فصــل في الفرق بين الأمور الكونية والأمور الشرعية ـ ب ـ
 
فصــل
/وبين كرامات الأولياء وما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة‏:‏
منها‏:‏ أن ‏[‏كرامات الأولياء‏]‏ سببها الإيمان والتقوى، و‏[‏الأحوال الشيطانية‏]‏ سببها ما نهى الله عنه ورسوله‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏، فالقول على الله بغير علم والشرك والظلم والفواحش قد حرمها الله تعالى ورسوله فلا تكون سببًا لكرامة الله تعالى بالكرامات عليها، فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، بل تحصل بما يحبه الشيطان وبالأمور التي فيها شرك كالاستغاثة بالمخلوقات، أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق وفعل الفواحش، فهي من الأحوال الشيطانية لا من الكرامات الرحمانية‏.‏
ومن هؤلاء من إذا حضر سماع المكاء والتصدية يتنزل عليه شيطانه حتى يحمله في الهواء ويخرجه من تلك الدار، فإذا حصل رجل من أولياء الله تعالى طرد شيطانه فيسقط كما جرى هذا لغير واحد‏.‏
ومن هؤلاء من يستغيث بمخلوق إما حي أو ميت،سواء كان ذلك الحي مسلمًا أو نصرانيًا أو مشركًا، فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث/ به ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث، فيظن أنه ذلك الشخص أو هو ملك على صورته وإنما هو شيطان أضله لما أشرك بالله، كما كانت الشياطين تدخل الأصنام وتكلم المشركين‏.‏
ومن هؤلاء من يتصور له الشيطان، ويقول له‏:‏ أنا الخضر، وربما أخبره ببعض الأمور وأعانه على بعض مطالبه، كما قد جرى ذلك لغير واحد من المسلمين واليهود والنصارى وكثير من الكفار بأرض المشرق والمغرب، يموت لهم الميت فيأتي الشيطان بعد موته على صورته، وهم يعتقدون أنه ذلك الميت، ويقضي الديون، ويرد الودائع، ويفعل أشياء تتعلق بالميت، ويدخل على زوجته ويذهب، وربما يكونون قد أحرقوا ميتهم بالنار كما تصنع كفار الهند فيظنون أنه عاش بعد موته‏.‏
ومن هؤلاء شيخ كان بمصر أوصى خادمه فقال‏:‏ إذا أنا مت فلا تدع أحدًا يغسلني فأنا أجيء وأغسل نفسي فلما مات رأى خادمه شخصًا في صورته فاعتقد أنه هو دخل وغسل نفسه فلما قضى ذلك الداخل غسله ـ أي غسل الميت ـ غاب وكان ذلك شيطانًا، وكان قد أضل الميت، وقال‏:‏ إنك بعد الموت تجىء فتغسل نفسك، فلما مات جاء أيضًا في صورته ليغوي الأحياء كما أغوى الميت قبل ذلك‏.‏
/ومنهم من يرى عرشًا في الهواء وفوقه نور، ويسمع من يخاطبه ويقول‏:‏ أنا ربك، فإن كان من أهل المعرفة علم أنه شيطان فزجره واستعاذ بالله منه فيزول‏.‏ ومنهم من يرى أشخاصًا في اليقظة يدعي أحدهم أنه نبي أو صديق أو شيخ من الصالحين، وقد جرى هذا لغير واحد، ومنهم من يرى في منامه أن بعض الأكابر‏:‏ إما الصديق ـ رضى الله عنه ـ أو غيره قد قص شعره أو حلقه أو ألبسه طاقيته أو ثوبه فيصبح وعلى رأسه طاقية وشعره محلوق أو مقصر، وإنما الجن قد حلقوا شعره أو قصروه وهذه الأحوال الشيطانية تحصل لمن خرج عن الكتاب والسنة وهم درجات، والجن الذين يقترنون بهم من جنسهم وهم على مذهبهم، والجن فيهم الكافر والفاسق والمخطئ، فإن كان الإنسي كافرًا أو فاسقًا أو جاهلًا دخلوا معه في الكفر والفسوق والضلال، وقد يعاونوه إذا وافقهم على ما يختارونه من الكفر، مثل الإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه من الجن وغيرهم، ومثل أن يكتب أسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة أو يقلب فاتحة الكتاب أو سورة الإخلاص أو آية الكرسي أو غيرهن ويكتبهن بالنجاسة فيغورون له الماء، وينقلونه بسبب مايرضيهم به من الكفر، وقد يأتونه بما يهواه من امرأة أو صبي إما في الهواء وإما مدفوعًا ملجأ إليه‏.‏
إلى أمثال هذه الأمور التي يطول وصفها، والإيمان بها إيمان /بالجبت والطاغوت، والجبت السحر، والطاغوت الشياطين والأصنام‏.‏ وإن كان الرجل مطيعًا لله ورسوله باطنًا وظاهرًا لم يمكنهم الدخول معه في ذلك أو مسالمته‏.‏
