فصــل في التنازع في قدم الأحرف وشكلها ـ تتمة
 

/وقد بينا أن الصواب في هذا الباب هو الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان، وهو ما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من أئمة الإسلام ومن وافق هؤلاء، فإن قول الإمام أحمد وقول الأئمة قبله هو القول الذي جاء به الرسول، ودل عليه الكتاب والسنة، ولكن لما امتحن الناس بمحنة الجهمية، وطلب منهم تعطيل الصفات، وأن يقولوا بأن القرآن مخلوق،وأن الله لا يرى في الآخرة ونحو ذلك ـ ثبت الله الإمام أحمد في تلك المحنة؛ فدفع حجج المعارضين النفاة، وأظهر دلالة الكتاب والسنة، وأن السلف كانوا على الإثبات، فآتاه الله من الصبر واليقين ما صار به إماما للمتقين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏42‏]‏‏.‏
ولهذا قيل فيه ـ رحمه الله ـ ‏:‏ عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته البدع فنفاها، والدنيا فأباها، فلما ظهر به من السنة ما ظهر كان له من الكلام في بيانها وإظهارها أكثر وأعظم مما لغيره، فصار أهل السنة من عامة الطوائف يعظمونه وينتسبون إليه‏.‏
وقد ذكرت كلامه وكلام غيره من الأئمة ونصوص الكتاب والسنة في هذه الأبواب في غير هذا الموضع، وبينا أن كل ما يدل عليه الكتاب والسنة فإنه موافق لصريح المعقول، وأن العقل الصريح لا يخالف / النقل الصحيح،ولكن كثيرًا من الناس يغلطون، إما في هذا وإما في هذا، فمن عرف قول الرسول ومراده به كان عارفًا بالأدلة الشرعية، وليس في المعقول ما يخالف المنقول ؛ ولهذا كان أئمة السنة على ما قاله أحمد بن حنبل، قال‏:‏ معرفة الحديث والفقه فيه أحب إليَّ من حفظه، أي معرفته بالتمييز بين صحيحه وسقيمه‏.‏ والفقه فيه‏:‏ معرفة مراد الرسول وتنزيله على المسائل الأصولية والفروعية، أحب إلىَّ من أن يحفظ من غير معرفة وفقه‏.‏ وهكذا قال علي بن المديني وغيره من العلماء، فإنه من احتج بلفظ ليس بثابت عن الرسول أو بلفظ ثابت عن الرسول وحمله على ما لم يدل عليه، فإنما أتي من نفسه‏.‏
وكذلك العقليات الصريحة، إذا كانت مقدماتها وترتيبها صحيحًا لم تكن إلا حقًا، لا تناقض شيئًا مما قاله الرسول، والقرآن قد دل على الأدلة العقلية التي بها يعرف الصانع وتوحيده، وصفاته وصدق رسله، وبها يعرف إمكان المعاد‏.‏ ففي القرآن من بيان أصول الدين التي تعلم مقدماتها بالعقل الصريح ما لا يوجد مثله في كلام أحد من الناس، بل عامة ما يأتي به حذَّاق النظار من الأدلة العقلية يأتي القرآن بخلاصتها، وبما هو أحسن منها، قال تعالى‏:‏‏{‏وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏33‏]‏، وقال‏:‏‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏58‏]‏، وقال‏:‏‏{‏وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏12‏]‏‏.‏
/وأما الحجج الداحضة التي يحتج بها الملاحدة، وحجج الجهمية مُعَطِّلَة الصفات، وحجج الدهرية وأمثالها؛ كما يوجد مثل ذلك في كلام المتأخرين الذين يصنفون في الكلام المبتدع وأقوال المتفلسفة ويدعون أنها عقليات ـ ففيها من الجهل والتناقض والفساد، ما لا يحصيه إلا رب العباد، وقد بسط الكلام على هؤلاء في مواضع أخر‏.‏
وكان من أسباب ضلال هؤلاء تقصير الطائفتين، أو قصورهم عن معرفة ما جاء به الرسول، وما كان عليه السلف، ومعرفة المعقول الصريح؛ فإن هذا هو الكتاب، وهذا هو الميزان، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏25‏]‏‏.‏
وهذه المسألة لا تحتمل البسط على هذه الأمور؛ إذ كان المقصود هنا التنبيه على أن هؤلاء المتنازعين أجمعوا على أصل فاسد، ثم تفرقوا فأجمعوا على أن جعلوا عين صفة الرب الخالق هي عين صفة المخلوق،ثم قال هؤلاء‏:‏ وصفة المخلوق مخلوقة، فصفة الرب مخلوقة، فقال هؤلاء‏:‏ صفة الرب قديمة فصفة المخلوق قديمة‏.‏ ثم احتاج كل منهما إلى طرد أصله، فخرجوا إلى أقوال ظاهرة الفساد؛ خرج النفاة إلى أن الله لم يتكلم بالقرآن، ولا بشيء من الكتب الإلهية، لا التوراة ولا الإنجيل ولا غيرهما، وأنه لم / يناد موسى بنفسه نداء يسمعه منه موسى، ولا تكلم بالقرآن العربي ولا التوراة العبرية، وخرج هؤلاء إلى أن ما يقوم بالعباد ويتصفون به يكون قديمًا أزليًا، وأن ما يقوم بهم ويتصفون به لا يكون قائمًا بهم حالا فيهم، بل يكون ظاهرًا عنهم من غير قيام بهم‏.‏
