الْبَابُ الثَّانِي أَدَبُ الْعِلْم :وَمِنْ آدَابِ الْعُلَمَاءِ
 

بسم الله الرحمن الرحيم

فَصْلٌ:

‏ وَمِنْ آدَابِ الْعُلَمَاءِ أَنْ لاَ يَبْخَلُوا بِتَعْلِيمِ مَا يُحْسِنُونَ وَلاَ يَمْتَنِعُوا مِنْ إفَادَةِ مَا يَعْلَمُونَ. فَإِنَّ الْبُخْلَ بِهِ لَوْمٌ وَظُلْمٌ، وَالْمَنْعُ مِنْهُ حَسَدٌ وَإِثْمٌ. وَكَيْفَ يَسُوغُ لَهُمْ الْبُخْلُ بِمَا مُنِحُوهُ جُودًا مِنْ غَيْرِ بُخْلٍ، وَأُوتُوهُ عَفْوًا مِنْ غَيْرِ بَذْلٍ. أَمْ كَيْفَ يَجُوزُ لَهُمْ الشُّحُّ بِمَا إنْ بَذَلُوهُ زَادَ وَنَمَا، وَإِنْ كَتَمُوهُ تَنَاقَصَ وَوَهِيَ. وَلَوْ اسْتَنَّ بِذَلِكَ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ لَمَا وَصَلَ الْعِلْمُ إلَيْهِمْ وَلاَنْقَرَضَ عَنْهُمْ بِانْقِرَاضِهِمْ، وَلَصَارُوا عَلَى مُرُورِ الايَّامِ جُهَّالا، وَبِتَقَلُّبِ الاحْوَالِ وَتَنَاقُصِهَا أَرْذَالا. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ}. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لاَ تَمْنَعُوا الْعِلْمَ أَهْلَهُ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ فَسَادَ دِينِكُمْ وَالْتِبَاسَ بَصَائِرِكُمْ، ثُمَّ قَرَأَ: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَعِنُونَ}}. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يُحْسِنُهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ}. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَخَذَ اللَّهُ الْعَهْدَ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا، حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الْعَهْدَ أَنْ يُعَلِّمُوا.

‏ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إذَا كَانَ مِنْ قَوَاعِدِ الْحِكْمَةِ بَذْلُ مَا يَنْقُصُهُ الْبَذْلُ فَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوَاعِدِهَا بَذْلُ مَا يَزِيدُهُ الْبَذْلُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَمَا أَنَّ الاسْتِفَادَةَ نَافِلَةٌ لِلْمُتَعَلِّمِ، كَذَلِكَ الافَادَةُ فَرِيضَةٌ عَلَى الْمُعَلِّمِ. وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: مَنْ كَتَمَ عِلْمًا فَكَأَنَّهُ جَاهِلٌ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ: إنِّي لاَفْرَحُ بِإِفَادَتِي الْمُتَعَلِّمَ أَكْثَرَ مِنْ فَرَحِي بِاسْتِفَادَتِي مِنْ الْمُعَلِّمِ. ثُمَّ لَهُ بِالتَّعْلِيمِ نَفْعَانِ: أَحَدُهُمَا مَا يَرْجُوهُ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى. فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم التَّعْلِيمَ صَدَقَةً فَقَالَ: {تَصَدَّقُوا عَلَى أَخِيكُمْ بِعِلْمٍ يُرْشِدُهُ، وَرَأْيٍ يُسَدِّدُهُ}. وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {تَعَلَّمُوا وَعَلِّمُوا فَإِنَّ أَجْرَ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ سَوَاءٌ}. قِيلَ: وَمَا أَجْرُهُمَا ؟ قَالَ: مِائَةُ مَغْفِرَةٍ وَمِائَةُ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ. وَالنَّفْعُ الثَّانِي: زِيَادَةُ الْعِلْمِ وَإِتْقَانُ الْحِفْظِ. فَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: اجْعَلْ تَعْلِيمَك دِرَاسَةً لِعِلْمِك، وَاجْعَلْ مُنَاظَرَةَ الْمُتَعَلِّمِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا لَيْسَ عِنْدَك. وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: النَّارُ لاَ يَنْقُصُهَا مَا أُخِذَ مِنْهَا، وَلَكِنْ يُخْمِدُهَا أَنْ لاَ تَجِدَ حَطَبًا. كَذَلِكَ الْعِلْمُ لاَ يُفْنِيهِ الاقْتِبَاسُ، وَلَكِنَّ فَقْدَ الْحَامِلِينَ لَهُ سَبَبُ عَدَمِهِ. فَإِيَّاكَ وَالْبُخْلَ بِمَا تَعْلَمُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: عَلِّمْ عِلْمَك وَتَعَلَّمْ عِلْمَ غَيْرِك.

