فَصْـــل في شرح طريق الشيخ عبد القادر وشيخه الدباس
 
فَصْـــل
فأمر الشيخ عبد القادر وشيخه حماد الدباس وغيرهما من المشائخ أهل الاستقامة ـ رضي اللّه عنهم ـ‏:‏ بأنه لا يريد السالك مرادًا قط، وأنه لا يريد مع إرادة اللّه ـ عز وجل ـ سواها، بل يجرى فعله فيه، فيكون هو مراد الحق، إنما قصدوا به فيما لم يعلم العبد أمر اللّه ورسوله فيه، فأما ما علم أن اللّه أمر به فعليه أن يريده ويعمل به، وقد صرحوا بذلك في غير موضع‏.‏ وإن كان غيرهم من الغالطين يري القيام بالإرادة الخلقية هو الكمال، وهو الفناء في توحيد الربوبية، وأن السلوك إذا انتهى إلى هذا الحد، فصاحبه إذا قام بالأمر فلأجل غيره، أو أنه لا يحتاج أن يقوم بالأمر، فتلك أقوال وطرائق فاسدة قد تكلم عليها في غير هذا الموضع‏.‏
فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشائخ السلف، مثل الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني ومعروف / الكرخي، والسري السقطي، والجنيد ابن محمد، وغيرهم من المتقدمين ومثل الشيخ عبد القادر، والشيخ حماد، والشيخ أبي البيان، وغيرهم من المتأخرين، فهم لا يسوغون للمسالك ولو طار في الهواء أو مشى على الماء أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين بل عليه أن يفعل المأمور، ويدع المحظور إلى أن يموت، وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف‏.‏
وهذا كثير في كلامهم‏:‏ كقول الشيخ عبد القادر في كتاب ‏[‏فتوح الغيب‏]‏‏:‏ ‏[‏اخرج من نفسك، وتنح عنها، وانعزل عن ملكك، وسلم الكل إلى اللّه تبارك وتعالى، وكن بوابه علي باب قلبك، وامتثل أمره تبارك وتعالى في إدخال من يأمرك بإدخاله، وانته نهيه في صد من يأمرك بصده، فلا تدخل الهوى قلبك بعد أن خرج منه، وإخراج الهوى من القلب بمخالفته وترك متابعته في الأحوال كلها، وإدخاله في القلب بمتابعته وموافقته، فلا ترد إرادة غير إرادته تبارك وتعالى، وغير ذلك منك غير، وهو واد الحمقى، وفيه حتفك وهلاكك وسقوطك من عينه تبارك وتعالى، وحجابك عنه‏.‏
احفظ أبدا أمره، وانته أبدا نهيه، وسلم إليه أبدا مقدوره، ولا تشركه بشيء من خلقه، فإرادتك وهواك وشهواتك خلقه، فلا ترد ولا تهوى ولا تشته لئلا يكون شركا‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 110‏]‏ ليس الشرك عبادة الأصنام فحسب؛ بل هو أيضًا متابعتك لهواك، وأن تختار مع ربك شيئًا سواه من الدنيا وما فيها، والآخرة وما فيها، فما سواه تبارك وتعالى غيره، فإذا ركنت إلى غيره فقد أشركت به غيره، فاحذر ولا تركن، وخف ولا تأمن، وفتش ولا تغفل فتطمئن، ولا تضف إلى نفسك حالًا ولا مقامًا، ولاتدع شيئًا من ذلك‏]‏‏.‏
وقال الشيخ عبد القادر أيضًا‏:‏ ‏[‏إنما هو اللّه ونفسك، وأنت المخاطب، والنفس ضد اللّه وعدوته، والأشياء كلها تابعة للّه، فإذا وافقت الحق في مخالفة النفس وعداوتها كنت خصمًا له على نفسك‏]‏ ـ إلى أن قال ـ‏:‏
‏[‏فالعبادة في مخالفتك نفسك وهواك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 26‏]‏ ‏]‏ إلى أن قال‏:‏
‏[‏والحكاية المشهورة عن أبي يزيد البسطامي ـ رحمه اللّه تعالى ـ لما رأي رب العزة في المنام فقال له‏:‏ كيف الطريق إليك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏[‏اترك نفسك وتعال‏]‏ قال أبو يزيد‏:‏ فانسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها‏.‏
فإذا ثبت أن الخير كله في معاداتها في الجملة في الأحوال كلها، فإن / كنت في حال التقوى فخالف النفس بأن تخرج من إجرام الخلق، وشبههم ومنتهم، والاتكال عليهم والثقة بهم، والخوف منهم؛ والرجاء لهم، والطمع فيما عندهم من حطام الدنيا، فلا ترج عطاءهم على طريق الهدية، أو الزكاة، أو الصدقة، أو الكفارة أو النذر، فاقطع همك منهم من سائر الوجوه والأسباب، فاخرج من الخلق جدًا، واجعلهم كالباب يرد ويفتتح، وكالشجرة يوجد فيها ثمرة تارة وتحيل أخرى، كل ذلك بفعل فاعل، وتدبير مدبر، وهو اللّه ـ تبارك وتعالى‏.‏