ولما تكلموا في ‏[‏حروف المعجم‏]‏ صاروا بين قولين‏:‏ طائفة فرقت بين المتماثلين، فقالت‏:‏ الحرف حرفان، هذا قديم وهذا مخلوق، كما قال ابن حامد والقاضي أبو يعلى وابن عقيل وغيرهم، فأنكر ذلك عليهم الأكثرون وقالوا‏:‏ هذا مخالفة للحس والعقل؛ فإن حقيقة هذا الحرف هي حقيقة هذا الحرف، وقالوا‏:‏ الحرف حرف واحد‏.‏ وصنف في ذلك القاضي يعقوب البَرْزَبَيْني ‏[‏وهو يعقوب بن إبراهيم البرزبيني، من فقهاء الحنابلة، من أهل ‏[‏برزبين‏]‏ من قرى بغداد، تفقه ببغداد، وولى بها قضاء باب الأزج، له كتب في الأصول والفروع منها ‏[‏التعليقة‏]‏ في الفقه والخلاف، ولد سنة 409هـ، وتوفى سنة 486هـ‏]‏ ‏.‏ مصنفًا خالف به شيخه القاضي أبا يعلى مع قوله في مصنفه‏:‏ وينبغي أن يعلم أن ما سطرته في هذه المسألة أن ذلك مما استفدته وتفرع عندي من شيخنا وإمامنا القاضي أبي يعلى ابن الفراء، وإن كان قد نصر خلاف ما ذكرته في هذا الباب، فهو العالم المقتدى به في علمه ودينه، فإني ما رأيت أحسن سمتا منه، ولا أكثر اجتهادًا منه، ولا تشاغلا بالعلم، مع كثرة العلم والصيانة والانقطاع عن الناس والزهادة فيما بأيديهم، والقناعة في الدنيا باليسير، مع حسن التجمل، وعظم حشمته عند الخاص والعام، ولم يعدل بهذه الأخلاق شيئًا من نفر من الدنيا‏.‏
/وذكر القاضي يعقوب في مصنفه‏:‏ أن ما قاله قول أبي بكر أحمد بن المسيب الطبري، وحكاه عن جماعة من أفضل أهل طبرستان، وأنه سمع الفقيه عبد الوهاب بن حلبه قاضي حَرَّان يقول‏:‏ هو مذهب العلوي الحراني، وجماعة من أهل حران‏.‏ وذكره أبو عبد الله ابن حامد عن جماعة من أهل طبرستان ممن ينتمي إلى مذهبنا ؛ كأبي محمد الكشفل وإسماعيل الكَلْواذاني في خلق من أتباعهم يقولون‏:‏ إنها قديمة، قال القاضي أبو يعلى‏:‏ وكذلك حكى لي عن طائفة بالشام أنها تذهب إلى ذلك منهم النابلسي وغيره، وذكر القاضي حسين أن أباه رجع في آخر عمره إلى هذا‏.‏ وذكروه عن الشريف أبي علي ابن أبي موسى، وتبعهم في ذلك الشيخ أبو الفرج المقدسي وابنه عبد الوهاب وسائر أتباعه، وأبوالحسن بن الزاغوني وأمثاله‏.‏ وذكر القاضي يعقوب أن كلام أحمد يحتمل القولين‏.‏
وهؤلاء تعلقوا بقول أحمد لما قيل له‏:‏ إن سريا السقطي قال‏:‏ لما خلق الله الأحرف سجدت له إلا الألف فقالت‏:‏ لا أسجد حتى أومر‏.‏ فقال أحمد‏:‏ هذا كفر‏.‏ وهؤلاء تعلقوا من قول أحمد بقوله‏:‏ كل شيء من المخلوقين على لسان المخلوقين فهو مخلوق، وبقوله‏:‏ لو كان كذلك لما تمت صلاته بالقرآن، كما لا تتم بغيره من كلام الناس‏.‏ وبقول أحمد / لأحمد بن الحسن الترمذي‏:‏ ألست مخلوقًا ‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ أليس كل شيء منك مخلوقًا ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى، قال‏:‏ فكلامك منك وهو مخلوق‏.‏
قلت‏:‏ الذي قاله أحمد في هذا الباب صواب يصدق بعضه بعضًا، وليس في كلامه تناقض، وهو أنكره على من قال‏:‏ إن الله خلق الحروف؛ فإن من قال‏:‏ إن الحروف مخلوقة كان مضمون قوله‏:‏ إن الله لم يتكلم بقرآن عربي، وأن القرآن العربي مخلوق، ونص أحمد ـ أيضًا ـ على أن كلام الآدميين مخلوق، ولم يجعل شيئًا منه غير مخلوق، وكل هذا صحيح، والسري ـ رحمه الله ـ إنما ذكر ذلك عن بكر بن خُنَيْس العابد، فكان مقصودهما بذلك أن الذي لا يعبد الله إلا بأمره، هو أكمل ممن يعبده برأيه من غير أمر من الله، واستشهدا على ذلك بما بلغهما‏:‏ ‏(‏أنه لما خلق الله الحروف سجدت له إلا الألف، فقالت‏:‏ لا أسجد حتى أومر‏)‏، وهذا الأثر لا يقوم بمثله حجة في شيء، ولكن مقصودهما ضرب المثل أن الألف منتصبة في الخط، ليست هي مضطجعة كالباء والتاء، فمن لم يفعل حتى يؤمر أكمل ممن فعل بغير أمر‏.‏
وأحمد أنكر قول القائل‏:‏ ‏[‏إن الله لما خلق الحروف‏]‏، وروي عنه أنه قال‏:‏ من قال‏:‏ إن حرفًا من حروف المعجم مخلوق فهو جهمي؛ لأنه سلك طريقًا إلى البدعة، ومن قال‏:‏ إن ذلك مخلوق فقد قال‏:‏ إن القرآن مخلوق‏.‏ وأحمد قد صرح هو وغيره من الأئمة أن الله لم يزل متكلما إذا / شاء، وصرح أن الله يتكلم بمشيئته، ولكن أتباع ابن كلاب كالقاضي وغيره تأولوا كلامه على أنه أراد بذلك إذا شاء الإسماع؛ لأنه عندهم لم يتكلم بمشيئته وقدرته‏.‏
وصرح أحمد وغيره من السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولم يقل أحد من السلف ‏:‏ إن الله تكلم بغير مشيئته وقدرته، ولا قال أحد منهم ‏:‏ إن نفس الكلام المعين كالقرآن أو ندائه لموسى أو غير ذلك ـ من كلامه المعين ـ أنه قديم أزلي لم يزل ولايزال، وأن الله قامت به حروف معينة أو حروف وأصوات معينة قديمة أزلية لم تزل ولا تزال، فإن هذا لم يقله ولا دل عليه قول أحمد ولا غيره من أئمة المسلمين، بل كلام أحمد وغيره من الأئمة صريح في نقيض هذا، وأن الله يتكلم بمشيئته وقدرته،وأنه لم يزل يتكلم إذا شاء، مع قولهم‏:‏ إن كلام الله غير مخلوق، وأنه منه بدأ، ليس بمخلوق ابتدأ من غيره، ونصوصهم بذلك كثيرة معروفة في الكتب الثابتة عنهم، مثل ما صنف أبو بكر الخلال في ‏[‏كتاب السنة‏]‏ وغيره، وما صنفه عبد الرحمن بن أبي حاتم من كلام أحمد وغيره، وما صنفه أصحابه وأصحاب أصحابه؛ كابنيه صالح وعبد الله، وحنبل، وأبي داود السجستاني صاحب ‏[‏السنن‏]‏ والأثرم، والمروزي، وأبي زُرْعَة، وأبي حاتم، والبخاري صاحب الصحيح، وعثمان بن سعيد الدارمي، وإبراهيم الحربي، وعبد الوهاب الوراق، / وعباس بن عبد العظيم العنبري، وحرب بن إسماعيل الكرماني، ومن لا يحصى عدده من أكابر أهل العلم والدين، وأصحاب أصحابه ممن جمع كلامه وأخباره؛ كعبد الرحمن ابن أبي حاتم وأبي بكر الخلال، وأبي الحسن البناني الأصبهاني، وأمثال هؤلاء، ومن كانـ أيضًا ـ يأتم به وبأمثاله من الأئمة في الأصول والفروع، كأبي عيسى الترمذي ـ صاحب الجامع ـ وأبي عبد الرحمن النسائي وأمثالهما، ومثل أبي محمد بن قتيبة وأمثاله، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