‏ فَإِذَا عَلِمْت مَا جَهِلْت، وَحَفِظْت مَا عَلِمْت، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُتَعَلِّمِينَ ضَرْبَانِ: مُسْتَدْعًى وَطَالِبٌ. فَأَمَّا الْمُسْتَدْعَى إلَى الْعِلْمِ فَهُوَ مَنْ اسْتَدْعَاهُ الْعَالِمُ إلَى التَّعْلِيمِ لِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ جَوْدَةِ ذَكَائِهِ، وَبَانَ لَهُ مِنْ قُوَّةِ خَاطِرِهِ. فَإِذَا وَافَقَ اسْتِدْعَاءُ الْعَالِمِ شَهْوَةَ الْمُتَعَلِّمِ كَانَتْ نَتِيجَتُهَا دَرَكَ النُّجَبَاءِ، وَظَفَرَ السُّعَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ بِاسْتِدْعَائِهِ مُتَوَفِّرٌ، وَالْمُتَعَلِّمُ بِشَهْوَتِهِ مُسْتَكْثِرٌ. وَأَمَّا طَالِبُ الْعِلْمِ لِدَاعٍ يَدْعُوهُ، وَبَاعِثٍ يَحْدُوهُ، فَإِنْ كَانَ الدَّاعِي دِينِيًّا، وَكَانَ الْمُتَعَلِّمُ فَطِنًا ذَكِيًّا، وَجَبَ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مُقْبِلاً وَعَلَى تَعْلِيمِهِ مُتَوَفِّرًا لاَ يُخْفِي عَلَيْهِ مَكْنُونًا، وَلاَ يَطْوِي عَنْهُ مَخْزُونًا. وَإِنْ كَانَ بَلِيدًا بَعِيدَ الْفِطْنَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يُمْنَعَ مِنْ الْيَسِيرِ فَيَحْرُمُ، وَلاَ يُحْمَلَ عَلَيْهِ بِالْكَثِيرِ فَيُظْلَمُ. وَلاَ يَجْعَلَ بَلاَدَتَهُ ذَرِيعَةً لِحِرْمَانِهِ فَإِنَّ الشَّهْوَةَ بَاعِثَةٌ وَالصَّبْرَ مُؤَثِّرٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لاَ تَمْنَعُوا الْعِلْمَ أَهْلَهُ فَتَظْلِمُوا، وَلاَ تَضَعُوهُ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ فَتَأْثَمُوا}. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: لاَ تَمْنَعُوا الْعِلْمَ أَحَدًا فَإِنَّ الْعِلْمَ أَمْنَعُ لِجَانِبِهِ. فَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ الدَّاعِي دِينِيًّا نَظَرَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ مُبَاحًا، كَرَجُلٍ دَعَاهُ إلَى طَلَبِ الْعِلْمِ حُبُّ النَّبَاهَةِ وَطَلَبُ الرِّئَاسَةِ فَالْقَوْلُ فِيهِ يُقَارِبُ الْقَوْلَ الاوَّلَ فِي تَعْلِيمِ مَنْ قَبِلَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُعَطِّفُهُ إلَى الدِّينِ فِي ثَانِي حَالٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُبْتَدِئًا بِهِ فِي أَوَّلِ حَالٍ.

‏ وَقَدْ حُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: تَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَبَى أَنْ يَكُونَ الا لِلَّهِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا فَدَلَّنَا عَلَى تَرْكِ الدُّنْيَا. وَإِنْ كَانَ الدَّاعِي مَحْظُورًا، كَرَجُلٍ دَعَاهُ إلَى طَلَبِ الْعِلْمِ شَرٌّ كَامِنٌ، وَمَكَرٌ بَاطِنٌ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمَا فِي شُبَهٍ دِينِيَّةٍ، وَحِيَلٍ فِقْهِيَّةٍ، لاَ تَجِدُ أَهْلُ السَّلاَمَةِ مِنْهَا مُخَلِّصًا، وَلاَ عَنْهَا مُدَافِعًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {أَهْلَكُ أُمَّتِي رَجُلاَنِ: عَالِمٌ فَاجِرٌ وَجَاهِلٌ مُتَعَبِّدٌ. وَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَرُّ ؟ قَالَ: الْعُلَمَاءُ إذَا فَسَدُوا}.