فإذا صح لك هذا كنت موحدًا له ـ تبارك وتعالى ـ ولا تنس مع ذلك كسبهم لتتخلص من مذهب الجبرية، واعتقد أن الأفعال لا تتم لهم دون اللّه ـ تبارك وتعالى ـ لكيلا تعبدهم، وتنسى اللّه ـ تعالى ـ ولا تقبل فعلهم دون اللّه فتكفر، وتكون قدريًا‏.‏ ولكن قل‏:‏ هي للّه خلقًا وللعباد كسبا‏.‏ كما جاءت به الآثار لبيان موضع الجزاء من الثواب والعقاب، وامتثل أمر اللّه فيهم وخلص قسمك منهم بأمره ولا تجاوزه، فحكمه قائم يحكم عليك وعليهم، فلا تكن أنت الحاكم، وكونك معهم قدر، والقدر ظلمة، فادخل في الظلمة بالمصباح وهو الحكم ـ كتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ـ لا تخرج عنهما‏.‏
فإن خطر خاطر أو وجدت إلهاما فاعرضهما على الكتاب والسنة، فإن وجدت فيهما تحريم ذلك، مثل أن تلهم بالزنا أو الربا أو مخالطة / أهل الفسوق والفجور وغير ذلك من المعاصي فادفعه عنك، واهجره ولاتقبله، ولاتعمل به واقطع بأنه من الشيطان اللعين، وإن وجدت فيهما إباحته كالشهوات المباحه من الأكل والشرب واللبس والنكاح فاهجره أيضًا ولا تقبله، واعلم أنه من إلهام النفس وشهواتها، وقد أمرت بمخالفتها وعداوتها‏]‏
قلت‏:‏ ومراده بهجر المباح، إذا لم يكن مأمورًا به، كما قد بين مراده في غير هذا الموضع، فإن المباح المأمور به إذا فعله بحكم الأمر كان ذلك من أعظم نعمة اللّه عليه، وكان واجبًا عليه، وقد قدمت أنه يدعو إلى طريقة السابقين المقربين؛ لا يقف عند طريقة الأبرار أصحاب اليمين‏]‏‏.‏
قال‏:‏ ‏[‏وإن لم تجد في الكتاب والسنة تحريمه ولا إباحته بل هو أمر لا تعقله، مثل أن يقال لك‏:‏ ائت موضع كذا وكذا، الق فلانًا الصالح، ولا حاجة لك هناك ولا في الصالح، لاستغنائك عنه بما أولاك اللّه تعالى من نعمه من العلم والمعرفة، فتوقف في ذلك ولا تبادر إليه، فتقول‏:‏ هل هذا إلهام إلا من الحق فأعمل به‏؟‏ بل أنتظر الخير في ذلك، وفعل الحق بأن يتكرر ذلك الإلهام وتؤمر بالسعي، أو علامة تظهر لأهل العلم باللّه تبارك وتعالى يفعلها العقلاء من أولياء اللّه، والمؤيدون من الأبدال‏.‏
وإنما لم تبادر إلى ذلك لأنك لا تعلم عاقبته وما يؤول الأمر إليه، وربما / كان فيه فتنة وهلاك ومكر من اللّه وامتحان، فاصبر حتى يكون عز وجل هو الفاعل فيك، فإذا تجرد الفعل وحملت إلى هناك واستقبلتك فتنة كنت محمولًا محفوظًا فيها؛ لأن اللّه تعالى لا يعاقبك على فعله، وإنما تتطرق العقوبات نحوك لكونك في الشىء‏]‏‏.‏
قلت‏:‏ فقد أمر ـ رضي اللّه عنه ـ بأن ما كان محظورًا في الشرع يجب تركه ولابد، وما كان معلومًا أنه مباح بعينه لكونه يفعل بحكم الهوى لا بأمر الشارع فيترك أيضًا، وأما ما لم يعلم هل هو بعينه مباح لا مضرة فيه أو فيه مضرة مثل السفر إلى مكان معين أو شخص معين، والذهاب إلى مكان معين أو شخص معين، فإن جنس هذا العمل ليس محرمًا ولا كل أفراده مباحة؛ بل يحرم على الإنسان أن يذهب إلى حيث يحصل له ضرر في دينه فأمره بالكف عن الذهاب حتى يظهر أو يتبين له في الباطن أن هذا مصلحة؛ لأنه إذا لم يتبين له أن الذهاب واجب أو مستحب لم ينبغ له فعله، وإذا خاف الضرر ينبغي له تركه، فإذا أكره على الذهاب لم يكن عليه حرج فلا يؤاخذ بالفعل، لخلاف ما إذا فعله باختياره أو شهوته؛ وإذ تبين له أنه مصلحة راجحة كان حسنًا‏.‏
وقد جاءت شواهد السنة بأن من ابتلى بغير تعرض منه أعين ومن تعرض للبلاء خيف عليه‏.‏ مثل قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة‏:‏ ‏(‏لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها / عن غير مسألة أعنت عليها‏)‏، ومنه قوله‏:‏ ‏(‏لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا اللّه العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا‏)‏‏.‏ وفي السنن‏:‏ ‏(‏من سأل القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إليه، ومن لم يسأل القضاء ولم يستعن عليه أنزل اللّه عليه ملكًا يسدده ـ وفي رواية ـ وإن أكره عليه‏)‏، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال في الطاعون‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه‏)‏، وعنه أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر‏.‏ ومنه قوله‏:‏ ‏(‏ذروني ماتركتم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏)‏‏.‏