وقد ذكرنا في ‏[‏المسائل الطبرستانية‏]‏ و ‏[‏الكيلانية‏]‏ بسط مذاهب الناس، وكيف تشعبت وتفرعت في هذا الأصل‏.‏
والمقصود هنا أن كثيرًا من الناس المتأخرين لم يعرفوا حقيقة كلام السلف والأئمة، فمنهم من يعظمهم ويقول‏:‏ إنه متبع لهم، مع أنه مخالف لهم من حيث لا يشعر، ومنهم من يظن أنهم كانوا لا يعرفون أصول الدين ولا تقريرها بالدلائل البرهانية، وذلك لجهله بعلمهم، بل لجهله بما جاء به الرسول من الحق الذي تدل عليه الدلائل العقلية مع السمعية، فلهذا يوجد كثير من المتأخرين يشتركون في أصل فاسد، ثم يفرع كل قوم عليه فروعا فاسدة يلتزمونها، كما صرحوا في تكلم الله ـ تعالى ـ بالقرآن العربي، وبالتوراة العبرية، وما فيهما من حروف الهجاء مؤلفًا أو مفردًا، لما رأوا أن ذلك بلغ بصفات المخلوقين اشتبه بصفات المخلوقين، فلم يهتدوا لموضع / الجمع والفرق، فقال هؤلاء‏:‏ هذا الذي يقرأ ويسمع مثل كلام المخلوقين فهو مخلوق‏.‏
وقال هؤلاء‏:‏ هذا الذي من كلام الآدميين هو مثل كلام الله فيكون غير مخلوق‏.‏ كما ذكر ابن عقيل في ‏[‏كتاب الإرشاد‏]‏ عن بعض القائلين بأن القرآن مخلوق، فقال‏:‏ شبهة اعترض بها على بعض أئمتهم‏.‏ فقال ‏:‏ أقل ما في القرآن من أمارات الحدث كونه مشبهًا لكلامنا، والقديم لا يشبه المحدث، ومعلوم أنه لا يمكن دفع ذلك؛ لأن قول القائل لغلامه يحيى‏:‏ يا يحيى خذ الكتاب بقوة، يضاهي قوله سبحانه، حتى لا يميز السامع بينهما من حيث حسه، إلا أن يخبره أحدهما بقصده والآخر بقصده، فيميز بينهما بخبر القائل لا بحسه، وإذا اشتبها إلى هذا الحد فكيف يجوز دعوى قدم ما يشابه المحدث ويسد مسدّه، مع أنه إن جاز دعوى قدم الكلام مع كونه مشاهدًا للمحدث جاز دعوى التشبيه بظواهر الآي والأخبار، ولا مانع من ذلك، فلما فزعنا نحن وأنتم إلى نفي التشبيه خوفًا من جواب دخول القرآن بالحدث علينا، كذلك يجب أن تفزعوا من القول بالقدم مع وجود الشبه، حتى إن بعض أصحابكم يقول لقوة ما رأى من الشبه بينهما‏:‏ إن الكلام واحد والحروف غير مخلوقة، فكيف يجوز أن يقال في الشيء الواحد ‏:‏ إنه قديم محدث‏.‏
/ قلت ‏:‏ وهذا الذي حكى عنه ابن عقيل من بعض الأصحاب المذكورين منهم القاضي يعقوب البَرْزَبَيْنِيّ ذكره في مصنفه فقال‏:‏ ‏(‏دليل عاشر‏)‏ وهو أن هذه الحروف بعينها وصفتها ومعناها وفائدتها هي التي في كتاب الله ـ تعالى ـ وفي أسمائه وصفاته والكتاب بحروفه قديم؛ وكذلك هاهنا‏.‏ قال‏:‏ فإن قيل‏:‏ لا نسلم أن تلك لها حرمة وهذه لا حرمة لها، قيل ‏:‏ لا نسلم، بل لها حرمة‏.‏
فإن قيل‏:‏ لو كان لها حرمة لوجب أن تمنع الحائض والنفساء من مسها وقراءتها، قيل‏:‏ قد لا تمنع من قراءتها ومسها ويكون لها حرمة كبعض آية لا تمنع من قراءتها ولها حرمة وهي قديمة، وإنما لم تمنع من قراءتها ومسها للحاجة إلى تعليمها، كما يقال في الصبي‏:‏ يجوز له مس المصحف على غير طهارة للحاجة إلى تعليمه‏.‏
فإن قيل‏:‏ فيجب إذا حلف بها حالف أن تنعقد يمينه وإذا خالف يمينه أن يحنث، قيل له ‏:‏ كما في حروف القرآن مثله نقول هنا‏.‏
فإن قيل‏:‏ أليس إذا وافقها في هذه المعاني دل على أنها هي، ألا ترى أنه إذا تكلم متكلم بكلمة يقصد بها خطاب آدمي فوافق صفتها صفة ما في كتاب الله ـ تعالى ـ مثل قوله‏:‏ يا داود، يا نوح، يا يحيى، وغير ذلك؛ فإنه موافق لهذه الأسماء التي في كتاب الله، وإن / كانت في كتاب الله قديمة وفي خطاب الآدمي محدثة‏؟‏‏.‏
قيل‏:‏ كل ما كان موافقًا لكتاب الله من الكلام في لفظه ونظمه وحروفه فهو من كتاب الله، وإن قصد به خطاب آدمي‏.‏
فإن قيل‏:‏ فيجب إذا أراد بهذه الأسماء آدميًا وهو في الصلاة ألا تبطل صلاته‏.‏
قيل له‏:‏ كذلك نقول، وقد ورد مثل ذلك عن علي وغيره، إذ ناداه رجل من الخوارج‏:‏‏{‏وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏56‏]‏ قال‏:‏ فأجابه على وهو في الصلاة‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏60‏]‏ ‏.‏ وعن ابن مسعود أنه استأذن عليه بعض أصحابه فقال‏:‏‏{‏ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏99‏]‏‏.‏
قال‏:‏ فإن قيل‏:‏ أليس إذا قال‏:‏ ‏{‏يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏12‏]‏ ونوى به خطاب غلام اسمه يحيى يكون الخطاب مخلوقًا‏؟‏ وإن نوى به القرآن يكون قديمًا، قيل له‏:‏ في كلا الحالين يكون قديمًا؛ لأن القديم عبارة عما كان موجودًا فيما لم يزل، والمحدث عبارة عما حدث بعد أن لم يكن، والنية لا تجعل المحدث قديمًا ولا القديم محدثًا، قال‏:‏ ومن قال هذا فقد بالغ في الجهل والخطأ‏.‏
