فصــل فيما قاله الكفار في القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم ـ أـ
 
فصــل
فلما كان في الأمم كفار ومنافقون، يكفرون ببعض الرسالة دون بعض، إما في القدر وإما في الوصف، كما أن فيهم كفارًا ومنافقين يكفرون بأصل الرسالة، وكان في الكفار بأصل الرسالة من قال‏:‏ إن الرسول شاعر، وساحر، وكاهن، ومعلم، ومجنون، ومفتري، كما كان رئيس قريش وفيلسوفها وحكيمها الوليد بن المغيرة الوحيد المذكور في قوله تعالى‏:‏‏{‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏11ـ 25‏]‏‏.‏
فإنه صَنَع صُنْع الفيلسوف المخالف للرسل في تفكيره أولا؛ الذي هو طلب الانتقال من تصور طرفي القضية إلي المبادئ الموجبة للتصديق ليظفر بالحد الأوسط،ثم قدر ثانيًا، والتقدير هو ‏[‏القياس‏]‏ وهو الانتقال من المبادئ إلي المطلوب بالقياس المنطقي الشمولي؛ ولعمري/إنه لصواب إذا صحت مقدماته، وإن كانت النتيجة في الأغلب أمورًا كلية ذهنية، ثبوتها في الأذهان لا في الأعيان، كالعلوم الرياضية من الأعداد والمقادير؛ فإن العدد المجرد عن المعدود والمقدار المجرد عن الأجسام إنما يوجد في الذهن،لكن أنَّي وأكثر مقدماته في الإلهيات دعاوي يدعي فيها بعموم‏؟‏ وأن القضية من المسلمات بلا حجة، ومتي لم يكن في القياس قضية كلية معلومة لم تفد المطلوب، وهـم يلبسـون المهمـلات التـي هي في معني الجزئيات بالكليات العامة المسلمات، أو يدعي فيها العموم بنوع من قياس التمثيل‏.‏
ومعلوم أنه لابد في كل قياس من قضية كلية، وعامة القضايا الكلية التي لهم فيها المطالب الإلهية لا يعلم كونها كلية عامة؛ إذ عمومها لا يعلم إلا بمجرد قياس التمثيل الذي قد يكون من أفسد القياس المقتضي لتشبيه الله بخلقه، كما يقولون‏:‏ الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وليس معهم إلا تشبيه خالق السموات والأرض ورب العالمين بالطبائع، كطبيعة الماء والنار، مع أن الواحد الذي يثبتونه في الإلهيات، وفي المنطق ــ أيضًا ــ الذين يجعلون قضية الأنواع مركبة منه وهو ‏[‏الجنس‏]‏ و‏[‏الفصل‏]‏ لا حقيقة لها، ولا توجد إلا في الأذهان لا في الأعيان، وقد بسطنا الكلام علي ذلك في مواضع‏.‏
وبينا أن ما يثبتونه من العقليات التي هي ‏[‏الجواهر العقلية‏]‏ المجردة / عن المادة، وهي العقل والنفس، والمادة والصورة التي ليست بجسم ولا عرض، لا حقيقة لها في الخارج، وإنما تقدر في الأذهان، لا في الأعيان، وكذلك ما يثبتونه من الواحد الذي يصفون به واجب الوجود، ومن الواحد الذي يجعلون الأنواع تتركب منه، إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان؛ و‏[‏القياس العقلي‏]‏ الذي يحتجون به لابد فيه من قضية كلية‏.‏
والقياس نوعان‏:‏ قياس الشمول وقياس التمثيل‏.‏
والناس متنازعون في مسمي ‏[‏القياس‏]‏، فقيل‏:‏ هو حقيقة في التمثيل مجاز في الشمول، كما ذكر ذلك أبو حامد، وأبو محمد المقدسي وغيرهما‏.‏ وقيل‏:‏ هو حقيقة في عكس ذلك، كما قاله ابن حزم وغيره من نفاة قياس التمثيل، وقيل ‏:‏ بل اسم القياس يتناولهما، وهذا قول جمهور الناس‏.‏
واسم ‏[‏القياس العقلي‏]‏ يدخل فيه هذا وهذا، لكن من الناس من ظن أن ‏[‏قياس التمثيل‏]‏ لا يفيد اليقين، ولا يستعمل في العقليات، كما ذهب إليه أبو المعالي، وأبو حامد، والرازي، وأبو محمد، والآمدي، وآخرون من أهل المنطق‏.‏
