فصــل في قول القاضي أبو يعلى في عيون المسائل
 
/وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ‏:‏
فصــل
قال القاضي أبو يعلى في عيون المسائل ‏:‏ مسألة‏:‏ ومثبتو النبوات حصل لهم المعرفة بالله تعالى بثبوت النبوة من غير نظر واستدلال في دلائل العقول، خلافًا للأشعرية في قولهم‏:‏ لا تحصل حتى تنظر وتستدل بدلائل العقول‏.‏
وقال ‏:‏ نحن لا نمنع صحة النظر، ولانمنع حصول المعرفة به وإنما خلافنا هل تحصل بغيره، واستدل بأن النبوة إذا ثبتت بقيام المعجزة علمنا أن هناك مرسلًا أرسله، إذ لا يكون هناك نبي إلا وهناك مرسل، وإذا ثبت أن هناك مرسلا أغنى ذلك عن النظر والاستدلال في دلائل العقول على إثباته‏.‏
/وقال البيهقي في كتاب الاعتقاد ما ذكره الخطابي أيضًا في ‏(‏الغنية عن الكلام وأهله‏)‏ وقد سلك بعض من بحث في إثبات الصانع وحدوث العالم طريق الاستدلال بمقدمات النبوة، ومعجزات الرسالة؛ لأن دلائلها مأخوذة من طريق الحس لمن شاهدها، ومن طريق استفاضة الخبر لمن غاب عنها، فلما ثبتت النبوة صارت أصلا في وجوب قبول ما دعا إليه النبي، وعلى هذا الوجه كان إيمان أكثر المستجيبين للرسول، وذكر قصة جعفر وأصحابه مع النجاشي، وقصة الأعرابي الذي قال‏:‏ من خلق السماء وغير ذلك‏؟‏
قلت‏:‏ كثير من المتكلمين يقولون‏:‏ لابد أن تتقدم المعرفة أولا بثبوت الرب وصفاته التي يعلم بها أنه هو، ويظهر المعجزة، وإلا تعذر الاستدلال بها على صدق الرسول، فضلا عن وجود الرب‏.‏
وأما الطريقة التي ذكرها المتقدمون فصحيحة إذا حررت، وقد جاء القرآن بها في قصة فرعون فإنه كان منكرا للرب‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا‏}‏ إلى قوله ‏:‏‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 16-33‏]‏ ‏.‏
فهنا ‏:‏ قد عرض عليه موسى الحجة البينة التي جعلها دليلًا على صدقه في كونه رسول رب العالمين‏.‏ وفي أن له إلها غير فرعون يتخذه‏.‏ وكذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَّ‏}‏ ‏[‏ هود ‏:‏ 14 ‏]‏ فبين أن المعجزة تدل على الوحدانية والرسالة، وذلك لأن المعجزة ـ التي هي فعل خارق للعادة ـ تدل بنفسها على ثبوت الصانع، كسائر الحوادث، بل هي أخص من ذلك، لأن الحوادث المعتادة ليست في الدلالة كالحوادث الغريبة، ولهذا يسبح الرب عندها، ويمجد ويعظم ما لا يكون عند المعتاد، ويحصل في النفوس ذلة من ذكر عظمته ما لا يحصل للمعتاد، إذ هي آيات جديدة فتعطى حقها، وتدل بظهورها على الرسول، وإذا تبين أنها تدعو إلى الإقرار بأنه رسول الله، فتتقرر بها الربوبية والرسالة، لاسيما عند من يقول ‏:‏ دلالة المعجزة على صدق الرسول ضرورية، كما هو قول طائفة من متكلمي المعتزلة ‏:‏ كالجاحظ، وطوائف من غيرهم، كالأشعرية والحنبلية الذين يقولون ‏:‏ يحصل الفرق بين المعجزة والسحر والكرامة بالضرورة‏.‏
/ومن يقول ‏:‏ إن شهادة المعجزة على صدق النبي معلوم بالضرورة، وهم كثير من الأشعرية والحنبلية، وكثير من هؤلاء يقول‏:‏ لأن عدم دلالتها على الصدق مستلزم عجز البارئ، إذ لا طريق سواها‏.‏
وأما المعتزلة ‏:‏ فلأن عندهم أن ذلك قبيح، لا يجوز من الباري فعله‏.‏ والأولون يقولون‏:‏ ليس‏.‏ كأمور كثيرة جدًا، وقد بينت في غير هذا الموضع أن العلم موجود ضروري، وهو الذي عليه جمهور‏.‏