/ وقال ـ أيضًا ـ‏:‏ كل شيء يشبه بشيء ما فإنما يشبهه في بعض الأشياء دون بعض، ولا يشبهه من جميع أحواله؛ لأنه إذا كان مثله في جميع أحواله كان هو لا غيره، وقد بينا أن هذه الحروف تشبه حروف القرآن فهي غيرها‏.‏ ا هـ‏.‏
قلت‏:‏ هذا كلام القاضي يعقوب وأمثاله، مع أنه أجَلّ من تكلم في هذه المسألة، ولما كان جوابه مشتملا على ما يخالف النص والإجماع والعقل خالفه ابن عقيل وغيره من أئمة المذهب الذين هم أعلم به‏.‏
وأجاب ابن عقيل عن سؤال الذين قالوا ‏:‏ هذا مثل هذا، بأن قال‏:‏ الاشتراك في الحقيقة لا يدل على الاشتراك في الحدوث، كما أن كونه عالما هو تبينه للشيء على أصلكم، ومعرفته به على قولنا على الوجه الذي يتبينه الواحد منا، وليس مماثلا لنا في كوننا عالمين‏.‏ وكذلك كونه قادرًا هو صحة الفعل منه ـ سبحانه وتعالى ـ وليست قدرته على الوجه الذي قدرنا عليها، فليس الاشتراك في الحقيقة حاصلا، والافتراق في القدم والحدوث حاصل‏.‏
قال‏:‏وجواب آخر‏:‏لا نقول‏:‏ إن الله يتكلم بكلامه على / الوجه الذي يتكلم به زيد، بمعنى‏:‏ أنه يقول‏:‏ يا يحيى، فإذا فرغ من ذلك انتقل إلى قوله‏:‏ خذ الكتاب بقوة، وترتب في الوجود كذلك، بل هو ـ سبحانه وتعالى ـ يتكلم به على وجه تعجز عن مثله أدواتنا، فما ذكرته من الاشتباه من قول القائل‏:‏ يا يحيى خذ الكتاب، يعود إلى اشتباه التلاوة بالكلام المحدث، فأما أنه يشابه الكلام القائم بذاته فلا‏.‏
قال ابن عقيل‏:‏ قالوا‏:‏ فهذا لا يجيء على مذهبكم؛ فإن عندكم التلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء‏.‏ قيل ‏:‏ ليس معنى قولنا‏:‏ هي المتلو، أنها هذه الأصوات المقطعة، وإنما نريد به ما يظهر من الحروف القديمة في الأصوات المحدثة، وظهورها في المحدث لابد أن يكسبها صفة التقطيع لاختلاف الأنفاس، وإدارة اللهوات؛ لأن الآلة التي تظهر عليها لا تحمل الكلام إلا على وجه التقطيع، وكلام الباري قائم بذاته على خلاف هذا التقطيع، والابتداء، والانتهاء، والتكرار، والبعدية، والقبلية‏.
ومن قال ذلك لم يعرف حد القديم، وادعى قدم الأعراض وتقطع القديم، وتقطع القديم عرض لا يقوم بقديم، ومن اعتقد أن كلام الله القائم بذاته على حد تلاوة التالي من القطع والوصل، والتقريب والتبعيد والبعدية والقبلية فقد شبه الله بخلقه؛ ولهذا روى في الخبر‏(‏أن موسى سأله بنو إسرائيل‏:‏ كيف سمعت كلام ربك‏؟‏ قال‏:‏ كالرعد الذي لا يترجع‏)‏ يعني‏:‏ ينقطع، لعدم قطع الأنفاس وعدم الأنفاس، والآلات والشفاه /واللهوات، ومن قال غير ذلك وتوهم أن الله تكلم على لسان التالى، أو الكلام الذي قام بذاته على هذه الصفة من التقطيع والوصل، والتقريب والتبعيد ـ فقد حكم به محدثًا؛ لأن الدلالة على حدوث العالم هو الاجتماع والافتراق؛ ولأن هذه من صفات الأدوات‏.‏ ا هـ‏.‏
قلت‏:‏ فهذا الذي قاله ابن عقيل أقل خطأً مما قاله البَرْزَبَيْنِيّ، فإن ذلك مخالف للنص والإجماع والعقل مخالفة ظاهرة؛ فإنه قد ثبت بالنص والإجماع أن من تكلم في الصلاة بكلام الآدميين عامدًا لغير مصلحتها عالما بالتحريم بطلت صلاته بالإجماع، خلاف ما ذكره القاضي يعقوب، ومتى قصد به التلاوة لم تبطل بالإجماع، وإن قصد به التلاوة والخطاب ففيه نزاع، وظاهر مذهب أحمد‏:‏ لا تبطل، كمذهب الشافعي وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ تبطل، كقول أبي حنيفة وغيره‏.‏
وما ذكروه عن الصحابة حجة عليهم، فإن قول علي بن أبي طالب‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏60‏]‏ هو كلام الله، ولم يقصد علي أن يقول للخارجي‏:‏ ولا يستخفنك الخوارج؛ وإنما قصد أن يسمعه الآية، وأنه عامل بها صابر، لا يستخفه الذين لا يوقنون، وابن مسعود قال لهم وهو بالكوفة‏:‏ ‏{‏ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏99‏]‏، ومعلوم أن مصر ـ بلا تنوين ـ هي مصر المدينة، وهذه لم تكن بالكوفة‏.‏ وابن مسعود إنما كان بالكوفة؛ فعلم أنه قصد تلاوة الآية، وقصد مع /ذلك تنبيه الحاضرين على الدخول‏:‏ فإنهم سمعوا قوله‏:‏‏[‏ادخلوا‏]‏‏.‏ فعلموا أنه أذن لهم في الدخول، وإن كان هو تلا الآية فهذا هذا‏.‏
وأما جواب ابن عقيل فبناه على أصل ابن كُلاَّب الذي يعتقده هو وشيخه وغيرهما، وهو الأصل الذي وافقوا فيه ابن كلاب ومن اتبعه كالأشعري وغيره، وهو أن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وأنه ليس فيما يقوم به شيء يكون بمشيئته وقدرته؛ لامتناع قيام الأمور الاختيارية به عندهم؛ لأنها حادثة، والله لا يقوم به حادث عندهم؛ ولهذا تأولوا النصوص المناقضة لهذا الأصل، كقوله تعالى ‏{‏وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏105‏]‏، فإن هذا يقتضي أنه سيرى الأعمال في المستقبل، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏14‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ‏}‏، وكذلك قوله‏:‏‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏31‏]‏، فإن هذا يقتضى أنه يحبهم بعد اتباع الرسول، وكذلك قوله تعالى‏:‏‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏11‏]‏، فإن هذا يقتضى أنه قال لهم بعد خلق آدم، وكذلك قوله تعالى‏:‏‏{‏فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏11‏]‏ يقتضي أنه نودي لما أتاها، لم يناد قبل ذلك، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏82‏]‏ ومثل هذا في القرآن كثير‏.‏