وأما الجمهور فعندهم كلا القياسين سواء، وهذا هو الصواب‏:‏ فإن مآل القياسين إلي شيء واحد، وإنما يختلف بترتيب / الدليل؛ فإن القائل إذا قال ‏:‏ النبيذ المتنازع فيه حرام؛ لأنه مسكر، فكان حرامًا قياسًا علي خمر العنب، فلابد له أن يثبت أن السكر هو مناط التحريم، وهو الذي يسمي في قياس التمثيل ‏[‏مناطًا‏]‏ و‏[‏علة‏]‏ و‏[‏أمارة‏]‏ و‏[‏مشتركًا‏]‏ و‏[‏وضعا‏]‏ ونحو ذلك‏.‏
ولابد في القياس الصحيح من أن يقيم دليلا علي أن السكر مناط التحريم، بحيث إذا وجد السكر وجد التحريم، فإذا صاغ الدليل بقياس الشمول، فإن النبيذ مسكر وكل مسكر حرام، فالسكر في هذا النظم هو الحد الأوسط المكرر، وهو العلة في قياس التمثيل، ولابد له في هذا القياس من أن يثبت هذه القضية الكلية الكبري، وهي قوله‏:‏ كل مسكر حرام، فما به ثبتت هذه القضية في هذا النظم يثبت به أنه مناط التحريم في ذلك النظم لا فرق بينهما‏.‏
وإذا قال القائل ‏:‏ إثبات تأثير الوصف وكونه مناط الحكم هو عمدة القياس، وهو جواب ‏[‏سؤال المطالبة‏]‏ وبيان كون الوصف بالشمول هو مناط الحكم، وهذا لا يثبت إلا بأدلة ظنية‏.‏
قيل له ‏:‏ وإثبات عموم القضية الكبري في قياس الشمول هو عمدة القياس؛ فإن الصغري في الغالب تكون معلومة، كما يكون ثبوت الوصف في الفرع معلومًا، وإذا كان ثبوت الوصف في الفرع قد يحتاج إلي دليل، كما قيل‏:‏ تحتاج / المقدمة الصغري إلي دليل، وإثبات المقدمة الكبري لا يتأتي إلا بأدلة ظنية، ونفس ما به يثبت عموم القضية يثبت تأثير الوصف المشترك لا فرق بينهما أصلا، واستعمال كلا القياسين في الأمور الإلهية لا يكون إلا علي وجه الأولى والأحرى‏.‏
وبهذه ‏[‏الطريقة‏]‏ جاء القرآن، وهي طريقة سلف الأمة وأئمتها؛ فإن الله ـ سبحانه ـ لا يماثله شيء من الموجودات في ‏[‏قياس التمثيل‏]‏، ولا أن يدخل في ‏[‏قياس شمول‏]‏ تتماثل أفراده، بل ما ثبت لغيره من الكمال الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه فهو أحق به، وما نزه عنه غيره من النقائص فهو أحق بالتنزيه منه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏60‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏28‏]‏‏.‏
وقد بسطنا الكلام علي هذا في غير هذا الموضع، وبينا أن ما يستفاد بـ ‏[‏القياس الشمولي‏]‏ في عامة الأمور قد يستفاد بدون ذلك، فتعلم أحكام الجزئيات الداخلة في القياس بدون معرفة حكم القضية الكلية، كما إذا قيل‏:‏ الكل أعظم من الجزء، والضدان لا يجتمعان، فما من كل معين وضدين معينين إلا وإذا علم أن هذا جزء هذا،وأن هذا ضد هذا، علم أن هذا أعظم من هذا، وأن هذا لا يجامع هذا، / بدون أن يخطر بالبال قضية كلية أن كل ضدين لا يجتمعان، وأن كلَّ كلٍّ فهو أعظم من جزء، وكذلك إذا قيل ‏:‏ النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، فما من نقيضين يعرف أنهما نقيضان إلا ويعرف أنهما لا يجتمعان ولا يرتفعان، بدون أن يستحضر أن كل نقيضين لا يجتمعان، ولا يرتفعان‏.‏
فعامة المطالب يستغني فيها عن القياس المنطقي المتضمن للكبري الذي لابد فيه من قضية كلية، والأمور المعينات لا تعلم بمجرد القياس العقلي، وإنما يعلم بالقياس القدر المشترك بينها وبين غيرها وهم يسلمون ذلك، وبينا أن الأدلة الدالة علي الصانع هي آيات تدل بنفسها علي نفسه المقدسة، وبينا الفرق بين دلالة الآيات ودلالة القياس، وأن الأدلة أكمل وأنفع، وطريقة القياس تابعة لها ودونها في المنفعة والكمال، والقرآن جاء بهذه وهذه، ومعرفة الإلهيات، و النبوات وغيرها، فتلك الطريقة أكمل وأتم‏.‏