ولهذا لما كانت عبادة المسلمين المشروعة في المساجد التي هي بيوت الله كان عمار المساجد أبعد عن الأحوال الشيطانية، وكان أهل الشرك والبدع يعظمون القبور ومشاهد الموتى فيدعون الميت أو يدعون به أو يعتقدون أن الدعاء عنده مستجاب أقرب إلى الأحوال الشيطانية، فإنه ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏‏.‏
وثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس ليال‏:‏ ‏(‏إن من أمَنًّ الناس عَلَىَّ في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلا من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله، لا يبقين في المسجد خَوْخَة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر، إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.‏
وفي الصحيحين عنه أنه ذكر له في مرضه كنيسة بأرض الحبشة، وذكروا من حسنها وتصاوير فيها فقال‏:‏ ‏(‏إن أولئك إذا مات فيهم/ الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيها تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة‏)‏‏.‏
وفي المسند وصحيح أبي حاتم عنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين اتخذوا القبور مساجد‏)‏‏.‏
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها‏)‏ وفي الموطأ عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏‏.‏
وفي السنن عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني‏)‏‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من رجل يسلم علي إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام‏)‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام‏)‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة؛ فإن صلاتكم معروضة علي‏)‏، قالوا‏:‏ يا رسول الله، كيف تعرض صلاتنا عليك وقد/ أرمت ـ أي بليت ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء‏)‏‏.‏
وقد قال الله تعالى في كتابه عن المشركين من قوم نوح عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا‏}‏ ‏[‏ نوح‏:‏ 23‏]‏ قال ابن عباس وغيره من السلف‏:‏ هؤلاء قوم كانوا صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم، فكان هذا مبدأ عبادة الأوثان‏.‏ فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد ليسد باب الشرك، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها؛ لأن المشركين يسجدون للشمس حينئذ، والشيطان يقارنها وقت الطلوع ووقت الغروب‏.‏ فتكون في الصلاة حينئذ مشابهة لصلاة المشركين، فسد هذا الباب‏.‏
والشيطان يضل بني آدم بحسب قدرته، فمن عبد الشمس والقمر والكواكب ودعاها ـ كما يفعل أهل دعوة الكواكب ـ فإنه ينزل عليه شيطان يخاطبه ويحدثه ببعض الأمور ويسمون ذلك روحانية الكواكب، وهو شيطان، والشيطان وإن أعان الإنسان على بعض مقاصده فإنه يضره أضعاف ما ينفعه، وعاقبة من أطاعه إلى شر إلا أن يتوب الله عليه، وكذلك عباد الأصنام قد تخاطبهم الشياطين، /وكذلك من استغاث بميت أو غائب، وكذلك من دعا الميت أو دعا به أو ظن أن الدعاء عند قبره أفضل منه في البيوت والمساجد، ويروون حديثًا هو كذب باتفاق أهل المعرفة وهو‏:‏ ‏(‏إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور‏)‏ وإنما هذا وضع من فتح باب الشرك‏.‏
ويوجد لأهل البدع وأهل الشرك المتشبهين بهم من عباد الأصنام والنصارى والضلال من المسلمين أحوال عند المشاهد يظنونها كرامات وهي من الشياطين‏:‏ مثل أن يضعوا سراويل عند القبر فيجدونه قد انعقد، أو يوضع عنده مصروع فيرون شيطانه قد فارقه‏.‏ يفعل الشيطان هذا ليضلهم، وإذا قرأت آية الكرسي هناك بصدق بطل هذا، فإن التوحيد يطرد الشيطان، ولهذا حمل بعضهم في الهواء فقال‏:‏ لا إله إلا الله فسقط ، ومثل أن يرى أحدهم أن القبر قد انشق وخرج منه إنسان فيظنه الميت وهو شيطان‏.‏