/ وهذا الأصل هو مما أنكره الإمام أحمد على ابن كلاب وأصحابه، حتى على الحارث المحاسبي مع جلالة قدر الحارث، وأمر أحمد بهجره وهجر الكلابية، وقال‏:‏ احذروا من حارث، الآفة كلها من حارث، فمات الحارث وما صلى عليه إلا نفر قليل بسبب تحذير الإمام أحمد عنه، ومع أن فيه من العلم والدين ما هو أفضل من عامة من وافق ابن كلاب على هذا الأصل، وقد قيل‏:‏ إن الحارث رجع عن ذلك وأقر بأن الله يتكلم بصوت، كما حكى عنه ذلك صاحب ‏[‏التعرف لمذهب التصوف‏]‏ أبو بكر محمد ابن إسحاق الكلاباذي‏.‏
وكثير من المتأخرين من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، وافقوا ابن كُلاب على هذا الأصل، كما قد بسط الكلام على ذلك في مواضع أخر‏.‏
واختلف كلام ابن عقيل في هذا الأصل، فتارة يقول بقول ابن كُلاب، وتارة يقول بمذهب السلف وأهل الحديث‏:‏ أن الله تقوم به الأمور الاختيارية، ويقول‏:‏ إنه قام به أبصار متجددة حين تجدد المرئيات لم تكن قبل ذلك، وقام به علم بأن كل شيء وجد غير العلم الذي كان أولاً أنه سيوجد، كما دل على ذلك عدة آيات في القرآن، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏143‏]‏ وغير ذلك، وكلامه في هذا الأصل وغيره يختلف، تارة يقول بهذا، وتارة يقول بهذا؛ فإن هذه المواضع مواضع / مشكلة كثر فيها غلط الناس؛ لما فيها من الاشتباه والالتباس‏.‏
والجواب الحق‏:‏ أن كلام الله لا يماثل كلام المخلوقين، كما لا يماثل في شيء من صفاته صفات المخلوقين، وقول القائل‏:‏ إن الاشتراك في الحقيقة لا يدل على الاشتراك في الحدوث لفظ مجمل، فإنا إذا قلنا‏:‏ لله علم ولنا علم، أو له قدرة ولنا قدرة، أو له كلام ولنا كلام، أو تكلم بصوت ونحن نتكلم بصوت، وقلنا‏:‏ صفة الخالق وصفة المخلوق اشتركنا في الحقيقة ـ فإن أريد بذلك أن حقيقتهما واحدة بالعين فهذا مخالف للحس والعقل والشرع، وإن أريد بذلك أن هذه مماثلة لهذه في الحقيقة، و إنما اختلفتا في الصفات العرضيَّة، كما قال ذلك طائفة من أهل الكلام ـ وقد بين فساد ذلك في الكلام على ‏[‏الأربعين‏]‏ للرازي وغير ذلك فهذا أيضًا من أبطل الباطل، وذلك يستلزم أن تكون حقيقة ذات الباري ـ عز وجل ـ مماثلة لحقيقة ذوات المخلوقين‏.‏
وإن أريد بذلك أنهما اشتركا في مسمى العلم والقدرة والكلام فهذا صحيح، كما أنه إذا قيل‏:‏ إنه موجود أو أن له ذاتا فقد اشتركا في مسمى الوجود والذات، لكن هذا المشترك أمر كلي لا يوجد كليًا إلا في الأذهان لا في الأعيان، فليس في الخارج شيء اشترك فيه مخلوقان كاشتراك الجزئيات في كلياتها بخلاف اشتراك الأجزاء في الكل، فإنه يجب الفرق بين قسمة الكلى إلى جزئياته، كقسمة الحيوان إلى / ناطق وغير ناطق، وقسمة الإنسان إلى مسلم وكافر، وقسمة الاسم إلى معرب ومبني، وقسمة الكل إلى أجزائه؛ كقسمة العقار بين الشركاء، وقسمة الكلام إلى اسم وفعل وحرف، ففي الأول إنما اشتركت الأقسام في أمر كلي، فضلا عن أن يكون الخالق والمخلوقون مشتركين في شيء موجود في الخارج، وليس في الخارج صفة لله يماثل بها صفة المخلوق، بل كل ما يوصف به الرب ـ تعالى ـ فهو مخالف بالحد والحقيقة، لما يوصف به المخلوق أعظم مما يخالف المخلوق المخلوق، وإذا كان المخلوق مخالفًا بذاته وصفاته لبعض المخلوقات في الحد والحقيقة، فمخالفة الخالق لكل مخلوق في الحقيقة أعظم من مخالفة أي مخلوق فرض لأي مخلوق فرض، ولكن علمه ثبت له حقيقة العلم، ولقدرته حقيقة القدرة، ولكلامه حقيقة الكلام، كما ثبت لذاته حقيقة الذاتية، ولوجوده حقيقة الوجود، وهو أحق بأن تثبت له صفات الكمال على الحقيقة من كل ما سواه‏.‏
فهذا هو المراد بقولنا‏:‏ علمه يشارك علم المخلوق في الحقيقة، فليس ما يسمع من العباد من أصواتهم مشابهًا ولا مماثلا لما سمعه موسى من صوته، إلا كما يشبه ويماثل غير ذلك من صفاته لصفات المخلوقين، فهذا في نفس تكلمه ـ سبحانه وتعالى ـ بالقرآن، والقرآن عند الإمام أحمد وسائر أئمة السنة كلامه تكلم به، وتكلم بالقرآن العربي بصوت نفسه، وكلم موسى بصوت نفسه الذي لا يماثل شيئًا من أصوات العباد‏.‏
/ ثم إذا قرأنا القرآن فإنما نقرؤه بأصواتنا المخلوقة التي لا تماثل صوت الرب، فالقرآن الذي نقرؤه هو كلام الله مبلغًا عنه لا مسموعا منه، وإنما نقرؤه بحركاتنا وأصواتنا، الكلام كلام الباري، والصوت صوت القارئ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة مع العقل، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏6‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏زينوا القرآن بأصواتكم‏)‏، وقال الإمام أحمد في قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس منا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن‏)‏ قال‏:‏ يزينه ويحسنه بصوته، كما قال‏:‏ ‏(‏زينوا القرآن بأصواتكم‏)‏‏.‏