وهؤلاء يزعمون أنه لا ينال مطلوب فطري إلا بطريقة القياس الذي لابد فيه من قضية كلية، والقضية الكلية لا تفيد إلا أمرًا كليًا عقليًا، لا تفيد معرفة شيء معين، وكل موجود فهو معين، فكيف يقول عاقل مع هذا ‏:‏ إنه لا ينال علم إلا بهذه الطريق‏؟‏‏!‏ ثم إنهم في ضلالهم يظنون أن علم الأنبياء، بل وعلم الرب ـ سبحانه ـ إنما حصل/ بواسطة القياس المنطقي، وأن النبي له قوة حدسية يظفر بالحد الأوسط في القياس المنطقي بدون معلم، فيكون أكمل من غيره، فيجعلون علمه بالغيب من هذا الباب ولم يدرك بمثل هذا القياس علومًا طبيعية أو حسابية ونحو ذلك، فمن أين أنه لا ينال علم إلا به‏؟‏ ومن أين أنه لا مواد يقينية إلا ما يدعيه المدعي مما عنده من الحدسيات المعتادة الظاهرة والباطنة، والبديهيات المعتادة، والمتواترات، والمجربات المعتادة، والحدسيات المعتادة، والحس الباطن، والظاهر، والتجربة، ونحو ذلك لا يعلم بمجرده إلا أمر معين جزئي، وذلك لا يصلح أن يكون مقدمة في القياس، ولكن يعلم في العموم إما بواسطة قياس تمثيل، وإما بعلم ضروري يحدثه الله في القلب ابتداء، وإذا أحدث علمًا ضروريًا عامًا لأفراد فإحداث العلم ببعض تلك الأفراد سهل، فقل أن يستفاد بطريقهم علم بنتيجة إلا والعلم بالنتيجة فيه ممكن بالطريق الذي به عرفت المقدمات أو أسهل، فلا يكون في قياسهم إلا زيادة تطويل وتهويل وتضليل‏.‏
وقد بسطنا الكلام علي ‏[‏المنطق اليوناني‏]‏ بما فيه من حق وباطل، ونافع وضار، في غير هذا الموضع، ونفي العلم إلا بهذا القياس، ونفي كون القياس يقينيًا إلا بهذه المقدمات قول بلا علم، وتكذيب بما لم يحط المكذب بعلمه ؛ ولهذا كانت الطريقة النبوية السلفية أن يستعمل في العلوم الإلهية ‏[‏قياس الأولي‏]‏ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏60‏]‏؛ إذ لا يدخل الخالق والمخلوق تحت قضية كلية تستوي أفرادها، ولا يتماثلان في شيء من الأشياء، بل يعلم أن كل كمال ـ لا نقص فيه بوجه ـ ثبت للمخلوق فالخالق أولي به، وكل نقص وجب نفيه عن المخلوق فالخالق أولي بنفيه عنه، وأمثال هذه ‏[‏الأقيسة العقلية‏]‏ التي من نوع الأمثال المضروبة في القرآن، ولله المثل الأعلي، وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع‏.‏
فلما كان الكفار بالرسالة علي ما ذكر، جاء في الكفار ببعضها من شاركهم في بعض ذلك؛ فأنكرت الجهمية أن يكون الله يتكلم أو يقول أو يحب أو يبغض، وأنكروا سائر صفاته التي جاءت بها الرسل، فأنكروا بعض حقيقة الرسالة التي هي كلام الله، وأنكروا بعض ما في الرسالة من صفات الله‏.‏
وأول من أظهر ذلك في الإسلام ـ وإن كان ذلك موجودًا قبل الإسلام في أمم أخري ـ الجعد بن درهم شيخ الجهم بن صفوان، وكان ـ علي ما قيل ـ من أهل حَرَّان، وكان فيهم أئمة الفلاسفة، ومنهم تعلم أبو نصر الفارابي كثيرًا مما تعلم من الفلسفة علي ما ذكره عبد اللطيف بن يوسف البغدادي، فضحي بالجعد خالد بن عبد الله القسري بواسط علي عهد علماء التابعين وغيرهم من علماء المسلمين، وهم بقايا التابعين في وقته؛ مثل الحسن البصري وغيره الذين حمدوه علي ما فعل، وشكروا ذلك فقال‏:‏ أيها الناس، ضَحُّوا، تقبل الله ضحاياكم؛ فإني مُضَحٍّ بالجعد / بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكيمًا ـ تعالى الله عما يقول الجعد علوًا كبيرا ـ ثم نزل فذبحه‏.‏