‏ فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ إذَا رَأَى مَنْ هَذِهِ حَالُهُ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ طُلْبَتِهِ، وَيَصْرِفَهُ عَنْ بُغْيَتِهِ. فَلاَ يُعِينُهُ عَلَى إمْضَاءِ مَكْرِهِ، وَإِعْمَالِ شَرِّهِ. فَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {وَاضِعُ الْعِلْمِ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ اللُّؤْلُؤَ وَالْجَوْهَرَ وَالذَّهَبَ}. وَقَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ -: لاَ تُلْقُوا الْجَوْهَرَ لِلْخِنْزِيرِ فَالْعِلْمُ أَفْضَلُ مِنْ اللُّؤْلُؤِ، وَمَنْ لاَ يَسْتَحِقُّهُ شَرٌّ مِنْ الْخِنْزِيرِ. وَحُكِيَ أَنَّ تِلْمِيذًا سَأَلَ عَالِمًا عَنْ بَعْضِ الْعُلُومِ فَلَمْ يُفِدْهُ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ مَنَعْته ؟ فَقَالَ: لِكُلِّ تُرْبَةٍ غَرْسٌ، وَلِكُلِّ بِنَاءٍ أُسٌّ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: لِكُلِّ ثَوْبٍ لاَبِسٌ، وَلِكُلِّ عِلْمٍ قَابِسٌ. وَقَالَ بَعْضُ الادَبَاءِ: إرْثِ لِرَوْضَةٍ تَوَسَّطَهَا خِنْزِيرٌ، وَابْكِ لِعِلْمٍ حَوَاهُ شِرِّيرٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْعَالِمِ فِرَاسَةٌ يَتَوَسَّمُ بِهَا الْمُتَعَلِّمَ لِيَعْرِفَ مَبْلَغَ طَاقَتِهِ، وَقَدْرَ اسْتِحْقَاقِهِ لِيُعْطِيَهُ مَا يَتَحَمَّلُهُ بِذَكَائِهِ، أَوْ يَضْعُفُ عَنْهُ بِبَلاَدَتِهِ فَإِنَّهُ أَرْوَحُ لِلْعَالِمِ، وَأَنْجَحُ لِلْمُتَعَلِّمِ، وَقَدْ رَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {إنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ}. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: إذَا أَنَا لَمْ أَعْلَمْ مَا لَمْ أَرَ فَلاَ عَلِمْت مَا رَأَيْت.

‏ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: لاَ عَاشَ بِخَيْرٍ مَنْ لَمْ يَرَ بِرَأْيِهِ مَا لَمْ يَرَ بِعَيْنَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ: أَلْمَعِيٌّ يَرَى بِأَوَّلِ رَأْيٍ آخِرَ الامْرِ مِنْ وَرَاءِ الْمَغِيبِ لَوْذَعِيٌّ لَهُ فُؤَادٌ ذَكِيٌّ مَا لَهُ فِي ذَكَائِهِ مِنْ ضَرِيبِ لاَ يَرْوِي وَلاَ يُقَلِّبُ طَرْفًا وَأَكُفُّ الرِّجَالِ فِي تَقْلِيبِ وَإِذْ كَانَ الْعَالِمُ فِي تَوَسُّمِ الْمُتَعَلِّمِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَكَانَ بِقَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ خَبِيرًا، لَمْ يَضِعْ لَهُ عَنَاءٌ وَلَمْ يَخِبْ عَلَى يَدَيْهِ صَاحِبٌ. وَإِنْ لَمْ يَتَوَسَّمُهُمْ وَخَفِيَتْ عَلَيْهِ أَحْوَالُهُمْ وَمَبْلَغُ اسْتِحْقَاقِهِمْ كَانُوا وَإِيَّاهُ فِي عَنَاءٍ مُكِدٍّ وَتَعَبٍ غَيْرِ مُجِدٍّ؛ لِأَنَّهُ لاَ يَعْدَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ ذَكِيٌّ مُحْتَاجٌ إلَى الزِّيَادَةِ، وَبَلِيدٌ يَكْتَفِي بِالْقَلِيلِ فَيَضْجَرُ الذَّكِيُّ مِنْهُ وَيَعْجِزُ الْبَلِيدُ عَنْهُ وَمَنْ يُرَدِّدُ أَصْحَابَهُ بَيْنَ عَجْزٍ وَضَجَرٍ مَلُّوهُ وَمَلَّهُمْ. وَقَدْ حَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى عليهما السلام: يَا طَالِبَ الْعِلْمِ إنَّ الْقَائِلَ أَقَلُّ مَلاَلَةً مِنْ الْمُسْتَمِعِ فَلاَ تُمِلَّ جُلَسَاءَك إذَا حَدَّثْتَهُمْ يَا مُوسَى، وَاعْلَمْ أَنَّ قَلْبَك وِعَاءٌ فَانْظُرْ مَا تَحْشُو فِي وِعَائِك. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: خَيْرُ الْعُلَمَاءِ مَنْ لاَ يُقِلُّ وَلاَ يُمِلُّ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كُلُّ عِلْمٍ كَثُرَ عَلَى الْمُسْتَمِعِ وَلَمْ يُطَاوِعْهُ الْفَهْمُ ازْدَادَ الْقَلْبُ بِهِ عَمًى. وَإِنَّمَا يَنْفَعُ سَمْعُ الاذَانِ، إذَا قَوِيَ فَهْمُ الْقُلُوبِ فِي الابْدَانِ.

