سُئلَ شَيْخُ الإسـلام عما ذكر الأستاذ القشيري في ‏(‏ باب الرضا‏) ‏ـ ب ـ
 

وطريق اللّه التي يأمر بها المشائخ المهتدون‏:‏ إنما هي الأمر بطاعة اللّه والنهي عن معصيته‏.‏ فمن أمر أو استحب أو مدح الرضا الذي يكرهه اللّه ويذمه وينهى عنه ويعاقب أصحابه فهو عدو للّه لا ولى للّه وهو يصد عن سبيل اللّه وطريقه، ليس بسالك لطريقه وسبيله‏.‏ وإذا كان الرضا الموجود في بني آدم منه ما يحبه اللّه، ومنه ما يكرهه ويسخطه، ومنه ما هو مباح لا من هذا ولا من هذا، كسائر أعمال القلوب من الحب والبغض وغير ذلك، كلها تنقسم إلى محبوب للّه ومكروه للّه مباح‏.‏
/فإذا كان الأمر كذلك فالراضي الذي لا يسأل اللّه الجنة ولا يستعيذه من النار يقال له‏:‏ سؤال اللّه الجنة واستعاذته من النار إما أن تكون واجبة، وإما أن تكون مستحبة، وإما أن تكون مباحة، وإما أن تكون مكروهة، ولا يقول مسلم‏:‏ إنها محرمة ولامكروهة، وليست أيضًا مباحة مستوية الطرفين‏.‏ ولو قيل‏:‏ إنها كذلك ففعل المباح المستوى الطرفين لا ينافي الرضا؛ إذ ليس من شرط الراضي ألا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يفعل أمثال هذه الأمور، فإذا كان ما يفعله من هذه الأمور لا ينافي رضاه، أينافي رضاه دعاء وسؤال هو مباح‏؟‏‏!‏ وإذا كان السؤال والدعاء كذلك واجبا أو مستحبا فمعلوم أن اللّه يرضى بفعل الواجبات والمستحبات، فكيف يكون الراضي الذي من أولياء اللّه لا يفعل ما يرضاه ويحبه؛ بل يفعل ما يسخطه ويكرهه وهذه صفة أعداء اللّه لا أولياء اللّه‏.‏
والقشيري قد ذكره في أوائل باب الرضا فقال‏:‏ اعلم أن الواجب على العبد أن يرضى بقضاء اللّه الذي أمـر بالرضا به، إذ ليس كـل ماهو بقضائه يجـوز للعبد أو يجب على العبد الرضا به‏.‏ كالمعاصي وفنون محن المسلمين‏.‏ وهذا الذي قاله، قاله قبله وبعده ومعه غير واحد من العلماء‏:‏ كالقاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى وأمثالهما، لمـا احتج عليهم القدرية بأن الرضا بقضاء اللّه مأمور به، فلو كانت المعاصي / بقضاء اللّه لكنا مأمورين بالرضا بها، والرضـا بما نهى اللّه عنه لا يجـوز فأجابهم أهـل السنة عن ذلك بثلاثة أجوبة‏:‏
أحدها ـ وهو جواب هؤلاء وجماهير الأئمة ـ‏:‏ أن هذا العموم ليس بصحيح، فلسنا مأمورين أن نرضى بكل ما قضى وقدر، ولم يجئ في الكتاب والسنة أمر بذلك، ولكن علينا أن نرضي بما أمرنا أن نرضى به، كطاعة اللّه ورسوله‏.‏ وهذا هو الذي ذكره أبو القاسم‏.‏
والجواب الثاني‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ إنا نرضى بالقضاء الذي هو صفة اللّه أو فعله لا بالمقضي الذي هو مفعوله‏.‏ وفي هذا الجواب ضعف قد بيناه في غير هذا الموضع‏.‏
الثالث‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ هذه المعاصي لها وجهان‏:‏ وجه إلى العبد من حيث هي فعله وصنعه وكسبه، ووجه إلى الرب من حيث هو خلقها وقضاها وقدرها، فيرضى من الوجه الذي يضاف به إلى اللّه، ولا يرضى من الوجه الذي يضاف به إلى العبد، إذ كونها شرًا وقبيحة ومحرمًا وسببًا للعذاب والذم ونحو ذلك إنما هو من جهة كونها مضافة إلى العبد‏.‏ وهذا مقام فيه من كشف الحقائق والأسرار ما قد ذكرنا منه ما قد ذكرناه في غيرهذا الموضع، ولا يحتمله هذا المكان‏.‏ فإن / هذا متعلق بمسائل الصفات والقدر، وهي من أعظم مطالب الدين وأشرف علوم الأولين والآخرين وأدقها على عقول أكثر العالمين‏.‏