وبنوا ذلك علي قاعدة مبتدعة الصابئين، المكذبين ببعض ما جاءت به الرسل، الذين لا يصفون الرب إلا بالصفات السلبية أو الإضافية أو المركبة منهما، وهم في هذا التعطيل موافقون في الحقيقة لفرعون رئيس الكفار الذي جحد الصانع بالكلية ؛ فإن جحود صفاته مستلزم لجحود ذاته؛ ولهذا وافقوا فرعون في تكذيبه لموسى بأن ربه فوق السموات، حيث قال‏:‏ ‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏36، 37‏]‏‏.‏
بخلاف محمد صلى الله عليه وسلم الذي صدق موسى لما عرج به إلي ربه، وأخبر أنه وجد موسى هناك وأنه جعل يختلف بين ربه وبين موسى، فمحمد صلى الله عليه وسلم صدق موسى في أن ربه فوق السموات، وفرعون كذبه في ذلك‏.‏ والناس إما محمدي موسوي، وإما فرعوني؛ إذ فرعون كذب موسى في أن الله فوق، وكذبه في أن الله كلمه، كما أنكر وجود الصانع، ومحمد صدق موسى في هذا كله‏.‏
وهؤلاء الصابئة المحضة من المتفلسفة يقولون‏:‏ إن الله ليس له كلام في الحقيقة، لكن كلامه ـ عند من أظهر الإقرار بالرسل منهم ـ ما يفيض علي نفوس الأنبياء، وهو أنه محدث في نفوسهم من غير أن / يكون في الخارج عن نفوسهم لله عندهم كلام، وهكذا كان الجهم يقول أولا‏:‏ إن الله لا كلام له، ثم احتاج أن يطلق أن له كلامًا لأجل المسلمين فيقول‏:‏ هو مجاز؛ ولهذا كان الإمام أحمد وغيره من الأئمة يعلمون مقصودهم، وأن غرضهم التعطيل، وأنهم زنادقة، والزنديق المنافق‏.‏
ولهذا تجد مصنفات الأئمة يصفونهم فيها بالزندقة، كما صنف الإمام أحمد ‏[‏الرد علي الزنادقة والجهمية‏]‏، وكما ترجم البخاري آخر كتاب الصحيح بـ ‏[‏كتاب التوحيد والرد علي الزنادقة والجهمية‏]‏، وكان عبد الله بن المبارك يقول‏:‏ إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية‏.‏
وتقول الصابئة المحضة ـ الذين آمنوا في الظاهر وآمنوا في الباطن ببعض الكتاب ـ‏:‏ كلام الله اسم لما يفيض علي قلب النبي من ‏[‏العقل الفعال‏]‏ أوغيره، و ‏[‏ملائكة الله‏]‏ اسم لما يتشكل في نفسه من الصور النورانية‏.‏ وقد يقولون‏:‏ إن جبريل هو ‏[‏العقل الفعال‏]‏ أو هو ما يتمثل في نفسه من الصور الخيالية كما يراه النائم؛ ولهذا يقول هؤلاء‏:‏ إن خاصة النبي التخييل، وإن الأنبياء أظهروا خلاف ما أبطنوه لمصلحة العامة، ولم يفيدوا بكلامهم علمًا، لكن تخييلا ينتفع به العامة، ويجعلون هذا من أفضل الأمور، ويمدحون الأنبياء بذلك، ويعظمونهم، / وقد بسطنا الكلام علي هذا في مواضع أخر‏.‏
وعندهم ليس خارجًا عن نفس النبي كلام ولا ملك كما يزعمه من يزعمه من المتفلسفة والصابئة المشركين، وزعموا أنهم مؤمنون، وقالوا‏:‏ إنهم يجمعون بين النبوة والفلسفة، كما يفعل الفارابي وابن سينا وغيرهما من المتفلسفة والقرامطة الباطنية من الإسماعيلية ونحوهم، الذين أخذوا معاني المتفلسفة الروم والفرس فأخرجوها في قالب التشيع والرفض، والإمامية والزيدية وغيرهم من الشيعة يعلمون أنهم كفار‏.‏
ومثل ابن سبعين وأمثاله ممن أظهر التصوف علي طريقة هؤلاء، فهو يأخذ معانيهم يكسوها عبارات الصوفية،والصوفية العارفون يعلمون أنهم كفار، وأن شيوخ الصوفية الكبار كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، وعمرو بن عثمان الشبلي، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأبي عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي ونحوهم ـ رضي الله عنهم ـ كانوا من أعظم الناس تكفيرًا لهؤلاء؛ فإن قول هؤلاء الزنادقة ـ وإن كان فيه إيمان من وجه آخرـ فهؤلاء موافقون في الحقيقة لمقدمهم الوحيد الذي قال‏:‏ ‏{‏إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏25‏]‏، لكن ذاك كفر به كله ظاهرًا وباطنًا، وهؤلاء قد يؤمنون به ظاهرًا، وقد يؤمنون باطنًا ببعض صفاته؛ من أنه مطاع عظيم، وأنه رئيس النوع الإنساني، وأن هذا الكلام الذي / جاء به كلام عظيم القدر، صادر عن نفس صافية كاملة العلم والعمل، لها ثلاث خصائص تتفرد بها عن غيرها‏:‏ خصيصة قوة الحـدس والعلم، وخصيصة قوة التأثير في العالم السفلي بنفسـه، وخصيصـة قـوة التخيل المطابق للحقائق، بحيث يسمع في نفسه الأصوات، ويري من الصور ما يكون خيالا للحقائق، وأنه يجوز إضافة كلامه إلي الله، وتسميته كلام الله، حيث هو أمر به أمرًا خياليًا‏.‏
وفي الحقيقة عندهم ما يفيض علي سائر النفوس الصافية من العلوم والكلمات هي ـ أيضًا ـ كلام الله مثل ما أنه كلام الله، لكن هو أشرف وخطابه دل علي أنه رسول الخلق تجب عليهم طاعته، التي أخبرت بها الرسل لكن يطلقون عليه أنه متكلم؛ ولهذا يقولون‏:‏ إن النبوة مكتسبة، فطمع غير واحد منهم أن يصير نبيًا كما طمع السهروردي وابن سبعين وغيرهما من الملحدين‏.‏
وقد بينا أصول أقوالهم وفسادها في غير هذا الموضع، مثل كلامنا علي إبطال قولهم‏:‏ إن معجزات الأنبياء قوى نفسانية‏.‏
وأما المعتزلة ونحوهم، فيوافقونهم في أن الله لا يتكلم في الحقيقة التي يعلم الناس أن صاحبها يتكلم، بل كلامه منفصل عنه، ويزعمون أن ذلك حقيقة، وليس كلامه عندهم إلا أنه خلق في الهواء أو غيره / أصواتًا يسمعها من يشاء من ملائكته وأنبيائه من غير أن يقوم بنفسه كلام لا معني ولا حروف، وهم يتنازعون في ذلك المخلوق ‏:‏ هل هو جسم أو عَرَض، أو لا يوصف بواحد منهما‏؟‏
ولما ظهر هؤلاء تكلم السلف من التابعين وتابيعهم في تكفيرهم والرد عليهم بما هو مشهور عند السلف، واطلع الأئمة الحذاق من العلماء علي أن حقيقة قول هؤلاء هو التعطيل والزندقة، وإن كان عوامهم لا يفهمون ذلك، كما اطلعوا علي أن حقيقة قول القرامطة والإسماعيلية هو التعطيل والزندقة، وإن كان عوامهم إنما يدينون بالرفض، وجرت فتنة الجهمية، كما امتحنت الأئمة، وأقام الإمام أحمد ـ إمام السنة، وصديق الأمة في وقته، وخليفة المرسلين، ووارث النبيين ـ فثبت الله به الإسلام والقرآن، وحفظ به علي الأمة العلم والإيمان، ودفع به أهل الكفر والنفاق والطغيان، الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض‏.‏
فاستقر أهل السنة وجماهير الأمة وأهل الجماعة وأعلام الملة ـ في شرقها وغربها ـ علي الإيمان الذي جاءت به الرسل عن الله، وجاء به خاتم النبيين مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه، وهو أن القرآن والتوراة والإنجيل كلام الله، وأن كلام الله لا يكون مخلوقًا منفصلا عنه، كما لا يكون كلام المتكلم منفصلا عنه؛ فإن هذا جحود لكلامه الذي / هو رسالته، ودفع لحقيقة ما أنبأت به الرسل وعلمته أممهم، وإلحاد في أسماء الله وآياته، وتمثيل له بالمعدوم والموات؛ فإن الحياة والعلم والقدرة والكلام ونحو ذلك صفات كمال، والرب ـ تعالى ـ أحق بكل كمال، فيمتنع أن يثبت للمخلوق كمال إلا والخالق أحق به، كما يمتنع أن يتنزه المخلوق عن نقص إلا والخالق أحق بتنزهه منه، كيف وهو خالق الكمال للكاملين‏.‏