‏ وَرُبَّمَا كَانَ لِبَعْضِ السَّلاَطِينِ رَغْبَةٌ فِي الْعِلْمِ لِفَضِيلَةِ نَفْسِهِ، وَكَرَمِ طَبْعِهِ فَلاَ يَجْعَلُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً فِي الانْبِسَاطِ عِنْدَهُ، وَالادْلاَلِ عَلَيْهِ، بَلْ يُعْطَى مَا يَسْتَحِقُّهُ بِسُلْطَانِهِ وَعُلُوِّ يَدِهِ. فَإِنَّ لِلسُّلْطَانِ حَقَّ الطَّاعَةِ وَالاعْظَامِ، وَلِلْعَالِمِ حَقَّ الْقَبُولِ وَالاكْرَامِ. ثُمَّ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَبْتَدِئَهُ الا بَعْدَ الاسْتِدْعَاءِ، وَلاَ يَزِيدَهُ عَلَى قَدْرِ الاكْتِفَاءِ، فَرُبَّمَا أَحَبَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إظْهَارَ عِلْمِهِ لِلسُّلْطَانِ فَأَكْثَرَهُ فَصَارَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى مَلَلٍ وَمُفْضِيًا إلَى بُعْدِهِ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ مُتَقَسِّمُ الافْكَارِ مُسْتَوْعِبُ الزَّمَانِ، فَلَيْسَ لَهُ فِي الْعِلْمِ فَرَاغُ الْمُنْقَطِعِينَ إلَيْهِ وَلاَ صَبْرُ الْمُنْفَرِدِينَ بِهِ. وَقَدْ حَكَى الاصْمَعِيُّ رحمه الله قَالَ: قَالَ لِي الرَّشِيدُ: يَا عَبْدَ الْمَلِكِ أَنْتَ أَعْلَمُ مِنَّا وَنَحْنُ أَعْقَلُ مِنْك لاَ تُعَلِّمْنَا فِي مَلاَءٍ، وَلاَ تُسْرِعْ إلَى تَذْكِيرِنَا فِي خَلاَءٍ، وَاتْرُكْنَا حَتَّى نَبْتَدِئَك بِالسُّؤَالِ فَإِذَا بَلَغْت مِنْ الْجَوَابِ حَدَّ الاسْتِحْقَاقِ فَلاَ تَزِدْ الا أَنْ يُسْتَدْعَى ذَلِكَ مِنْك، وَانْظُرْ إلَى مَا هُوَ أَلْطَفُ فِي التَّأْدِيبِ، وَأَنْصَفُ فِي التَّعْلِيمِ، وَبَلِّغْ بِأَوْجَزِ لَفْظٍ غَايَةَ التَّقْوِيمِ.

