سئل الشيخ ـ رحمه الله ـ عن قوم داوموا على ‏[‏الرياضة‏]‏ مرة فرأوا أنهم قد تجوهروا ـ ب ـ
 

ومن هؤلاء من يحتج بقوله‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏99‏]‏، ويقول معناها‏:‏ اعبد ربك حتى يحصل لك العلم والمعرفة، فإذا حصل ذلك سقطت العبادة‏.‏ وربما قال بعضهم‏:‏ اعمل حتى يحصل لك حال، فإذا حصل لك حال تصوفي سقطت عنك العبادة، وهؤلاء فيهم من إذا ظن حصول مطلوبه من المعرفة والحال استحل ترك الفرائض، وارتكاب المحارم، وهذا كفر، كما تقدم‏.‏
ومنهم من يظن استغناءه عن النوافل حينئذ، وهذا مغبون منقوص جاهل ضال خاسر باعتقاد الاستغناء عن النوافل واستخفافه بها حينئذ، /بخلاف من تركها معتقدًا كمال من فعلها حينئذ معظمًا لحاله، فإن هذا ليس مذمومًا، وإن كان الفاعل لها مع ذلك أفضل منه، أو يكون هذا من المقربين السابقين، وهذا من المقتصدين ،أصحاب اليمين‏.‏
ومن هؤلاء من يظن أن الاستمساك بالشريعة ـ أمرًا ونهيًا ـ إنما يجب عليه ما لم يحصل له من المعرفة أو الحال، فإذا حصل له لم يجب عليه حينئذ الاستمساك بالشريعة النبوية، بل له حينئذ أن يمشي مع الحقيقة الكونية القدرية، أو يفعل بمقتضى ذوقه ووجده وكشفه ورأيه من غير اعتصام بالكتاب والسنة، وهؤلاء منهم من يعاقب بسلب حاله حتى يصير منقوصًا عاجزًا محرومًا، ومنهم من يعاقب بسلب الطاعة حتى يصير فاسقًا، ومنهم من يعاقب بسلب الإيمان حتى يصير مرتدًا منافقًا، أو كافرًا ملعنًا‏.‏ وهؤلاء كثيرون جدًا، وكثير من هؤلاء يحتج بقصة موسى والخضر‏.‏
فأما استدلالهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏99‏]‏، فهي عليهم لا لهم، قال الحسن البصري‏:‏ إن الله لم يجعل لعمل المؤمنين أجلا دون الموت، وقرأ قوله‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ‏}‏، وذلك أن اليقين هنا الموت وما بعده باتفاق علماء المسلمين وهؤلاء من المستيقنين‏.‏ وذلك مثل قوله‏:‏‏{‏مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَكُنَّا نَخُوضُ مَع الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين‏}‏ُ ‏[‏المدثر‏:‏ 42‏:‏ 47‏]‏‏.‏ فهذا قالوه وهم في جهنم‏.‏ وأخبروا أنهم كانوا على ما هم عليه من ترك الصلاة والزكاة والتكذيب بالآخرة، والخوض مع الخائضين حتى أتاهم اليقين‏.‏ ومعلوم أنهم مع هذا الحال لم يكونوا مؤمنين بذلك في الدنيا، ولم يكونوا مع الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 4‏]‏، وإنما أراد بذلك أنه أتاهم ما يوعدون، وهو اليقين‏.‏ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ـ لما توفى عثمان بن مظعون ـ وشهدت له بعض النسوة بالجنة‏.‏ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وما يدريك‏؟‏ إني والله وأنا رسول الله ما أدري ما يفعل بي‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه‏)‏ أي أتاه وعده وهو اليقين‏.‏
و‏[‏يقين‏]‏ على وزن فعيل، وسواء كان فعيل بمعنى مفعول، أي الموت‏.‏ كالحبيب والنصيح والذبيح، أو كان مصدرًا وضع موضع المفعول‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏هَذَا خَلْقُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَتَى أَمْرُ اللّهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏1‏]‏ وقوله‏:‏ ضرب الأمير، وغفر الله لك‏.‏ قيل‏:‏ وقولهم قدرة عظيمة‏.‏ وأمثال ذلك، فإنه كثير‏.‏ فعلى التقديرين المعنى لا يختلف، بل اليقين هو ما وعد به العباد من أمر الآخرة، وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 99‏]‏ كقولك‏:‏ يأتيك ما توعد ‏.‏