وأيضًا، فمن لم يتصف بصفات الكمال؛ من الحياة والعلم والسمع والبصر والقدرة والكلام وغير ذلك، فإما أن يكون قابلا للاتصاف بذلك ولم يتصف به، أو غير قابل للاتصاف به‏.‏ فإن قبله ولم يتصف به كان موصوفًا بصفات النقص؛ كالموت والجهل والعمى والصمم والعجز والبكم باتفاق العقلاء؛ فإنهم متفقون علي أن القابل لهذا ولهذا متي لم يتصف بأحدهما اتصف بالآخر‏.‏ وإن قيل ‏:‏ إنه لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات كان أنقص من القابل الذي لم يتصف بها، فالحيوان الذي يكون تارة سميعًا وتارة أصم، وتارة بصيرا وتارة أعمي، وتارة متكلما وتارة أخرس، أكمل من الجماد الذي لا يقبل أن يكون لا هذا ولا هذا‏.‏
فمن لم يصفه بصفات الكمال لزمه إما أن يصفه بهذه النقائص، أو يكون أنقص ممن وصف بهذه النقائص؛ وذلك أن المتفلسفة / اصطلحوا علي تقسيم المتقابلين بالنفي والإثبات إلي النقيضين، وإلي ما يسمونه ‏:‏العدم والملكة، فالعدم عندهم سلب الشيء عما من شأنه أن يكون متصفا به كالعمي والخرس؛ فإنه عدم البصر والكلام عما من شأنه أن يكون بصيرًا متكلمًا، فأما الجماد فلا يسمونه لا بهذا ولا بهذا‏.‏
وشبهتهم لبست علي طائفة من أهل النظر، فظنوا أنه إذا لم يوصف بصفات الكمال من الحياة والعلم والسمع والبصر والكلام، لم يلزم أن يتصف بصفات النقص؛ لأنهما متقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل النقيضين‏.‏
فيقال لهم ‏:‏ هذا ـ أولا ـ اصطلاح لكم، وإلا فغيركم يسمي الجماد ميتًا ومواتًا ونحو ذلك، كما في مثل قوله‏:‏ ‏{‏ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء‏}‏ ‏[‏النحل ‏:‏20، 21‏]‏‏.‏
ويقال لهم ثانيًا ‏:‏ النظر في المعاني العقلية، ومعلوم أن عدم هذه الصفات يستلزم النقص الثابت بعدمها‏.‏
ويقال لهم ثالثًا‏:‏ إذا قلتم لا يتصف بواحد منهما لكونه لا يقبل ذلك، فهذا النقص أعظم من نقص العمي والصمم والبكم ؛ فإن ما لا يقبل / الاتصاف بصفات الكمال أنقص ممن هو قابل لها يمكن اتصافه بها؛ فإنه منه بدأ؛ لا كما يقوله الصابئة ومن وافقهم من الجهمية‏:‏ إنه ابتدأ من نفس النبي أو من ‏[‏العقل الفعال‏]‏ أو من ‏[‏الهواء‏]‏ بل هو تنزيل من حكيم حميد، وأنه إليه يعود إذا أسري به من المصاحف والصدور‏.‏
وصار الإمام أحمد علمًا لأهل السنة الجائين بعده من جميع الطوائف، كلهم يوافقه في جمل أقواله، وأصول مذاهبه؛ لأنه حفظ علي الأمة الإيمان الموروث، والأصول النبوية ـ ممن أراد أن يحرفها ويبدلها ـ ولم يشرع دينًا لم يأذن الله به، والذي قاله هو الذي يقوله سائر الأئمة الأعيان، حتي إن أعيان أقواله منصوصة عن أعيانهم، لكن جمع متفرقها، وجاهد مخالفها، وأظهر دلالة الكتاب والسنة عليها، ومقالاته ومقالات الأئمة قبله وبعده في الجهمية كثيرة مشهورة‏.‏
والجهمية هم نفاة صفات الله، المتبعون للصابئة الضالة ‏.‏ وصارت فروع التجهم تجول في نفوس كثير من الناس، فقال بعض من كان معروفًا بالسنة والحديث‏:‏ ولا نقول مخلوق، ولا غير مخلوق بل نقف، وباطن أكثرهم موافق للمخلوقية، ولكن كان المؤمنون أشد رهبة في صدورهم من الله‏.‏
/وطائفة أخري قالت‏:‏ نقول‏:‏ كلام الله الذي لم ينزله غير مخلوق، وأما القرآن الذي أنزله علي رسوله وتلاه جبريل ومحمد والمؤمنون فهو مخلوق، وهؤلاء هم ‏[‏اللفظية‏]‏‏.‏ فصارت الأمة تفزع إلي إمامها إذ ذاك، فيقول لهم أحمد‏:‏ افترقت الجهمية علي ثلاث فرق‏:‏ فرقة تقول‏:‏ القرآن مخلوق؛ وفرقة تقول‏:‏ كلام الله وتسكت، وفرقة تقول ‏:‏ ألفاظنا وتلاوتنا للقرآن مخلوقة ‏.‏ فإن حقيقة قول هؤلاء أن القرآن الذي نزل به جبريل علي قلب رسول الله صلي الله عليه وسلم هو قرآن مخلوق، لم يتكلم الله به، وكان لهؤلاء شبهة كون أفعالنا وأصواتنا مخلوقة، ونحن إنما نقرأه بحركاتنا وأصواتنا، وربما قال بعضهم‏:‏ ما عندنا إلا ألفاظنا وتلاوتنا، وما في الأرض قرآن إلا هذا، وهذا مخلوق‏.‏