وهذا باب واسع لا يتسع له هذا الموضع‏.‏
ولما كان الانقطاع إلى المغارات والبوادي من البدع التي لم يشرعها الله ولا رسوله صارت الشياطين كثيرًا ما تأوى إلى المغارات والجبال‏:‏ مثل مغارة الدم التي بجبل قاسيون، وجبل لبنان الذي بساحل الشام، وجبل الفتح بأسوان بمصر، وجبال بالروم وخراسان وجبال بالجزيرة، /وغير ذلك، وجبل اللكام، وجبل الأحيش، وجبل سولان قرب أردبيل، وجبل شهنك عند تبريز وجبل ماشكو عند أقشوان، وجبل نهاوند، وغير ذلك من الجبال التي يظن بعض الناس أن بها رجالا من الصالحين من الإنس ويسمونهم رجال الغيب، وإنما هناك رجال من الجن، فالجن رجال كما أن الإنس رجال، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا‏}‏‏[‏ الجن‏:‏6‏]‏ ‏.‏
ومن هؤلاء من يظهر بصورة رجل شعراني جلده يشبه جلد الماعز فيظن من لا يعرفه أنه إنسي وإنما هو جني، ويقال‏:‏ بكل جبل من هذه الجبال الأربعون الأبدال، وهؤلاء الذين يظن أنهم الأبدال هم جن بهذه الجبال، كما يعرف ذلك بطرق متعددة‏.‏
وهذا باب لا يتسع هذا الموضع لبسطه وذكر ما نعرفه من ذلك، فإنا قد رأينا وسمعنا من ذلك ما يطول وصفه في هذا المختصر، الذي كتب لمن سأل أن نذكر له من الكلام على أولياء الله تعالى ما يعرف به جمل ذلك‏.‏
والناس في خوارق العادات على ثلاثة أقسام‏:‏
قسم يكذب بوجود ذلك لغير الأنبياء، وربما صدق به /مجملا وكذب ما يذكر له عن كثير من الناس لكونه عنده ليس من الأولياء‏.‏
ومنهم من يظن أن كل من كان له نوع من خرق العادة كان وليًا لله وكلا الأمرين خطأ، ولهذا تجد أن هؤلاء يذكرون أن للمشركين وأهل الكتاب نصراء يعينونهم على قتال المسلمين وأنهم من أولياء الله‏.‏ وأولئك يكذبون أن يكون معهم من له خرق عادة، والصواب القول الثالث، وهو أن معهم من ينصرهم من جنسهم لا من أولياء الله عز وجل كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ‏}‏ ‏[‏ المائدة‏:‏51‏]‏ وهؤلاء العباد والزهاد الذين ليسوا من أولياء الله المتقين المتبعين للكتاب والسنة تقترن بهم الشياطين فيكون لأحدهم من الخوارق ما يناسب حاله، لكن خوارق هؤلاء يعارض بعضها بعضًا، وإذا حصل من له تمكن من أولياء الله تعالى أبطلها عليهم، ولا بد أن يكون في أحدهم من الكذب جهلاً أو عمدًا‏.‏و من الإثم ما يناسب حال الشياطين المقترنة بهم ليفرق الله بذلك بين أوليائه المتقين وبين المتشبهين بهم من أولياء الشياطين‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏221، 222‏]‏ والأفاك‏:‏ الكذاب، والأثيم الفاجر‏.‏
ومن أعظم ما يقوى الأحوال الشيطانية سماع الغناء والملاهي، وهو سماع المشركين، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏35‏]‏، قال ابن عباس وابن عمر ـ رضي الله عنهم ـ وغيرهما من السلف‏:‏ ‏[‏التصدية‏]‏ التصفيق باليد، و‏[‏المكاء‏]‏ مثل الصفير، فكان المشركون يتخذون هذا عبادة، وأما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر ونحو ذلك، والاجتماعات الشرعية، ولم يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على استماع غناء قط لا بكف ولا بدف، ولا تواجد ولا سقطت بردته، بل كل ذلك كذب باتفاق أهل العلم بحديثه‏.‏
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ، والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول لأبي موسى الأشعري‏:‏ ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون‏.‏ ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال له‏:‏ ‏(‏مررت بك البارحة وأنت تقرأ، فجعلت أستمع لقراءتك‏)‏ فقال‏:‏ لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرًا ‏.‏أي‏:‏ لحسنته لك تحسينًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏زينوا القرآن بأصواتكم‏)‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لله أشد أذنًا ـ أي‏:‏ استماعًا ـ إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته‏)‏‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود‏:‏‏(‏اقرأ علي القرآن‏)‏ فقال‏:‏ أقرأ عليك وعليك أنزل ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إني أحب أن أسمعه من غيري‏)‏ فقرأت عليه سورة النساء، حتى انتـهيت إلى هـذه / الآية‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏41‏]‏ قال‏:‏ ‏[‏حسبك‏]‏، فإذا عيناه تذرفان من البكاء‏.‏
ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم، كما ذكره الله في القرآن فقال‏:‏‏{‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا‏}‏‏[‏ مريم‏:‏ 58‏]‏، وقال في أهل المعرفة‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏83‏]‏‏.‏ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان واقشعرار الجلد ودمع العين فقال تعالى‏:‏‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏‏[‏الزمر‏:‏23‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 2-4‏]‏‏.‏
وأما السماع المحدث، سماع الكف والدف والقصب، فلم تكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأكابر من أئمة الدين يجعلون هذا طريقًا إلى الله تبارك وتعالى، ولا يعدونه من القرب والطاعات، / بل يعدونه من البدع المذمومة، حتى قال الشافعي‏:‏ خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن، وأولياء الله العارفون يعرفون ذلك، ويعلمون أن للشيطان فيه نصيبًا وافرًا، ولهذا تاب منه خيار من حضره منهم‏.‏
ومن كان أبعد عن المعرفة وعن كمال ولاية الله كان نصيب الشيطان منه أكثر وهو بمنزلة الخمر، يؤثر في النفوس أعظم من تأثير الخمر؛ ولهذا إذا قويت سكرة أهله نزلت عليهم الشياطين، وتكلمت على ألسنة بعضهم، وحملت بعضهم في الهواء، وقد تحصل عداوة بينهم، كما تحصل بين شراب الخمر فتكون شياطين أحدهم أقوى من شياطين الآخر فيقتلونه، ويظن الجهال أن هذا من كرامات أولياء الله المتقين وإنما هذا مبعد لصاحبه عن الله وهو من أحوال الشياطين، فإن قتل المسلم لا يحل إلا بما أحله الله، فكيف يكون قتل المعصوم مما يكرم الله به أولياءه ‏؟‏‏!‏ وإنما غاية الكرامة لزوم الاستقامة، فلم يكرم الله عبدًا بمثل أن يعينه على ما يحبه ويرضاه، ويزيده مما يقربه إليه، و يرفع به درجته‏.‏
وذلك أن الخوارق منها ما هو من جنس العلم كالمكاشفات، ومنها ما هو من جنس القدرة والملك كالتصرفات الخارقة للعادات، ومنها ما هو /من جنس الغنى عن جنس ما يعطاه الناس في الظاهر من العلم والسلطان والمال والغنى‏.‏
وجميع ما يؤتيه الله لعبده من هذه الأمور إن استعان به على ما يحبه الله ويرضاه ويقربه إليه ويرفع درجته ويأمره الله به ورسوله، ازداد بذلك رفعة وقربا إلى الله ورسوله، وعلت درجته‏.‏وإن استعان به على ما نهى الله عنه ورسوله كالشرك والظلم والفواحش، استحق بذلك الذم والعقاب، فإن لم يتداركه الله تعالى بتوبة أوحسنات ماحية وإلا كان كأمثاله من المذنبين، ولهذا كثيرًا ما يعاقب أصحاب الخوارق تارة بسلبها، كما يعزل الملك عن ملكه ويسلب العالم علمه، وتارة بسلب التطوعات، فينقل من الولاية الخاصة إلى العامة، وتارة ينزل إلى درجة الفساق، وتارة يرتد عن الإسلام، وهذا يكون فيمن له خوارق شيطانية، فإن كثيرًا من هؤلاء يرتد عن الإسلام، وكثير منهم لا يعرف أن هذه شيطانية بل يظنها من كرامات أولياء الله، ويظن من يظن منهم أن الله عز وجل إذا أعطى عبدًا خرت عادة لم يحاسبه على ذلك، كمن يظن أن الله إذا أعطي عبداً ملكا ومالا وتصرفًا لم يحاسبه عليه، ومنهم من يستعين بالخوارق على أمور مباحة لا مأمورًا بها ولا منهيًا عنها، فهذا يكون من عموم الأولياء، وهم الأبرار المقتصدون، وأما السابقون المقربون فأعلى من هؤلاء، كما أن العبد /الرسول أعلى من النبي الملك‏.‏