‏ وَلْيَخْرُجْ تَعْلِيمُهُ مَخْرَجَ الْمُذَاكَرَةِ وَالْمُحَاضَرَةِ لاَ مَخْرَجَ التَّعْلِيمِ وَالافَادَةِ؛ لِأَنَّ لِتَأْخِيرِ التَّعَلُّمِ خَجْلَةَ تَقْصِيرٍ يُجَلُّ السُّلْطَانُ عَنْهَا، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ خَطَأٌ أَوْ زَلَلٌ فِي قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ لَمْ يُجَاهِرْهُ بِالرَّدِّ وَعَرَّضَ بِاسْتِدْرَاكِ زَلَلِهِ، وَإِصْلاَحِ خَلَلِهِ. وَحُكِيَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ قَالَ لِلشَّعْبِيِّ: كَمْ عَطَاؤُك ؟ قَالَ: أَلْفَيْنِ. قَالَ: لَحَنْتَ. قَالَ لَمَّا تَرَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الاعْرَابَ كَرِهْت أَنْ أُعْرِبَ كَلاَمِي عَلَيْهِ. ثُمَّ لِيَحْذَرْ اتِّبَاعَهُ فِيمَا يُجَانِبُ الدِّينَ وَيُضَادُّ الْحَقَّ مُوَافَقَةً لِرَأْيِهِ وَمُتَابَعَةً لِهَوَاهُ، فَرُبَّمَا زَلَّتْ أَقْدَامُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ رَغْبَةً أَوْ رَهْبَةً فَضَلُّوا، وَأَضَلُّوا مَعَ سُوءِ الْعَاقِبَةِ وَقُبْحِ الاثَارِ. وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رحمه الله قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {لاَ تَزَالُ هَذِهِ الامَّةُ تَحْتَ يَدِ اللَّهِ وَفِي كَنَفِهِ مَا لَمْ يُمَارِ قُرَّاؤُهَا أُمَرَاءَهَا، وَلَمْ يُزْكِ صُلَحَاؤُهَا فُجَّارَهَا، وَلَمْ يُمَارِ أَخْيَارُهَا أَشْرَارَهَا. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ رَفَعَ عَنْهُمْ يَدَهُ ثُمَّ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ جَبَابِرَتَهُمْ فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، وَضَرَبَهُمْ بِالْفَاقَةِ وَالْفَقْرِ وَمَلاَ قُلُوبَهُمْ رُعْبًا}.

‏ وَمِنْ آدَابِهِمْ: نَزَاهَةُ النَّفْسِ عَنْ شُبَهِ الْمَكَاسِبِ، وَالْقَنَاعَةُ بِالْمَيْسُورِ عَنْ كَدِّ الْمَطَالِبِ. فَإِنَّ شُبْهَةَ الْمَكْسَبِ إثْمٌ وَكَدَّ الطَّلَبِ ذُلٌّ، وَالاجْرُ أَجْدَرُ بِهِ مِنْ الاثْمِ وَالْعِزُّ أَلْيَقُ بِهِ مِنْ الذُّلِّ. وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الادَبِ لِعَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقَاضِي رحمه الله تعالى: يَقُولُونَ لِي فِيك انْقِبَاضٌ وَإِنَّمَا رَأَوْا رَجُلاً عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمْ هَانَ عِنْدَهُمْ وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إنْ كَانَ كُلَّمَا بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِي سُلَّمَا وَمَا كُلُّ بَرْقٍ لاَحَ لِي يَسْتَفِزُّنِي وَلاَ كُلُّ مَنْ لاَقَيْت أَرْضَاهُ مُنْعِمَا إذَا قِيلَ هَذَا مَنْهَلٌ قُلْت قَدْ أَرَى وَلَكِنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا انْهَهَا عَنْ بَعْضِ مَا لاَ يَشِينُهَا مَخَافَةَ أَقْوَالِ الْعِدَا فِيمَ أَوْ لِمَا وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ الْعِلْمِ مُهْجَتِي لِأَخْدُمَ مَنْ لاَقَيْت لَكِنْ لِأُخْدَمَا أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً إذًا فَاتِّبَاعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا مُحَيَّاهُ بِالاطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ عِوَضٌ مِنْ كُلِّ لَذَّةٍ، وَمُغْنٍ عَنْ كُلِّ شَهْوَةٍ. وَمَنْ كَانَ صَادِقَ النِّيَّةِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ هِمَّةٌ فِيمَا يَجِدُ بُدًّا مِنْهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مَنْ تَفَرَّدَ بِالْعِلْمِ لَمْ تُوحِشْهُ خَلْوَةٌ، وَمَنْ تَسَلَّى بِالْكُتُبِ لَمْ تَفُتْهُ سَلْوَةٌ. وَمَنْ آنَسَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، لَمْ تُوحِشْهُ مُفَارَقَةُ الاخْوَانِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لاَ سَمِيرَ كَالْعِلْمِ، وَلاَ ظَهِيرَ كَالْحِلْمِ.