فإما أن يظن أن المراد‏:‏ اعبده حتى يحصل لك إيقان، ثم لا عبادة /عليك‏.‏ فهذا كفر باتفاق أئمة المسلمين، ولهذا لما ذكر للجنيد بن محمد أن قومًا يزعمون أنهم يصلون من طريق البر إلى ترك العبادات‏.‏ فقال‏:‏ الزنا والسرقة وشرب الخمر خير من قول هؤلاء، ومازال أئمة الدين ومشائخه يعظمون النكير على هؤلاء المنافقين، وإن كانوا من الزهاد العابدين وأهل الكشف والتصرف في الكون وأرباب الكلام والنظر في العلوم، فإن هذه الأمور قد يكون بعضها في أهل الكفر والنفاق ومن المشركين وأهل الكتاب‏.‏ وإنما الفاصل بين أهل الجنة وأهل النار، الإيمان والتقوى‏.‏ الذي هو نعت أولياء الله‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏يونس ‏:‏62، 63‏]‏ وأما احتجاجهم بقصة موسى والخضر فيحتجون بها على وجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن يقولوا‏:‏ إن الخضر كان مشاهدا الإرادة الربانية الشاملة، والمشيئة الإلهية العامة، وهي ‏[‏الحقيقة الكونية‏]‏‏.‏ فلذلك سقط عنه الملام فيما خالف فيه الأمر والنهي الشرعي، وهو من عظيم الجهل والضلال، بل من عظيم النفاق والكفر، فإن مضمون هذا الكلام‏:‏ أن من آمن بالقدر وشهد أن الله رب كل شيء، لم يكن عليه أمر ولا نهي، وهذا كفر بجميع كتب الله و رسله ،وما جاؤوا به من الأمر والنهي، وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ‏}‏، قال الله /تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏، ونظير هذا في سورة النحل، وفي سورة يس‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 47‏]‏ وكذلك في سورة الزخرف‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏20‏]‏‏.‏
وهؤلاء هم‏:‏ ‏[‏القدرية المشركية‏]‏ الذين يحتجون بالقدر على دفع الأمر والنهي هم شر من القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة، الذين روى فيهم‏:‏ ‏(‏إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم‏)‏؛ لأن هؤلاء يقرون بالأمر والنهي والثواب والعقاب، لكن أنكروا عموم الإرادة والقدرة والخلق، وربما أنكروا سابق العلم‏.‏
وأما ‏[‏القدرية المشركية‏]‏ فإنهم ينكرون الأمر والنهي والثواب والعقاب، لكن وإن لم ينكروا عموم الإرادة والقدرة والخلق، فإنهم ينكرون الأمر والنهي والوعد والوعيد، ويكفرون بجميع الرسل والكتب، فإن الله إنما أرسل الرسل مبشرين، من أطاعهم بالثواب‏.‏ ومنذرين من عصاهم بالعقاب‏.‏ وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في مواضع غير هذا‏.‏
/وأيضًا، فإن موسى عليه السلام كان مؤمنًا بالقدر، وعالمًا به، بل أتباعه من بني إسرائيل كانوا أيضًا مؤمنين بالقدر‏.‏ فهل يظن من له أدنى عقل أن موسى طلب أن يتعلم من الخضر الإيمان بالقدر، وإن ذلك يدفع الملام، مع أن موسى أعلم بالقدر من الخضر، بل عموم أصحاب موسى يعلمون ذلك‏.‏
وأيضًا، فلو كان هذا هو السر في قصة الخضر بين ذلك لموسى‏.‏ وقال‏:‏ إني كنت شاهدًا للإرادة والقدر، وليس الأمر كذلك، بل بين له أسبابًا شرعية تبيح له ما فعل‏.‏ كما سنبينه إن شاء الله تعالى ‏.‏
وأما ‏[‏الوجه الثاني‏]‏‏:‏ فإن من هؤلاء من يظن‏:‏ إن من الأولياء من يسوغ له الخروج عن الشريعة النبوية، كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى، وأنه قد يكون للولي في المكاشفة والمخاطبة ما يستغنى به عن متابعة الرسول في عموم أحواله أو بعضها، وكثير منهم يفضل الولي في زعمه، إما مطلقًا، وإما من بعض الوجوه على النبي، زاعمين أن في قصة الخضر حجة لهم، وكل هذه المقالات من أعظم الجهالات والضلالات بل من أعظم أنواع النفاق والإلحاد والكفر‏.‏
فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام‏:‏ أن رسالة محمد بن عبد/الله صلى الله عليه وسلم لجميع الناس‏:‏ عربهم وعجمهم، وملوكهم وزهادهم وعلمائهم وعامتهم، وإنها باقية دائمة إلى يوم القيامة، بل عامة الثقلين الجن والإنس، وإنه ليس لأحد من الخلائق الخروج عن متابعته وطاعته وملازمة ما يشرعه لأمته من الدين‏.‏ وما سنه لهم من فعل المأمورات وترك المحظورات، بل لو كان الأنبياء المتقدمون قبله أحياء لوجب عليهم متابعته ومطاوعته‏.‏
وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏، قال ابن عباس‏:‏ ما بعث الله نبيًا إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره بأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه‏.‏
وفي سنن النسائي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال‏:‏ ‏(‏أمتهوكون ‏[‏التهوك‏:‏ كالتهور، وهو الوقوع في الأمر بغير روية‏.‏ النهاية 5/282‏]‏ يا بن الخطاب ‏؟‏ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي‏)‏ ـ هذا أو نحوه ـ ورواه أحمد في المسند ولفظه‏:‏ ‏(‏ولو كان موسي حيًا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم‏)‏‏.‏ وفي مراسيل أبي داود قال‏:‏ ‏(‏كفى بقوم ضلالة أن يبتغوا كتابًا غير كتابكم‏.‏ أنزل على /نبي غير نبيهم ‏)‏ وأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏51‏]‏‏.‏
بل قد ثبت بالأحاديث الصحيحة‏:‏ ‏(‏أن المسيح عيسى ابن مريم إذا نزل من السماء فإنه يكون متبعًا لشريعة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ فإذا كان صلى الله عليه وسلم يجب اتباعه ونصره على من يدركه من الأنبياء‏.‏ فكيف بمن دونهم‏؟‏
بل مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لمن بلغته دعوته أن يتبع شريعة رسول غيره، كموسى وعيسى‏.‏ فإذا لم يجز الخروج عن شريعته إلى شريعة رسول، فكيف بالخروج عنه والرسل‏؟‏ كما قال تعالى‏:‏‏{‏قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏136، 137‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏285‏]‏ ‏.‏
/ولهذا لما كان قد دخل فيما ينقله أهل الكتاب عن الأنبياء تحريف وتبديل، كان ما علمنا أنه صدق عنهم آمنا به، وما علمنا أنه كذب رددناه، وما لم نعلم حاله لم نصدقه ولم نكذبه، كما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم‏.‏فإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوهم، وإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوهم‏.‏ وقولوا‏:‏ آمنا بما أنزل إلينا وما أنزل إليكم‏)‏‏.‏
ومما يبين الغلط الذي وقع لهم في الاحتجاج بقصة موسى والخضر على مخالفة الشريعة‏:‏ أن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثًا إلى الخضر ولا أوجب الله على الخضر متابعته وطاعته، بل قد ثبت في الصحيحين‏:‏ أن الخضر قال له‏:‏ يا موسى، إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله، علمكه الله لا أعلمه‏.‏ وذلك أن دعوة موسى كانت خاصة‏.‏
وقد ثبت في الصحاح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ـ فيما فضله الله به على الأنبياء ـ قال‏:‏ ‏(‏كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة‏)‏ فدعوة محمد صلى الله عليه وسلم شاملة لجميع العباد، ليس لأحد الخروج عن متابعته وطاعته، ولا استغناء عن رسالته، كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى وطاعته /مستغنيًا عنه بما علمه الله‏.‏ وليس لأحد ممن أدركه الإسلام أن يقول لمحمد‏:‏ إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، ومن سوغ هذا أو اعتقد أن أحدًا من الخلق ـ الزهاد والعباد أو غيرهم ـ له الخروج عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ومتابعته، فهو كافر باتفاق المسلمين‏.‏ ودلائل هذا من الكتاب والسنة أكثر من أن تذكر هنا‏.‏
