فَصْـــل في العبادة والاستعانة والطاعة والمعصية
 
قالَ شيخُ الإِسْــلاَم ـ رَحِمَه اللَّه تَعَالَى‏:‏
فَصْـــل
حدثني أبي عن محيى الدين بن النحاس؛ وأظني سمعتها منه أنه رأى الشيخ عبد القادر في منامه وهو يقول إخبارًا عن الحق تعالى‏:‏ ‏(‏من جاءنا تلقيناه من البعيد، ومن تصرف بحولنا ألنا له الحديد، ومن اتبع مرادنا أردنا ما يريد، ومن ترك من أجلنا أعطيناه فوق المزيد‏)‏‏.‏
قلت‏:‏ هذا من جهة الرب ـ تبارك وتعالى‏:‏
فالأولتان‏:‏ العبادة والاستعانة، والآخرتان‏:‏ الطاعة والمعصية، فالذهاب إلى اللّه هي عبادته وحده كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏من تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إلىّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة‏)‏‏.‏
والتقرب بحوله هو الاستعانة، والتوكل عليه، فإنه لا حول ولا / قوة إلا باللّه‏.‏ وفي الأثر‏:‏ ‏(‏من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه‏)‏‏.‏ وعن سعيد بن جبير‏:‏ ‏(‏التوكل جماع الإيمان‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 3‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 9‏]‏، وهذا على أصح القولين في أن التوكل عليه ـ بمنزلة الدعاء على أصح القولين أيضًا ـ سبب لجلب المنافع ودفع المضار، فإنه يفيد قوة العبد وتصريف الكون ولهذا هو الغالب على ذوي الأحوال متشرعهم وغير متشرعهم، وبه يتصرفون ويؤثرون تارة بما يوافق الأمر، وتارة بما يخالفه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏(‏ومن اتبع مرادنا‏)‏ يعني‏:‏ المراد الشرعي كقوله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 28‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ‏}‏‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ هذا هو طاعة أمره، وقد جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏وأنت يا عمر لو أطعت اللّه لأطاعك‏)‏، وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه‏)‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 26‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏(‏ومن ترك من أجلنا أعطيناه فوق المزيد‏)‏‏.‏ يعني‏:‏ ترك ما كره اللّه من المحرم والمكروه لأجل اللّه‏:‏ رجاء ومحبة وخشية أعطيناه فوق المزيد؛ لأن هذا مقام الصبر، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 10‏]‏‏.‏