والمقصود هنا أن مشائخ الصوفية والعلماء وغيرهم قد بينوا أن من الرضا ما يكون جائزًا، ومنه مالا يكون جائزًا فضلا عن كونه مستحبًا أو من صفات المقربين، وإن أبا القاسم ذكر ذلك في ‏[‏الرسالة‏]‏ أيضًا‏.‏
فإن قيل‏:‏ هذا الذي ذكـرتموه أمر بين واضح، فمن أين غلط من قال‏:‏ الرضـا ألا تسأل اللّه الجنة ولا تستعيذه من النار‏؟‏ وغلـط من يستحسن مثل هـذا الكلام كائنا من كان‏؟‏‏.‏
قيل‏:‏ غلطوا في ذلك لأنهم رأوا أن الراضي بأمر لا يطلب غير ذلك الأمر، فالعبد إذا كان في حال من الأحوال فمن رضاه ألا يطلب غير تلك الحال، ثم إنهم رأوا أن أقصى المطالب الجنة، وأقصى المكاره النار‏.‏ فقالوا‏:‏ ينبغي ألايطلب شيئًا ولو أنه الجنة ولا يكره ما يناله، ولو أنه النار، وهذا وجه غلطهم، ودخل عليهم الضلال من وجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ ظنهم أن الرضا بكل ما يكون أمر يحبه اللّه ويرضاه / وأن هذا من أعظم طرق أولياء اللّه، فجعلوا الرضا بكل حادث وكائن أو بكل حال يكون فيها للعبد طريقًا إلى اللّه، فضلوا ضلالًا مبينًا والطـريق إلى اللّه إنمـا هي أن ترضيه بأن تفعـل مايحبه ويرضاه ليس أن ترضى بكل مـا يحدث ويكـون، فإنه هو لـم يأمـرك بذلـك، ولا رضيه لـك ولا أحبه؛ بـل هـو ـ سبحانه ـ يكـره ويسخـط ويبغض عـلى أعيـان أفعال موجـودة لا يحصيها إلا هو، وولاية اللّه موافقته بأن تحب ما يحب وتبغض ما يبغض، وتكره ما يكره، وتسخط ما يسخط، وتوالي من يوالي، وتعادي من يعادي، فإذا كنت تحب وترضى ما يكرهه ويسخطه كنـت عدوه لا وليّه، وكان كل ذم نال من رضى ما أسخط اللّه قد نالك‏.‏
فتدبر هذا؛ فإنه ينبه على أصل عظيم ضل فيه من طوائف النساك والصوفية والعباد والعامة من لا يحصيهم إلا اللّه‏.‏
الوجه الثاني‏:‏ أنهم لا يفرقون بين الدعاء الذي أمروا به أمر إيجاب، وأمر استحباب، وبين الدعاء الذي نهوا عنه، أو لم يؤمروا به ولم ينهوا عنه، فإن دعاء العبد لربه ومسألته إياه ثلاثة أنواع‏:‏
نوع أمر العبد به إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب‏:‏ مثل / قوله‏:‏ ‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏، ومثل دعائه في آخر الصلاة كالدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر به أصحابه فقال‏:‏ ‏(‏إذا قعد أحدكم في الصلاة فليستعذ باللّه من أربع‏:‏ من عذاب جهنم، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال‏)‏‏.‏ فهذا دعاء أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوا به في آخر صلاتهم‏.‏ وقد اتفقت الأمة على أنه مشروع يحبه اللّه ورسوله ويرضاه، وتنازعوا في وجوبه‏.‏ فأوجبه طاووس وطائفة، وهو قول في مذهب أحمد رضي اللّه عنه، والأكثرون قالوا‏:‏ هذا مستحب، والأدعية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بها‏:‏ لا تخرج عن أن تكون واجبة، أو مستحبة، وكل واحد من الواجب والمستحب يحبه اللّه ويرضاه، ومن فعله ـ رضي اللّه عنه وأرضاه ـ فهل يكون من الرضا ترك ما يحبه ويرضاه‏؟‏‏!‏
ونوع من الدعاء ينهي عنه‏:‏ كالاعتداء مثل أن يسأل الرجل مالا يصلح من خصائص الأنبياء، وليس هو بنبي، وربما هو من خصائص الرب سبحانه وتعالى‏.‏ مثل أن يسأل لنفسه الوسيلة التي لا تصلح إلا لعبد من عباده، أو يسأل اللّه تعالى أن يجعله بكل شيء عليمًا، أو على كل شيء قدير، وأن يرفع عنه كل حجاب يمنعه من مطالعة الغيوب‏.‏ وأمثال ذلك، أو مثل من يدعوه ظانًا أنه محتاج إلى عباده؛ وأنهم يبلغون ضره ونفعه فيطلب منه ذلك الفعل، ويذكر أنه إذا لم يفعله / حصل له من الخلق ضير‏.