ولما كانت الخوارق كثيرًا ما تنقص بها درجة الرجل كان كثير من الصالحين يتوب من مثل ذلك ويستغفر الله تعالى، كما يتوب من الذنوب‏:‏ كالزنا والسرقة، وتعرض على بعضهم فيسأل الله زوالها، وكلهم يأمر المريد السالك ألا يقف عندها ولا يجعلها همته ولا يتبجح بها، مع ظنهم أنها كرامات، فكيف إذا كانت بالحقيقة من الشياطين تغويهم بها، فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها، وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر وتقول‏:‏ هنيئًا لك يا ولي الله، فيقرأ آية الكرسي فيذهب ذلك، وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وغيرها وتقول‏:‏ خذني حتى يأكلني الفقراء، ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بذلك، ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح وبالعكس، وكذلك في أبواب المدينة وتكون الجن قد أدخلته وأخرجته بسرعة أو تمر به أنوار، أو تحضر عنده من يطلبه ويكون ذلك من الشياطين يتصورون بصورة صاحبه، فإذا قرأ آية الكرسي مرة بعد مرة ذهب ذلك كله‏.‏
وأعرف من يخاطبه مخاطب ويقول له‏:‏ أنا من أمر الله، ويعده بأنه المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم ويظهر له الخوارق، /مثل أن يخطر بقلبه تصرف في الطير والجراد في الهواء، فإذا خطر بقلبه ذهاب الطير أو الجراد يمينًا أو شمالاً ذهب حيث أراد، وإذا خطر بقلبه قيام بعض المواشي أو نومه أو ذهابه حصل له ما أراد من غير حركة منه في الظاهر، وتحمله إلى مكة وتأتي به، وتأتيه بأشخاص في صورة جميلة وتقول له‏:‏هذه الملائكة الكروبيون أرادوا زيارتك، فيقول في نفسه‏:‏ كيف تصوروا بصورة المردان‏؟‏‏!‏ فيرفع رأسه فيجدهم بلحي ويقول له‏:‏ علامة أنك أنت المهدي أنك تنبت في جسدك شامة فتنبت ويراها وغير ذلك، وكله من مكر الشيطان‏.‏
وهذا باب واسع لو ذكرت ما أعرفه منه لاحتاج إلى مجلد كبير، وقد قال تعالى‏:‏‏{‏فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ‏}‏‏[‏الفجر‏:‏15، 16‏]‏ قال الله تبارك وتعالى‏:‏‏{‏كَلَّا‏}‏‏[‏الفجر‏:‏17‏]‏، ولفظ ‏{‏كَلَّا‏}‏ فيها زجر وتنبيه‏:‏ زجر عن مثل هذا القول، وتنبيه على ما يخبر به ويؤمر به بعده، وذلك أنه ليس كل من حصل له نعم دنيوية تعد كرامة يكون الله عز وجل مكرمًا له بها، ولا كل من قدر عليه ذلك يكون مهينًا له بذلك، بل هو سبحانه يبتلى عبده بالسراء والضراء، فقد يعطي النعم الدنيوية لمن لا يحبه، ولا هو كريم عنده ليستدرجه بذلك، وقد يحمى منها من يحبه ويواليه لئلا تنقص بذلك مرتبته عنده أو يقع بسببها فيما يكرهه منها‏.‏
/وأيضًا ‏[‏كرامات الأولياء‏]‏ لابد أن يكون سببها الإيمان والتقوى فما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان فهو من خوارق أعداء الله لا من كرامات أولياء الله، فمن كانت خوارقه لا تحصل بالصلاة والقراءة والذكر وقيام الليل والدعاء، وإنما تحصل عند الشرك‏:‏ مثل دعاء الميت والغائب، أو بالفسق والعصيان وأكل المحرمات‏:‏ كالحيات والزنابير والخنافس والدم وغيره من النجاسات، ومثل الغناء والرقص، لا سيما مع النسوة الأجانب والمردان، وحالة خوارقه تنقص عند سماع القرآن وتقوى عند سماع مزامير الشيطان فيرقص ليلا طويلا، فإذا جاءت الصلاة صلى قاعدًا أو ينقر الصلاة نقر الديك، وهو يبغض سماع القرآن وينفر عنه ويتكلفه ليس له فيه محبة ولا ذوق ولا لذة عند وجده، ويحب سماع المكاء والتصدية ويجد عنده مواجيد‏.‏ فهذه أحوال شيطانية، وهو ممن يتناوله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏36‏]‏‏.‏
فالقرآن هو ذكر الرحمن، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏124‏:‏ 126‏]‏ يعني تركت العمل بها، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ تكفل الله لمن قرأ كتابه وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة؛ ثم قرأ هذه الآية‏.