فقابلهم قوم أرادوا تقويم السنة فوقعوا في البدعة، وردوا باطلا بباطل، وقابلوا الفاسد بالفاسد، فقالوا‏:‏ تلاوتنا للقرآن غير مخلوقة، وألفاظنا به غير مخلوقة؛ لأن هذا هو القرآن، والقرآن غير مخلوق، ولم يفرقوا بين الاسم المطلق والاسم المقيد في الدلالة، وبين حال المسمى إذا كان مجردًا، وحاله إذا كان مقرونا مقيدًا‏.‏ فأنكر الإمام أحمد ـ أيضًا ـ علي من قال‏:‏ إن تلاوة العباد وقراءتهم وألفاظهم وأصواتهم غير مخلوقة، وأمر بهجران هؤلاء، كما جَهَّم الأولين وبَدَّعَهم ‏.‏ والنقل عنه / بذلك من رواية ابنه عبد الله وصالح والمروزي وفوران وأبي طالب وأبي بكر بن صدقة وخلق كثير من أصحابه وأتباعه‏.‏
وقد قام أخص أتباعه ـ أبو بكر المروزي ـ بعد مماته في ذلك، وجمـع كلامه، وكلام
الأئمة من أصحابه وغيرهم؛ مثل عبد الوهاب الوراق ‏[‏هو أبو الحسن عبد الوهاب بن عبد الحكم بن نافع الوراق البغدادي، صدوق، نسائي الأصل، وثقه النسائي والدارقطني وابن حبان والخطيب، مات سنة 250هـ‏]‏‏.‏ والأثرم، وأبي داود السجستاني، والفضل بن زياد ‏[‏هو أبو العباس الفضل بن زياد البغدادي، الذى يقال له ‏:‏ الطستي يروى عن إسماعيل بن عياش وأهل العراق، كان ثقة‏]‏‏.‏ ومثنى بن جامع الأنباري، ومحمد بن إسحاق الصنعاني، ومحمد ابن سهل بن عسكر ‏[‏هو أبو بكر محمد بن سهل بن عسكر بن عمارة بن دويد، ويقال‏:‏ ابن عسكر بن مستور بدل عمارة التميمي، الحافظ الجوال ‏.‏ وثقه النسائي وابن عدي، سكن بغداد، ومات بها في شعبان سنة 251هـ‏]‏ وغير هؤلاء من علماء الإسلام، وبيّن بدعة هؤلاء الذين يقولون‏:‏ إن تلاوة العباد وألفاظهم بالقرآن غير مخلوقة‏.‏
وقد ذكر ذلك الخلال في كتاب ‏[‏السنة‏]‏ وبسط القول في ذلك، قال الخلال‏:‏ أخبرني أبو بكر المروزي، قال‏:‏ بلغ أبا عبد الله عن أبي طالب أنه كتب إلى أهل نَصِيبين‏:‏ إن لفظي بالقرآن غير مخلوق، قال أبو بكر ‏:‏ فجاءنا صالح بن أحمد، فقال‏:‏ قوموا إلى أبي، فجئنا فدخلنا على أبي عبد الله، فإذا هو غضبان شديد الغضب، قد تبين الغضب في وجهه، فقال‏:‏ اذهب فجئني بأبي طالب، فجئت به، فقعد بين يدي أبي عبد الله، وهو يرعد، فقال ‏:‏ كتبت إلى أهل نصيبين تخبرهم عني أني قلت‏:‏ لفظي بالقرآن غير مخلوق‏؟‏‏!‏‏!‏ فقال‏:‏ إنما حكيت عن نفسي، قال‏:‏ فلا يحل هذا عنك ولا عن نفسي، فما سمعت عالمًا قال هذا‏.‏ قال أبو عبد الله ‏:‏ القرآن كلام الله غير مخلوق كيف تصرف، فقيل لأبي طالب‏:‏ اخرج وأخبر / أن أبا عبد الله قد نهى أن يقال‏:‏ لفظي بالقرآن غير مخلوق، فخرج أبو طالب فلقى جماعة من المحدثين فأخبرهم‏:‏ أن أبا عبد الله نهاه أن يقول‏:‏ لفظي بالقرآن غير مخلوق‏.‏
ومع هذا فكل واحدة من الطائفتين ‏:‏ الذين يقولون ‏:‏ لفظنا بالقرآن غير مخلوق، والذين يقولون‏:‏ لفظنا وتلاوتنا مخلوقة ـ تنتحل أبا عبد الله وتحكى قولها عنه، وتزعم أنه كان على مقالتها؛ لأنه إمام مقبول عند الجميع؛ ولأن الحق الذي مع كل طائفة يقوله أحمد، والباطل الذي تنكره كل طائفة على الأخرى يرده أحمد، فمحمد بن داود المصِّيصي ـ أحد علماء الحديث وأحد شيوخ أبي داود ـ وجماعة في زمانه كأبي حاتم الرازي وغيره يقولون ‏:‏ لفظنا بالقرآن غير مخلوق، وتبعهم طائفة على ذلك، كأبي عبد الله بن حامد، وأبي نصر السجزي، وأبي