‏ وهذا ونحوه جهل بالله واعتداء في الدعاء‏.‏ وإن وقع في ذلك طائفة من الشيوخ‏.‏ ومثل أن يقولوا‏:‏ اللهم اغفر لي إن شئت، فيظن أن الله قد يفعل الشىء مكرها، وقد يفعل مختارًا، كالملوك، فيقول‏:‏ اغفر لي إن شئت، وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال‏:‏ ‏(‏لا يقل أحدكم‏:‏ اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة؛ فإن الله لا مكره له‏)‏، ومثل أن يقصد السجع في الدعاء ويتشهق ويتشدق، وأمثال ذلك فهذه الأدعية ونحوها منهي عنها‏.‏
ومن الدعاء ما هو مباح كطلب الفضول التي لامعصية فيها‏.‏
والمقصود أن الرضا الذي هو من طريق الله لا يتضمـن ترك واجب ولا ترك مستحب، فالدعاء الذي هو واجب أو مستحب لا يكون تركه من الرضا، كما أن ترك سائر الواجبات لا يكون من الرضا المشروع، ولا فعل المحرمات من المشروع‏.‏ فقد تبين غلط هؤلاء من جهة ظنهم أن الرضا مشروع بكل مقدور، ومن جهة أنهم لم يميزوا بين الدعاء المشروع إيجابا، واستحبابا، والدعاء غير المشروع‏.‏
وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن طلب الجنة من الله، والاستعاذة به من النار، هو من أعظم الأدعية المشروعة لجميع المرسلين / والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن ذلك لا يخرج عن كونه واجبًا أو مستحبا، وطريق أولياء الله التي يسلكونها لا تخرج عن فعل واجبات ومستحبات؛ إذ ما سوي ذلك محرم أو مكروه أو مباح لا منفعة فيه في الدين‏.‏
ثم إنه لما أوقع هؤلاء في هـذا الغلط أنهـم وجـدوا كثيـرًا من الناس لا يسألون الله جلب المنافع، ودفع المضار، حتى طلب الجنة، والاستعاذة من النار، من جهة كون ذلك عبادة وطاعة وخيرًا، بل من جهة كون النفس تطلب ذلك، فرأوا أن من الطريق ترك ما تختاره النفس وتريـده، وألا يكـون لأحـدهم إرادة أصـلا، بـل يكـون مطلـوبه الجريان تحت القدر ـ كائنًا من كان ـ وهذا هو الذي أدخل كثيرًا منهم في الرهبانية، والخروج عن الشرعية، حتى تركوا من الأكل والشرب واللباس والنكاح ما يحتاجون إليه، وما لا تتم مصلحة دينهم إلا به؛ فإنهم رأوا العامة تعد هذه الأمور بحكم الطبع والهوى والعادة، ومعلوم أن الأفعال التي على هذا الوجه لا تكون عبادة ولا طاعة ولا قربة، فرأي أولئك الطريق إلي الله ترك هذه العبادات، والأفعال الطبعيات، فلازموا من الجوع والسهر والخلوة والصمت وغير ذلك مما فيه ترك الحظوظ واحتمال المشاق، ما أوقعهم في ترك واجبات ومستحبات، وفعل مكروهات ومحرمات‏.‏
/وكلا الأمرين غير محمود، ولا مأمور به، ولا طريق إلى اللّه‏:‏ طريق المفرطين الذين فعلوا هذه الأفعال المحتاج إليها على غير وجه العبادة، والتقرب إلى اللّه، وطريق المعتدين الذين تركوا هذه الأفعال؛ بل المشروع أن تفعل بنية التقرب إلى اللّه، وأن يشكر اللّه‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 172‏]‏، فأمر بالأكل والشرب، فمن أكل ولم يشكر كان مذمومًا، ومن لم يأكل ولم يشكر كان مذمومًا، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها‏)‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد‏:‏ ‏(‏إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللّه، إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك‏)‏، وفي الصحيح أيضًا أنه قال‏:‏ ‏(‏نفقة المؤمن على أهله يحتسبها صدقة‏)‏‏.‏ فكذلك الأدعية هنا من الناس من يسأل اللّه جلب المنفعة له ودفع المضرة عنه طبعًا وعادة لا شرعًا وعبادة، فليس من المشروع أن أدع الدعاء مطلقًا لتقصيرهذا وتفريطه؛ بل أفعله أنا شرعًا وعبادة‏.‏