فنص أحمد على ما جاء به الكتاب والسنة أنا نقرأ القرآن بأصواتنا، والقرآن كلام الله كله، لفظه ومعناه، سمعه جبريل من الله وبلَّغه إلى محمد صلى الله عليه وسلم وسمعه محمد منه، وبلَّغه محمد إلى الخلق، والخلق يبلغه بعضهم إلى بعض، ويسمعه بعضهم من بعض، ومعلوم أنهم إذا سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وغيره فبلغوه عنه، كما قال‏:‏ ‏(‏نَضَّرَ الله امرأ سمع منا حديثًا فبلَّغه كما سمعه‏)‏ ‏[‏كلهم عن عبد الله بن مسعود‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏نَضَّر‏)‏‏:‏ من النضارة، وهي حسن الوجه والبريق وإنما أراد‏:‏ حسن الله خُلُقه وقدره‏]‏، فهم سمعوا اللفظ من الرسول بصوت نفسه بالحروف التي تكلم بها وبلغوا لفظه بأصوات أنفسهم، وقد علم الفرق بين من يروي الحديث بالمعنى لا باللفظ، واللفظ المبلغ هو لفظ الرسول وهو كلام الرسول؛ فإنه كان صوت / المبلغ ليس صوت الرسول، وليس ما قام بالرسول من الصفات والأعراض فارقته وما قامت بغيره، بل ولا تقوم الصفة والعرض بغير محله، وإذا كان هذا معقولا في صفات المخلوقين فصفات الخالق أولى بكل صفة كمال، وأبعد عن كل صفة نقص، والتباين الذي بين صفة الخالق والمخلوق أعظم من التباين الذي بين صفة مخلوق ومخلوق، وامتناع الاتحاد والحلول بالذات للخالق وصفاته في المخلوق أعظم من الاتحاد والحلول بالذات للمخلوق وصفاته في المخلوق، وهذه جمل قد بسطت في مواضع أخر‏.‏
هذا مع أن احتجاج الجهمية والمعتزلة بأن كلام المخلوق بقوله‏:‏ ‏{‏يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏12‏]‏ مثل كلام الخالق، غلط باتفاق الناس حتى عندهم؛ فإن الذين يقولون‏:‏ هو مخلوق يقولون‏:‏ إنه خلقه في بعض الأجسام، إما الهواء أو غيره، كما يقولون‏:‏ إنه خلق الكلام في نفس الشجرة فسمعه موسى‏.‏
ومعلوم أن تلك الحروف والأصوات التي خلقها الله ليست مماثلة لما يسمع من العبد، وتلك هي كلام الله المسموع منه عندهم، كما أن أهل السنة يقولون‏:‏ الذي تكلم هو الله بمشيئته، وليس ذلك مماثلا لصوت العبد‏.‏
/وأما القائلون بقدم الكلام المعين، سواء كان معنى أو حروفًا أو أصواتا، فيقولون‏:‏ خلق لموسى إدراكا أدرك به ذلك القديم، وبكل حال فكلام المتكلم إذا سمع من المبلغ عنه غير ما قام بنفس المتكلم المنشئ فكيف ‏[‏لا‏]‏ يكون ذلك في كلام الله تعالى‏؟‏‏.‏
فيجب على الإنسان في ‏[‏مسألة الكلام‏]‏ أن يتحرى أصلين‏:‏
أحدهما‏:‏ تكلم الله بالقرآن وغيره، هل تكلم به بمشيئته وقدرته أم لا‏؟‏ وهل تكلم بكلام قائم بذاته أم خلقه في غيره‏؟‏
والثاني‏:‏ تبليغ ذلك الكلام عن الله، وأنه ليس مما يتصف به الثاني، وإن كان المقصود بالتبليغ الكلام المبلغ، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
وأيضا، فهذان المتنازعان إذا قال أحدهما‏:‏ إنها قديمة، وليس لها مبتدأ، وشكلها ونقطها محدث، وقال الآخر‏:‏ إنها ليست بكلام الله وأنها مخلوقة بشكلها ونقطها، قد يفهم من هذا أنهما أرادا بالحروف الحروف المكتوبة دون المنطوقة، والحروف المكتوبة قد تنازع الناس في شكلها ونقطها؛ فإن الصحابة لما كتبوا المصاحف كتبوها غير مشكولة ولا منقوطة؛ لأنهم إنما كانوا يعتمدون في القرآن على حفظه في صدورهم لا على المصاحف، وهو منقول بالتواتر محفوظ في الصدور، ولو عدمت المصاحف لم يكن للمسلمين بها حاجة؛ فإن المسلمين ليسوا كأهل الكتاب الذين يعتمدون على الكتب التي تقبل التغير، والله أنزل القرآن على محمد فتلقاه تلقيًا وحفظه في قلبه، لم ينزله مكتوبا كالتوراة، / وأنزله منجما مفرقا ليحفظ فلا يحتاج إلى كتاب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً‏}‏ الآية ‏[‏الفرقان‏:‏32‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ‏}‏ الآية ‏[‏الإسراء‏:‏106‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ‏}‏ الآية ‏[‏طه‏:‏114‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ‏}‏ الآية ‏[‏القيامة‏:‏17‏]‏‏.‏
وفي الصحيح عن ابن عباس قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان يحرك شفتيه، فقال ابن عباس‏:‏ أنا أحركهما لك كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل الله تعالى‏:‏‏{‏لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ‏}‏ قال‏:‏ جمعه في صدرك ثم تقرأه ‏{‏فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏}‏ قال‏:‏ فاستمع له وأنصت ‏{‏ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏16ـ 19‏]‏ أي‏:‏ نبينه بلسانك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما أقرأه؛ فلهذا لم تكن الصحابة ينقطون المصاحف ويشكلونها، وأيضا كانوا عربًا لا يلحنون؛ فلم يحتاجوا إلى تقييدها بالنقط، وكان في اللفظ الواحد قراءتان يقرأ بالياء والتاء مثل‏:‏ يعملون وتعملون‏.‏ فلم يقيدوه بأحدهما ليمنعوه من الأخرى‏.‏
