فَصْـــل في موجبات المغفرة
 
فَصْـــل
وأما قول السائل‏:‏ هل الاعتراف بالخطيئة بمجرده مع التوحيد موجب لغفرانها وكشف الكربة الصادرة عنها، أم يحتاج إلى شيء آخر‏؟‏
فجوابه‏:‏ أن الموجب للغفران مع التوحيد هو التوبة المأمور بها، فإن الشرك لا يغفره اللّه إلا بتوبة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48، 116‏]‏ في موضعين من القرآن، وما دون الشرك فهو مع التوبة مغفور، وبدون التوبة معلق بالمشيئة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏ فهذا في حق التائبين؛ ولهذا عمم وأطلق، وحتم أنه يغفر الذنوب جميعًا، وقال في تلك الآية‏:‏ ‏{‏وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏ فخص ما دون الشرك وعلقه بالمشيئة فإذا كان الشرك لا يغفر إلا بتوبة، وأما ما دونه فيغفره اللّه للتائب، وقد يغفره بدون التوبة لمن يشاء‏.‏
فالاعتراف بالخطيئة مع التوحيد إن كان متضمنًا للتوبة أوجب المغفرة، وإذا غفر الذنب زالت عقوبته، فإن المغفرة هي وقاية شر الذنب‏.‏
ومن الناس من يقول‏:‏ الغفر الستر، ويقول‏:‏ إنما سمي المغفرة والغفار؛ لما فيه من معنى الستر، وتفسير اسم اللّه الغفار بأنه الستار‏.‏ وهذا تقصير في معنى الغفر، فإن المغفرة معناها وقاية شر الذنب بحيث لا يعاقب على الذنب، فمن غفر ذنبه لم يعاقب عليه‏.‏ وأما مجرد ستره فقد يعاقب عليه في الباطن، ومن عوقب على الذنب باطنًا أو ظاهرًا فلم يغفر له،وإنما يكون غفران الذنب إذا لم يعاقب عليه العقوبة المستحقة بالذنب‏.‏
وأما إذا ابتلى مع ذلك بما يكون سببًا في حقه لزيادة أجره فهذا لا ينافى المغفرة‏.‏
/وكذلك إذا كان من تمام التوبة أن يأتي بحسنات يفعلها، فإن من يشترط في التوبة من تمام التوبة، وقد يظن الظان أنه تائب ولا يكون تائبًا بل يكون تاركًا، والتارك غير التائب، فإنه قد يعرض عن الذنب لعدم خطوره بباله أو المقتضى لعجزه عنه، أو تنتفي إرادته له بسبب غير ديني، وهذا ليس بتوبة، بل لابد من أن يعتقد أنه سيئة ويكره فعله لنهي اللّه عنه ويدعه للّه تعالى، لا لرغبة مخلوق ولا لرهبة مخلوق، فإن التوبة من أعظم الحسنات، والحسنات كلها يشترك فيها الإخلاص للّه وموافقة أمره، كما قال الفضيل بن عياض في قوله‏:‏ ‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 2‏]‏ قال‏:‏ أخلصه وأصوبه، قالوا‏:‏ يا أبا على، ما أخلصه وأصوبه‏؟‏ قال‏:‏ إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا‏.‏ والخالص أن يكون للّه، والصواب أن يكون على السنة‏.‏
وكان عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ يقول في دعائه‏:‏ اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا‏.‏
وبسط الكلام في التوبة له موضع آخر‏.‏
وأما الاعتراف بالذنب على وجه الخضوع للّه من غير إقلاع عنه فهذا في نفس الاستغفار المجرد الذي لا توبة معه، وهو كالذي يسأل / اللّه تعالى أن يغفر له الذنب مع كونه لم يتب منه، وهذا يأس من رحمة الله، ولا يقطع بالمغفرة له فإنه داع دعوة مجردة‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من داع يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا كان بين إحدى ثلاث‏:‏ إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الجزاء مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول اللّه، إذًا نكثر قال‏:‏ ‏(‏اللّه أكثر‏)‏‏.‏ فمثل هذا الدعاء قد تحصل معه المغفرة، وإذا لم تحصل فلابد أن يحصل معه صرف شر آخر أو حصول خير آخر، فهو نافع كما ينفع كل دعاء‏.‏
وقول من قال من العلماء‏:‏ الاستغفار مع الإصرار توبة الكذابين، فهذا إذا كان المستغفر يقوله على وجه التوبة أو يدعي أن استغفاره توبة، وأنه تائب بهذا الاستغفار فلا ريب أنه مع الإصرار لا يكون تائبًا، فإن التوبة والإصرار ضدان‏:‏ الإصرار يضاد التوبة، لكن لا يضاد الاستغفار بدون التوبة‏.‏