وقصة الخضر ليس فيها خروج عن الشريعة؛ ولهذا لما بين الخضر لموسى الأسباب التي فعل لأجلها ما فعل وافقه موسى، ولم يختلفا حينئذ‏.‏ ولو كان ما فعله لالخضر مخالفًا لشريعة موسى لما وافقه‏.‏
ومثل هذا وأمثاله يقع للمؤمنين بأن يختص أحد الشخصين بالعلم بسبب يبيح له الفعل في الشريعة، والآخر لا يعلم ذلك السبب، وإن كان قد يكون أفضل من الأول‏.‏ مثل شخصين‏:‏ دخلا إلى بيت شخص، وكان أحدهما يعلم طيب نفسه بالتصرف في منزله، إما بإذن لفظي أو غيره، فيتصرف‏.‏ وذلك مباح في الشريعة، والآخر الذي لم يعلم هذا السبب لا يتصرف، وخرق السفينة كان من هذا الباب، فإن الخضر كان يعلم أن أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبًا، وكان من المصلحة التي يختارها أصحاب السفينة، إذا علموا ذلك؛ لئلا يأخذها ‏.‏‏.‏‏.‏ خير من انتزاعها منهم‏.‏
/ونظير هذا حديث الشاة التي أصابها الموت فذبحتها امرأة بدون إذن أهلها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنها فأذن لهم في أكلها ولم يلزم التي ذبحت بضمان ما نقصت بالذبح؛ لأنه كان مأذونًا فيه عرفًا، والأذن العرفي كالإذن اللفظي؛ ولهذا بايع النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان في غيبته بدون استئذانه لفظًا، ولهذا لما دعاه أبو طلحة ونفرًا قليلاً إلى بيته، قام بجميع أهل المسجد، لما علم من طيب نفس أبي طلحة، وذلك لما يجعله الله من البركة‏.‏ وكذلك حديث جابر‏.‏
وقد ثبت أن لحامًا دعاه فاستأذنه في شخص يستتبعه؛ لأنه لم يكن يعلم من طيب نفس اللحام ما علمه من طيب نفس أبي طلحة وجابر وغيرهما، وكذلك قتل الغلام كان من باب دفع الصائل على أبويه، لعلمه بأنه كان يفتنهما عن دينهما؛ وقتل الصبيان يجوز إذا قاتلوا المسلمين، بل يجوز قتلهم لدفع الصول على الأموال لهذا ثبت في صحيح البخاري أن نجدة الحروري لما سأل ابن عباس عن قتل الغلمان قال‏:‏ إن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من الغلام فاقتلهم، وإلا فلا تقتلهم‏.‏
وكذلك في الصحيحين‏:‏ أن عمر لما استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل ابن صياد، وكان مراهقًا، لما ظنه الدجال، فقال‏:‏ ‏(‏إن يكنه فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله‏)‏ فلم يقل‏:‏ إن يكنه فلا خير لك في قتله، بل قال‏:‏ ‏(‏ فلن تسلط عليه‏)‏‏.‏
/وذلك يدل على أنه لو أمكن إعدامه قبل بلوغه لقطع فساده لم يكن ذلك محذورًا، وإلا كان التعليل بالصغر كافيًا، فإن الأعم إذا كان مستقلاً بالحكم كان الأخص عديم التأثير، كما قال في الهرة‏:‏ ‏(‏ إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات‏)‏‏.‏
وأما بناء الجدار فإنما فيه ترك أخذ الجعل مع جوعهم، وقد بين الخضر‏:‏ أن أهله فيهم من الشيم وصلاح الوالد ما يستحقون به التبرع، وإن كان جائعًا‏.‏
ومن ذلك أن من أسباب الوجوب والتحريم والإباحة ما قد يكون ظاهرًا، فيشترك فيها الناس، ومنه ما يكون خفيًا عن بعضهم ظاهرًا لبعضهم على الوجه المعتاد، ومنه ما يكون خفيًا يعرف بطريق الكشف، وقصة الخضر من هذا الباب‏.‏ وذلك يقع كثيرًا في أمتنا‏.‏ مثل أن يقدم لبعضهم طعام فيكشف له أنه مغصوب فيحرم عليه أكله، وإن لم يحرم ذلك على من لم يعلم ذلك‏.‏ أو يظفر بمال يعلم أن صاحبه أذن له فيه فيحل له أكله، فإنه لا يحل ذلك لمن لم يعلم الإذن‏.‏ وأمثال ذلك‏.‏
فمثل هذا إذا كان الشيخ من المعروفين بالصدق والإخلاص كان مثل هذا من مواقع الاجتهاد، الذي يصيب فيه تارة ويخطئ أخرى، /فإن المكاشفات يقع فيها من الصواب والخطأ نظير ما يقع في الرؤيا وتأويلها، والرأي، والرواية، وليس شيء معصومًا على الإطلاق إلا ما ثبت عن الرسول، ولهذا يجب رد جميع الأمور إلى ما بعث به ولهذا كان الصديق المتلقى عن الرسول كل شيء، مثل أبي بكر أفضل من المحدث مثل عمر، وكان الصديق يبين للمحدث المواضع التي اشتبهت عليه، حتى يرده إلى الصواب، كما فعل أبو بكر بعمر يوم الحديبية، ويوم موت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي قتال مانعى الزكاة، وغير ذلك‏.‏ وهذا الباب قد بسطناه في غير هذا الموضع‏.‏
