استعبد بحق، إذا أدى حق اللّه وحق مواليه له أجران، ولو أكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان، لم يضره ذلك، وأما من استعبد قلبه، فصار عبدًا لغير اللّه، فهذا يضره ذلك، ولو كان في الظاهر ملك الناس‏.‏
فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس‏)‏، وهذا لعمري إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة، فأما من استعبد قلبه صورة محرمة، امرأة أو صبي، فهذا هو العذاب الذي لا يدان فيه‏.‏ وهؤلاء من أعظم الناس عذابًا وأقلهم ثوابًا، فإن العاشق لصورة إذا بقى قلبه متعلقًا بها، مستعبدًا لها اجتمع له من / أنواع الشر والفساد، ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى، فدوام تعلق القلب بها بلا فعل الفاحشة أشد ضررًا عليه، ممن يفعل ذنبًا ثم يتوب منه ويزول أثره من قلبه، وهؤلاء يشبهون بالسكارى والمجانين‏.‏ كما قيل‏:‏
سكران سكر هوى وسكر مدامـــة ** ومتى إفاقة من بـــه سكران
وقيل‏:‏
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ** العشق أعظم مما بالمجانـــــين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبــه ** وإنما يصرع المجنون في الحـين
ومن أعظم أسباب هذا البلاء‏:‏ إعراض القلب عن اللّه، فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة اللّه، والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب، والإنسان لا يترك محبوبًا إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه، أو خوفًا من مكروه، فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر‏.‏
/قال ـ تعالى ـ في حق يوسف‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 42‏]‏‏.‏ فاللّه يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه للّه‏.‏
ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية للّه والإخلاص له، تغلبه نفسه على اتباع هواها، فإذا ذاق طعـم الإخـلاص وقوى في قلبه انقهر له هـواه بلا علاج‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏، فإن الصلاة فيها دفع للمكروه، وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل المحبوب، وهو ذكر اللّه، وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع المكروه، فإن ذكر اللّه عبادة للّه، وعبادة القلب للّه مقصودة لذاتها‏.‏ وأما اندفاع الشر عنه، فهو مقصود لغيره على سبيل التبع‏.‏
والقلب خلق يحب الحق، ويريده، ويطلبه‏.‏ فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك، فإنه يفسد القلب، كما يفسد الزرع، بما ينبت فيه من الدغل؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا‏.‏ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 9، 10‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ‏.‏ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 14، 15‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 30‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 21‏]‏، فجعل ـ سبحانه ـ غض البصر، وحفظ الفرج هو أزكى / للنفس، وبين أن ترك الفواحش من زكاة النفوس، وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب، وغير ذلك‏.‏
وكذلك طالب الرئاسة، والعلو في الأرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم، فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم فيبذل لهم الأموال والولايات ويعفو عنهم ليطيعوه، ويعينوه، فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم، والتحقيق أن كليهما فيه عبودية للآخر، وكلاهما تارك لحقيقة عبادة اللّه، وإذا كان تعاونهما على العلو في الأرض بغير الحق، كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع الطريق، فكل واحد من الشخصين لهواه الذي استعبده واسترقه يستعبده الآخر‏.‏
وهكذا ـ أيضًا ـ طالب المال ؛ فإن ذلك يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان‏:‏
منها‏:‏ ما يحتاج العبد إليه، كما يحتاج إليه من طعامه وشرابه ومسكنه ومنكحه، ونحو ذلك‏.‏ فهذا يطلبه من اللّه ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيه حاجته من غير أن يستعبده، فيكون هلوعًا / إذا مسه الشر جزوعًا، وإذا مسه الخير منوعًا‏.‏
ومنها‏:‏ ما لا يحتاج العبد إليه، فهذه لا ينبغي له أن يعلق قلبه بها، فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبدًا لها، وربما صار معتمدًا على غير اللّه، فلا يبقى معه حقيقة العبادة للّه، ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير اللّه، وشعبة من التوكل على غير اللّه، وهذا من أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة‏)‏، وهذا هو عبد هذه الأمور، فلو طلبها من اللّه، فإن اللّه إذا أعطاه إياها رضي، وإذا منعه إياها سخط، وإنما عبد اللّه من يرضيه ما يرضي اللّه، ويسخطه ما يسخط اللّه، ويحب ما أحبه اللّه ورسوله، ويبغض ما أبغضه اللّه ورسوله، ويوالي أولياء اللّه، ويعادي أعداء اللّه ـ تعالى ـ وهذا هو الذي استكمل الإيمان‏.‏ كما في الحديث‏:‏ ‏(‏من أحب للّه، وأبغض للّه، وأعطى للّّه، ومنع للّه فقد استكمل الإيمان‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏أوثق عُرَى الإيمان‏:‏ الحب في اللّه، والبغض في اللّه‏)‏‏.‏