عبد الله بن منده،وشيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري، وأبي العلاء الهمداني، وأبي الفرج المقدسي، وغير هؤلاء يقولون‏:‏ إن ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة، و يروون ذلك عن أحمد،وأنه رجع إلى ذلك، كما ذكره أبو نصر في كتابه ‏[‏الإبانة‏]‏، وهي روايات ضعيفة بأسانيد مجهولة لا تعارض ما تواتر عنه عند خواص أصحابه، وأهل بيته، والعلماء الثقات، لا سيما وقد علم أنه في حياته خطأ أبا طالب في النقل عنه، حتى رده أحمد عن ذلك، وغضب عليه غضبًا شديدًا‏.‏
/وقد رأيت بعض هؤلاء طعن في تلك النقول الثابتة عنه‏.‏ ومنهم من حرفها لفظًا، وأما تحريف معانيها فذهب إليه طوائف، فأما الذين ثبتوا النقل عنه ووافقوه على إنكاره الأمرين، وهم جمهور أهل السنة ومن انتسب إليهم من أهل الكلام كأبي الحسن الأشعري وأمثاله، فإنه ذكر في ‏[‏مقالات أهل السنة والحديث‏]‏ أنهم ينكرون على من قال‏:‏ لفظي بالقرآن مخلوق، ومن قال‏:‏ لفظي به غير مخلوق، وأنه يقول بذلك‏.‏
لكن من هؤلاء من تأول كلام أحمد وغيره في ذلك بأنه منع أن يقال‏:‏ إن القرآن يلفظ به، وهذا قاله الأشعري وابن الباقلاني والقاضي أبو يعلى وأتباعه، كأبي الحسن بن الزاغوني وأمثاله‏.‏
ثم هؤلاء الذين تأولوا كلامه على ذلك منهم من قال ‏:‏ المعنى الذي أنكره أحمد على من قال‏:‏ لفظي بالقرآن مخلوق كما فعل ذلك الأشعري وأتباعه‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ بل المعنى الذي أنكره أحمد على من قال‏:‏ لفظي به غير مخلوق كما فعل ذلك القاضي وابن الزاغوني وأمثالهما؛ فإن أحمد وسائر الأئمة ينكرون أن يكون شيء من كلام الله مخلوقًا، حروفه أو معانيه، أو أن يكون معنى التوراة هو معنى القرآن، وأن كلام الله إذا عبر عنه بالعربية يكون قرآنًا، وإذا عبر عنه بالعبرانية يكون هو التوراة، وينكرون أن يكون القرآن المنزل ليس هو كلام الله، أو أن يطلق / القول على ما هو كلام الله بأنه مخلوق، وأحمد والأئمة ينكرون على من يجعل شيئًا من أفعال العباد أو أصواتهم غير مخلوق؛ فضلا عن أن يكون قديمًا‏!‏ وكلام أحمد في ‏[‏مسألة التلاوة والإيمان والقرآن‏]‏ من نمط واحد، منع إطلاق القول بأن ذلك مخلوق؛ لأنه يتضمن القول بأن من صفات الله ما هو مخلوق، ولما فيه من الذريعة، ومنع أيضًا إطلاق القول بأنه غير مخلوق لما في ذلك من البدعة والضلال‏.‏
ولما كان أحمد قد صار هو إمام السنة، كان من جاء بعده ممن ينتسب إلى السنة ينتحله إمامًا، كما ذكر ذلك الأشعري، في ‏[‏كتاب الإبانة‏]‏ وغيره، فقال‏:‏ إن قال قائل ‏:‏ قد أنكرتم قول ‏[‏الجهمية‏]‏ و ‏[‏المعتزلة‏]‏ و ‏[‏الخوارج‏]‏ و ‏[‏الروافض‏]‏ و ‏[‏المرجئة‏]‏ فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون‏.‏
قيل له‏:‏ قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها‏:‏ التمسك بكتاب ربنا وسنة نبينا، وما روى عن الصحابة والتابعين، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل قائلون، ولما خالفه مجانبون، فإنه الإمام الكامل، والرئيس الفاضل، الذي أبان الله به الحق، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين‏.‏ وذكر جملا من المقالات‏.‏
/ فلهذا صار من بعده متنازعين في هذا الباب‏.‏ فالطائفة الذين يقولون‏:‏ لفظنا وتلاوتنا غير مخلوقة ينتسبون إليه، ويزعمون أن هذا آخر قوليه، أو يطعنون فيما يناقض ذلك عنه، أو يتأولون كلامه بما لم يرده‏.‏