ثم اعلم أن الذي يفعله شرعًا وعبادة إنما يسعى في مصلحة نفسه وطلب حظوظه المحمودة فهو يطلب مصلحة دنياه وآخرته؛ بخلاف / الذي يفعله طبعًا فإنه إنما يطلب مصلحة دنياه فقط، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ‏.‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ‏.‏ أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 200-202‏]‏ وحينئذ فطالب الجنة والمستعيذ من النار إنما يطلب حسنة الآخرة فهو محمود‏.‏
ومما يبين الأمر في ذلك أن يرد قول هؤلاء‏:‏ بأن العبد لا يفعل مأمورًا ولا يترك محظورًا‏.‏ فلا يصلي ولا يصوم ولا يتصدق، ولا يحج ولا يجاهد ولا يفعل شيئًا من القربات، فإن ذلك إنما فائدته حصول الثواب ودفع العقاب‏.‏ فإذا كان هو لا يطلب حصول الثواب الذي هو الجنة، ولا دفع العقاب الذي هو النار، فلا يفعل مأمورًا، ولا يترك محظورًا، ويقول‏:‏ أنا راض بكل ما يفعله بي وإن كفرت وفسقت وعصيت؛ بل يقول‏:‏ أنا أكفر وأفسق وأعصى حتى يعاقبني وأرضى بعقابه فأنال درجة الرضا بقضائه، وهذا قول من هو من أجهل الخلق وأحمقهم وأضلهم وأكفرهم‏.‏
أما جهله وحمقه؛ فلأن الرضى بذلك ممتنع متعذر؛ لأن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين‏.‏
/وأما كفره؛ فلأنه مستلزم لتعطيل دين اللّه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه‏.‏
ولا ريب أن ملاحظة القضاء والقدر، أوقعت كثيرًا من أهل الإرادة من المتصوفة في أن تركوا من المأمور وفعلوا من المحظور ما صاروا به إما ناقصين محرومين، وإما عاصين فاسقين، وإما كافرين، وقد رأيت من ذلك ألوانا‏.‏ ‏{‏وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 40‏]‏‏.‏
وهؤلاء المعتزلة ونحوهم من القدرية طرفا نقيض ـ هؤلاء يلاحظون القدر ويعرضون عن الأمر‏.‏ وأولئك يلاحظون الأمر ويعرضون عن القدر ـ والطائفتان تظن أن ملاحظة الأمر والقدر متعذر‏.‏ كما أن طائفة تجعل ذلك مخالفًا للحكمة والعدل‏.‏ وهذه الأصناف الثلاثة هي‏:‏ القدرية المجوسية، والقدرية المشركية؛ والقدرية الإبليسية؛ وقد بسطنا الكلام عليهم في غير هذا الموضع‏.‏
وأصل ما يبتلى به السالكون أهل الإرادة والعامة في هذا الزمان هي القدرية المشركية، فيشهدون القدر ويعرضون عن الأمر، كما قال فيهم بعض العلماء‏:‏ أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به‏.‏ وإنما المشروع العكس، وهو أن يكون عند الطاعة يستعين اللّه عليهـا قبل الفعـل، ويشكره عليها بعد الفعل / ويجتهد ألا يعصى فإذا أذنب وعصى بادر إلى التوبة والاستغفار، كما في حديث سيد الاستغفار‏:‏ ‏(‏أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي‏)‏، وكما في الحديث الصحيح الإلهي‏:‏ ‏(‏ياعبادي، إنماهي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏)‏‏.‏
ومن هذا الباب دخل قوم من أهل الإرادة في ترك الدعاء، وآخرون جعلوا التوكل والمحبة من مقامات العامة، وأمثال هذه الأغاليط التي تكلمنا عليها في غير هذا الموضع، وبينا الفرق بين الصواب والخطأ في ذلك؛ ولهذا يوجد في كلام هؤلاء المشايخ الوصية باتباع العلم والشريعة، حتى قال سهل بن عبد اللّه التستري‏:‏ كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل‏.‏ وقال الجنيد بن محمد‏:‏ علمنا مقيد بالكتاب والسنة؛ فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصح أن يتكلم في علمنا، واللّه أعلم‏.‏