والمقصود أنه ليس في قصة الخضر ما يسوغ مخالفة شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من الخلق‏.‏ نعم لفظ ‏[‏الشرع‏]‏ قد صار فيه اشتراك في عرف العامة، منهم من يجعله عبارة عن حكم الحكام، ولا ريب أن حكم الحاكم قد يطابق الحق في الباطن، وقد يخالفه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن أم سلمة‏:‏ ‏(‏إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار‏)‏‏.‏
وقد اتفق المسلمون على أن حكم الحاكم بالحقوق المرسلة لا يغير الشيء عن صفته في الباطن، فلو حكم بمال زيد لعمر، لإقرار أو بينة /كان ذلك باطلاً في الباطن، ولم يبح ذلك له في الباطن، ولا يجوز له أخذه مع العلم بالحال باتفاق المسلمين، وكذلك عند جماهير الأمة لو حكم بعقد أو فسخ نكاح أو طلاق وبيع فإن حكمه لا يغير الباطن عندهم‏.‏
وإن كان منهم من يقول‏:‏ حكمه يغير ذلك في هذا الموضع؛ لأن له ولاية العقود والفسوخ‏.‏ فالصحيح قول الجمهور، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد، وسائر فقهاء أهل الحجاز والحديث، وكثير من فقهاء العراق‏.‏
وأيضًا فلفظ ‏[‏الشرع‏]‏ في هذا الزمان، يطلق على ثلاثة معان‏:‏
شرع منزل، وشرع متأول، وشرع مبدل‏.‏
‏[‏فالمنزل‏]‏‏:‏ الكتاب والسنة، فهذا الذي يجب اتباعه على كل واحد، ومن اعتقد أنه لا يجب اتباعه على بعض الناس فهو كافر‏.‏
و‏[‏المتأول‏]‏ موارد الاجتهاد التي تنازع فيها العلماء، فاتباع أحد المجتهدين جائز لمن اعتقد أن حجته هي القوية، أو لمن ساغ له تقليده ولا يجب على عموم المسلمين اتباع أحد بعينه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فكثير من المتفقهة إذا رأى بعض الناس من المشائخ الصالحين، يرى أنه يكون الصواب مع ذلك، وغيره قد خالف /الشرع، وإنما خالف ما يظنه هو الشرع، وقد يكون ظنه خطأ فيثاب على اجتهاده، وخطؤه مغفور له وقد يكون الآخر مجتهدا مخطئًا‏.‏
وأما ‏[‏الشرع المبدل‏]‏‏:‏ فمثل الأحاديث الموضوعة، والتأويلات الفاسدة والأقيسة الباطلة والتقليد المحرم، فهذا يحرم أيضًا، وهذا من مثار النزاع، فإن كثيرًا من المتفقهة والمتكلمة قد يوجب على كثير من المتصوفة والمتفقرة اتباع مذهبه المعين، وتقليد متبوعه، والتزام حكم حاكمه باطنًا وظاهرًا، ويرى خروجه عن ذلك خروجًا عن الشريعة المحمدية، وهذا جهل منه وظلم، بل دعوى ذلك على الإطلاق كفر ونفاق‏.‏
كما أن كثيرًا من المتصوفة والمتفقرة يرى مثل ذلك في شيخه ومتبوعه، وهو في هذا نظير ذلك‏.‏ وكل من هؤلاء قد يسوغ الخروج عما جاء به الكتاب والسنة، لما يظنه معارضًا لهما، إما لما يسميه هذا ذوقًا ووجدًا، ومكاشفات ومخاطبات، وإما لما يسميه هذا قياسًا ورأيًا وعقليات وقواطع، وكل ذلك من شعب النفاق، بل يجب على كل أحد تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع ما أخبر به، وطاعته في جميع ما أمر به، وليس لأحد أن يعارضه بضرب الأمثال، ولا بآراء الرجال، وكل ما عارضه فهو خطأ وضلال‏.‏
/وقد ذكرنا من تفصيل ذلك في غيرهذا الموضع ما لا يتسع له هذا المجال‏.‏
والله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه، من الأقوال والأفعال الباطنة والظاهرة، وفي جميع الأحوال‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ والحمد لله وحده، وصلواته وسلامه على نبيه محمد وآله وصحبه وسلم‏.