‏ وَمِنْ آدَابِهِمْ: أَنْ يَقْصِدُوا وَجْهَ اللَّهِ بِتَعْلِيمِ مَنْ عَلَّمُوا وَيَطْلُبُوا ثَوَابَهُ بِإِرْشَادِ مَنْ أَرْشَدُوا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَاضُوا عَلَيْهِ عِوَضًا، وَلاَ يَلْتَمِسُوا عَلَيْهِ رِزْقًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً} قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لاَ تَأْخُذُوا عَلَيْهِ أَجْرًا وَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ فِي الْكِتَابِ الاوَّلِ يَا ابْنَ آدَمَ عَلِّمْ مَجَّانًا كَمَا عُلِّمْت مَجَّانًا. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {أَجْرُ الْمُعَلِّمِ كَأَجْرِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ}. وَحَسْبُ مَنْ هَذَا أَجْرُهُ أَنْ يَلْتَمِسَ عَلَيْهِ أَجْرًا.

‏ وَمِنْ آدَابِهِمْ: نُصْحُ مَنْ عَلَّمُوهُ وَالرِّفْقُ بِهِمْ، وَتَسْهِيلُ السَّبِيلِ عَلَيْهِمْ وَبَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي رِفْدِهِمْ، وَمَعُونَتِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ لِأَجْرِهِمْ، وَأَسْنَى لِذِكْرِهِمْ، وَأَنْشَرُ لِعُلُومِهِمْ، وَأَرْسَخُ لِمَعْلُومِهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: يَا عَلِيٌّ لاَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلاً خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ}.

‏ وَمِنْ آدَابِهِمْ: أَنْ لاَ يُعَنِّفُوا مُتَعَلِّمًا، وَلاَ يُحَقِّرُوا نَاشِئًا، وَلاَ يَسْتَصْغِرُوا مُبْتَدِئًا فَإِنَّ ذَلِكَ أَدْعَى إلَيْهِمْ، وَأَعْطِفُ عَلَيْهِمْ، وَأَحَثُّ عَلَى الرَّغْبَةِ فِيمَا لَدَيْهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {عَلِّمُوا وَلاَ تُعَنِّفُوا فَإِنَّ الْمُعَلِّمَ خَيْرٌ مِنْ الْمُعَنِّفِ}. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {وَقِّرُوا مَنْ تَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ، وَوَقِّرُوا مَنْ تُعَلِّمُونَهُ}. وَمِنْ آدَابِهِمْ: أَنْ لاَ يَمْنَعُوا طَالِبًا وَلاَ يُؤَيِّسُوا مُتَعَلِّمًا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ قَطْعِ الرَّغْبَةِ فِيهِمْ وَالزُّهْدِ فِيمَا لَدَيْهِمْ، وَاسْتِمْرَارُ ذَلِكَ مُفْضٍ إلَى انْقِرَاضِ الْعِلْمِ بِانْقِرَاضِهِمْ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {الا أُنَبِّئُكُمْ بِالْفَقِيهِ كُلِّ الْفَقِيهِ. قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: مَنْ لَمْ يُقَنِّطْ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ يُؤْيِسْهُمْ مِنْ رُوحِ اللَّهِ، وَلاَ يَدَعُ الْقُرْآنَ رَغْبَةً إلَى مَا سِوَاهُ. الا لاَ خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَقُّهٌ، وَلاَ عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ، وَلاَ قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ}. فَهَذِهِ جُمْلَةٌ كَافِيَةٌ، وَاَللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.

الْبَابُ الثَّانِي أَدَبُ الْعِلْم :الْعِلْمَ أَشْرَفُ مَا رَغَّبَ فِيهِ الرَّاغِبُ

الْبَابُ الثَّانِي أَدَبُ الْعِلْم:وَرُبَّمَا امْتَنَعَ الانْسَانُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ

الْبَابُ الثَّانِي أَدَبُ الْعِلْم:وَمِنْ أَسْبَابِ التَّقْصِيرِ أَيْضًا

الْبَابُ الثَّانِي أَدَبُ الْعِلْم:وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ كَتَبَ الْخَطَّ

الْبَابُ الثَّانِي أَدَبُ الْعِلْم:مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ الاخْلاَقِ

الْبَابُ الثَّانِي أَدَبُ الْعِلْم :وَمِنْ آدَابِ الْعُلَمَاءِ