ثم إنه في زمن التابعين لما حدث اللحن صار بعض التابعين يشكل المصاحف وينقطها، وكانوا يعملون ذلك بالحمرة، ويعملون الفتح بنقطة حمراء فوق الحرف، والكسرة بنقطة حمراء تحته، والضمة بنقطة حمراء / أمامه، ثم مدوا النقطة وصاروا يعملون الشدة بقولك‏:‏ ‏[‏شد‏]‏، ويعملون المدة بقولك‏:‏‏[‏مد‏]‏، وجعلوا علامة الهمزة تشبه العين؛ لأن الهمزة أخت العين، ثم خففوا ذلك حتى صارت علامة الشدة مثل رأس السين، وعلامة المدة مختصرة كما يختصر أهل الديوان ألفاظ العدد وغير ذلك، وكما يختصر المحدثون ‏[‏أخبرنا وحدثنا‏]‏، فيكتبون أول اللفظ وآخره على شكل ‏[‏أنا‏]‏ وعلى شكل ‏[‏ثنا‏]‏‏.‏
وتنازع العلماء، هل يكره تشكيل المصاحف وتنقيطها‏؟‏ على قولين معروفين، وهما روايتان عن الإمام أحمد، لكن لا نزاع بينهم أن المصحف إذا شكل ونقط وجب احترام الشكل والنقط، كما يجب احترام الحرف، ولا تنازع بينهم أن مداد النقطة والشكل مخلوق، كما أن مداد الحرف مخلوق، ولا نزاع بينهم أن الشكل يدل على الإعراب، والنقط يدل على الحروف، وأن الإعراب من تمام الكلام العربي‏.‏
ويروى عن أبي بكر وعمر أنهما قالا‏:‏ حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه، ولا ريب أن النقطة والشكلة بمجردهما لا حكم لهما ولا حرمة ولا ينبغي أن يجرد الكلام فيهما، ولا ريب أن إعراب القرآن العربي من تمامه، ويجب الاعتناء بإعرابه، والشكل يبين إعرابه كما تبين الحروف المكتوبة للحرف المنطوق، كذلك يبين الشكل المكتوب للإعراب المنطوق‏.‏
/ فهذه المسائل إذا تصورها الناس على وجهها تصورًا تامًا ظهر لهم الصواب، وقَلَّت الأهواء والعصبيات، وعرفوا موارد النزاع، فمن تبين له الحق في شيء من ذلك اتبعه، ومن خفي عليه توقف حتى يبينه الله له، وينبغي له أن يستعين على ذلك بدعاء الله، ومن أحسن ذلك ما رواه مسلم ـ في صحيحه ـ عن عائشة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول‏:‏ ‏(‏اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم‏)‏‏.‏
وقول القائل الآخر‏:‏ ‏[‏كلامه كتب بها‏]‏ ‏:‏ يقتضي أنه أراد بالحروف ما يتناول المنطوق والمكتوب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول‏:‏ الَم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف‏)‏، قال الترمذي‏:‏ حديث صحيح‏.‏ فهنا لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بالحرف نفس المداد وشكل المداد، وإنما أراد الحرف المنطوق، وفي مراده بالحرف قولان‏:‏ قيل‏:‏ هذا اللفظ المفرد‏.‏ وقيل‏:‏ أراد صلى الله عليه وسلم بالحرف الاسم، كما قال‏:‏ ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف‏.‏
ولفظ ‏[‏الحرف‏]‏ و ‏[‏الكلمة‏]‏ له في لغة العرب التي كان النبي / صلى الله عليه وسلم يتكلم بها معنى، وله في اصطلاح النحاة معنى‏.‏ فالكلمة في لغتهم هي الجملة التامة، الجملة الاسمية أو الفعلية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث المتفق على صحته ـ‏:‏ ‏(‏كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن‏:‏ سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم‏)‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لَبِيد‏:‏ ألا كل شيء ما خلا الله باطل‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب له بها سخطه إلى يوم القيامة‏)‏، وقال لأم المؤمنين‏:‏ ‏(‏لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن‏:‏ سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته‏)‏، ومنه قوله تعالى‏:‏‏{‏ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏5‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏26‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏64‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏28‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏40‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله‏)‏ ونظائره كثيرة‏.‏
ولا يوجد قط في الكتاب والسنة وكلام العرب لفظ ‏[‏الكلمة‏]‏ إلا / والمراد به الجملة التامة‏.‏ فكثير من النحاة أو أكثرهم لا يعرفون ذلك، بل يظنون أن اصطلاحهم في مسمى الكلمة ينقسم إلى اسم وفعل وحرف هو لغة العرب، والفاضل منهم يقول‏:‏
وكلمة بها كلام قد يؤم
ويقولون‏:‏ العرب قد تستعمل الكلمة في الجملة التامة وتستعملها في المفرد، وهذا غلط لا يوجد قط في كلام العرب لفظ الكلمة إلا للجملة التامة‏.‏
ومثل هذا اصطلاح المتكلمين على أن القديم هو ما لا أول لوجوده أو ما لم يسبقه عدم، ثم يقول بعضهم‏:‏ وقد يستعمل القديم في المتقدم على غيره، سواء كان أزليًا أو لم يكن، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏39‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏11‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{‏قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏95‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏75،76‏]‏، وتخصيص القديم بالأول عرف اصطلاحي، ولا ريب أنه أولى بالقدم في لغة العرب؛ ولهذا كان لفظ المحدث في لغة العرب بإزاء القديم، قال تعالى‏:‏‏{‏مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏2‏]‏، وهذا يقتضى أن الذي نزل قبله ليس بمحدث بل متقدم‏.‏ وهذا موافق للغة العرب التي نزل بها القرآن، / ونظير هذا لفظ ‏[‏القضاء‏]‏، فإنه في كلام الله وكلام الرسول المراد به إتمام العبادة، وإن كان ذلك في وقتها، كما قال تعالى‏:‏‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏10‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏200‏]‏، ثم اصطلح طائفة من الفقهاء فجعلوا لفظ ‏[‏القضاء‏]‏ مختصًا بفعلها في غير وقتها، ولفظ ‏[‏الأداء‏]‏ مختصًا بما يفعل في الوقت، وهذا التفريق لا يعرف قط في كلام الرسول، ثم يقولون‏:‏ قد يستعمل لفظ القضاء في الأداء، فيجعلون اللغة التي نزل القرآن بها من النادر‏.‏
ولهذا يتنازعون في مراد النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فما أدركتم فَصَلُّوا، وما فاتكم فاقضوا‏)‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏فأتموا‏)‏ فيظنون أن بين اللفظين خلافا وليس الأمر كذلك، بل قوله‏:‏ ‏[‏فاقضوا‏]‏ كقوله‏:‏ ‏[‏فأتموا‏]‏ لم يرد بأحدهما الفعل بعد الوقت، بل لا يوجد في كلام الشارع أمر بالعبادة في غير وقتها، لكن الوقت وقتان‏:‏ وقت عام ووقت خاص لأهل الأعذار؛ كالنائم والناسي إذا صليا بعد الاستيقاظ والذكر، فإنما صليا في الوقت الذي أمر الله به؛ فإن هذا ليس وقتا في حق غيرهما‏.‏
ومن أعظم أسباب الغلط في فهم كلام الله ورسوله، أن ينشأ الرجل / على اصطلاح حادث، فيريد أن يفسر كلام الله بذلك الاصطلاح ويحمله على تلك اللغة التي اعتادها‏.‏
وما ذكر في مسمى ‏[‏الكلام‏]‏ ما ذكره سيبويه في كتابه عن العرب، فقال‏:‏ واعلم ‏[‏أن‏]‏ في كلام العرب إنما وقعت على أن تحكى وإنما يحكى بعد القول ما كان كلاما قولا؛ وإلا فلا يوجد قط لفظ الكلام والكلمة إلا للجملة التامة في كلام العرب، ولفظ الحرف يراد به الاسم والفعل وحروف المعاني واسم حروف الهجاء؛ ولهذا سأل الخليل أصحابه‏:‏ كيف تنطقون بالزاي من زيد‏؟‏ فقالوا‏:‏ زاي، فقال نطقتم بالاسم، وإنما الحرف زه؛ فبين الخليل أن هذه التي تسمى حروف الهجاء هي أسماء‏.‏
وكثيرًا ما يوجد في كلام المتقدمين هذا ‏[‏حرف من الغريب‏]‏ يعبرون بذلك عن الاسم التام، فقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فله بكل حرف‏)‏ مثله بقوله‏:‏ ‏(‏ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف‏)‏‏.‏ وعلى نهج ذلك؛ وذلك حرف، والكتاب حرف، ونحو ذلك‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن ذلك أحرف والكتاب أحرف، وروى ذلك مفسرًا في بعض الطرق‏.‏
والنحاة اصطلحوا اصطلاحًا خاصًا، فجعلوا لفظ ‏[‏الكلمة‏]‏ يراد / به الاسم أو الفعل أو الحرف الذي هو من حروف المعاني؛ لأن سيبويه قال في أول كتابه‏:‏ الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل‏.‏ فجعل هذا حرفًا خاصًا، وهو الحرف الذي جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل؛ لأن سيبويه كان حديث العهد بلغة العرب، وقد عرف أنهم يسمون الاسم أو الفعل حرفًا، فقيد كلامه بأن قال‏:‏ وقسموا الكلام إلى اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، وأراد سيبويه أن الكلام ينقسم إلى ذلك قسمة الكل إلى أجزائه لا قسمة الكلى إلى جزئياته كما يقول الفقهاء بأن القسمة كما يقسم العقار والمنقول بين الورثة، فيعطى هؤلاء قسم غير قسم هؤلاء، كذلك الكلام هو مؤلف من الأسماء والأفعال وحروف المعاني فهو مقسوم إليها وهذا التقسيم غير تقسيم الجنس إلى أنواعه، كما يقال‏:‏ الاسم ينقسم إلى معرب ومبني‏.‏
وجاء الجزولي ‏[‏هو أبو موسى عيسى بن عبد العزيز بن يللبخت الجزولي المراكشي، من علماء العربية، ولي خطابة مراكش، من كتبه‏:‏ ‏[‏الجزولية‏]‏ رسالة في النحو، و ‏[‏شرح قصيدة‏:‏ بانت سعاد‏]‏، ولد سنة 504هـ، وتوفي بمراكش سنة 607.‏ وغيره، فاعترضوا على النحاة في هذا ولم يفهموا كلامهم، فقالوا‏:‏ كل جنس قسم إلى أنواعه أو أشخاص أنواعه، فاسم المقسوم صادق على الأنواع والأشخاص وإلا فليست أقسامًا له، وأرادوا بذلك الاعتراض على قول الزجاج‏:‏ الكلام اسم وفعل وحرف‏.‏والذي ذكره الزجاج هو الذي ذكره سيبويه وسائر أئمة النحاة، وأرادوا بذلك القسمة الأولى المعروفة، وهي قسمة الأمور الموجودة إلى أجزائها كما يقسم العقار والمال، ولم يريدوا بذلك قسمة الكليات ـ التي لا توجد كليات / إلا في الذهن ـ كقسمة الحيوان إلى ناطق وبهيم، وقسمة الاسم إلى المعرب والمبنى؛ فإن المقسم هنا هـو معنـى عقلى كلي لا يكون كليًا إلا في الذهن‏.‏