الْبَابُ الثَّالِثُ أَدَبُ الدِّينِ :فَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ الَّتِي يَمْنَعُ الشَّرْعُ مِنْهَا
 

بسم الله الرحمن الرحيم

فَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ الَّتِي يَمْنَعُ الشَّرْعُ مِنْهَا وَاسْتَقَرَّ التَّكْلِيفُ، عَقْلاً أَوْ شَرْعًا، بِالنَّهْيِ عَنْهَا فَتَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ. مِنْهَا مَا تَكُونُ النُّفُوسُ دَاعِيَةً إلَيْهَا، وَالشَّهَوَاتُ بَاعِثَةً عَلَيْهَا، كَالسِّفَاحِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَقَدْ زَجَرَ اللَّهُ عَنْهَا؛ لِقُوَّةِ الْبَاعِثِ عَلَيْهَا، وَشِدَّةِ الْمَيْلِ إلَيْهَا بِنَوْعَيْنِ مِنْ الزَّجْرِ: أَحَدُهُمَا: حَدٌّ عَاجِلٌ يَرْتَدِعُ بِهِ الْجَرِيءُ. وَالثَّانِي: وَعِيدٌ آجِلٌ يَزْدَجِرُ بِهِ التَّقِيُّ. وَمِنْهَا مَا تَكُونُ النُّفُوسُ نَافِرَةً مِنْهَا، وَالشَّهَوَاتُ مَصْرُوفَةً عَنْهَا، كَأَكْلِ الْخَبَائِثِ وَالْمُسْتَقْذِرَات وَشُرْبِ السَّمُومِ الْمُتْلِفَاتِ، فَاقْتَصَرَ اللَّهُ فِي الزَّجْرِ عَنْهَا بِالْوَعِيدِ وَحْدَهُ دُونَ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ مُسْتَعِدَّةٌ فِي الزَّجْرِ عَنْهَا، وَمَصْرُوفَةٌ عَنْ رُكُوبِ الْمَحْظُورِ مِنْهَا. ثُمَّ أَكَّدَ اللَّهُ زَوَاجِرَهُ بِإِنْكَارِ الْمُنْكِرِينَ لَهَا فَأَوْجَبَ الامْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ لِيَكُونَ الامْرُ بِالْمَعْرُوفِ تَأْكِيدًا لِأَوَامِرِهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ تَأْيِيدًا لِزَوَاجِرِهِ. لِأَنَّ النُّفُوسَ الاشِرَةَ قَدْ أَلْهَتْهَا الصَّبْوَةُ عَنْ اتِّبَاعِ الاوَامِرِ، وَأَذْهَلَتْهَا الشَّهْوَةُ عَنْ تِذْكَارِ الزَّوَاجِرِ. وَكَانَ إنْكَارُ الْمُجَالِسِينَ أَزْجَرَ لَهَا، وَتَوْبِيخُ الْمُخَاطَبِينَ أَبْلَغَ فِيهَا. وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {مَا أَقَرَّ قَوْمٌ الْمُنْكَرَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ الا عَمَّهُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مُحْتَضَرٍ}. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَلاَ يَخْلُو حَالُ فَاعِلِي الْمُنْكَرِ مِنْ أَحَدِ الامْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا آحَادًا مُتَفَرِّقِينَ، وَأَفْرَادًا مُتَبَدِّدِينَ، لَمْ يَتَحَزَّبُوا فِيهِ، وَلَمْ يَتَضَافَرُوا عَلَيْهِ، وَهُمْ رَعِيَّةٌ مَقْهُورُونَ، وَأَفْذَاذٌ مُسْتَضْعَفُونَ، فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ أَمَرَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيَهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ، مَعَ الْمُكْنَةِ وَظُهُورِ الْقُدْرَةِ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ مِنْ فَاعِلِيهِ، أَوْ سَمِعَهُ مِنْ قَائِلِيهِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَى مُنْكِرِيهِ هَلْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالشَّرْعِ.

فَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى وُجُوبِ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ بِالْعَقْلِ وَجَبَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْقَبِيحِ، وَوَجَبَ أَيْضًا بِالْعَقْلِ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى مُجَانَبَتِهِ، وَأَبْلَغُ فِي مُفَارَقَتِهِ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ رحمه الله قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {إنَّ قَوْمًا رَكِبُوا سَفِينَةً فَاقْتَسَمُوا فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَوْضِعًا، فَنَقَرَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مَوْضِعًا بِفَأْسٍ. فَقَالُوا: مَا تَصْنَعُ ؟ فَقَالَ: هُوَ مَكَانِي أَصْنَعُ فِيهِ مَا شِئْت. فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ فَهَلَكَ وَهَلَكُوا}. وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى وُجُوبِ ذَلِكَ بِالشَّرْعِ دُونَ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَوْ أَوْجَبَ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَمَنَعَ غَيْرَهُ مِنْ الْقَبِيحِ، لَوَجَبَ مِثْلُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَا جَازَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِإِقْرَارِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْكُفْرِ، وَتَرْكِ النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ،؛ لِأَنَّ وَاجِبَاتِ الْعُقُولِ لاَ يَجُوزُ إبْطَالُهَا بِالشَّرْعِ، وَفِي وُرُودِ الشَّرْعِ بِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِإِنْكَارِهِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي تَرْكِ إنْكَارِهِ مَضَرَّةٌ لاَحِقَةٌ بِمُنْكِرِهِ وَجَبَ إنْكَارُهُ بِالْعَقْلِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا. وَأَمَّا إنْ لَحِقَ الْمُنْكِرَ مَضَرَّةٌ مِنْ إنْكَارِهِ وَلَمْ تَلْحَقْهُ مِنْ كَفِّهِ وَإِقْرَارِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الانْكَارُ بِالْعَقْلِ وَلاَ بِالشَّرْعِ. أَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ اجْتِلاَبِ الْمَضَارِّ الَّتِي لاَ يُوَازِيهَا نَفْعٌ. وَأَمَّا الشَّرْعُ فَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {أَنْكِرْ الْمُنْكَرَ بِيَدِك فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِك، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِك، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الايمَانِ}. فَإِنْ أَرَادَ الاقْدَامَ عَلَى الانْكَارِ مَعَ لُحُوقِ الْمَضَرَّةِ بِهِ نَظَرَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إظْهَارُ النَّكِيرِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ، وَلاَ إظْهَارِ كَلِمَةِ الْحَقِّ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ النَّكِيرُ إذَا خَشِيَ، بِغَالِبِ الظَّنِّ، تَلَفًا أَوْ ضَرَرًا، وَلَمْ يُخْشَ مِنْهُ النَّكِيرُ أَيْضًا. وَإِنْ كَانَ فِي إظْهَارِ النَّكِيرِ إعْزَازُ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِظْهَارُ كَلِمَةِ الْحَقِّ، حَسُنَ مِنْهُ النَّكِيرُ مَعَ خَشْيَةِ الاضْرَارِ وَالتَّلَفِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، إذَا كَانَ الْغَرَضُ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ بِالنَّكِيرِ وَإِنْ انْتَصَرَ أَوْ قُتِلَ.

وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {إنَّ مِنْ أَفْضَلِ الاعْمَالِ كَلِمَةَ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ}. فَأَمَّا إذَا كَانَ يُقْتَلُ قَبْلَ حُصُولِ الْغَرَضِ قَبُحَ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِإِنْكَارِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الانْكَارُ يَزِيدُ الْمُنْهَى إغْرَاءً بِفِعْلِ الْمُنْكَرِ، وَلَجَاجًا فِي الاكْثَارِ مِنْهُ، قَبُحَ فِي الْعَقْلِ إنْكَارُهُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْمُنْكَرِ مِنْ جَمَاعَةٍ قَدْ تَضَافَرُوا عَلَيْهِ، وَعُصْبَةٍ قَدْ تَحَزَّبَتْ وَدَعَتْ إلَيْهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُجُوبِ إنْكَارِهِ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الاثَارِ: لاَ يَجِبُ إنْكَارُهُ وَالاوْلَى بِالانْسَانِ أَنْ يَكُونَ كَافًّا، مُمْسِكًا، وَمُلاَزِمًا لِبَيْتِهِ، وَادِعًا غَيْرَ مُنْكِرٍ وَلاَ مُسْتَفَزٍّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِمَّنْ يَقُولُ بِظُهُورِ الْمُنْتَظَرِ: لاَ يَجِبُ إنْكَارُهُ وَلاَ التَّعَرُّضُ لِإِزَالَتِهِ الا أَنْ يَظْهَرَ الْمُنْتَظَرُ فَيَتَوَلَّى إنْكَارَهُ بِنَفْسِهِ وَيَكُونُوا أَعْوَانَهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى، مِنْهُمْ الاصَمُّ: لاَ يَجُوزُ لِلنَّاسِ إنْكَارُهُ الا أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى إمَامٍ عَدْلٍ، فَيَجِبَ عَلَيْهِمْ الانْكَارُ مَعَهُ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ: إنْكَارُ ذَلِكَ وَاجِبٌ، وَالدَّفْعُ عَنْهُ لاَزِمٌ عَلَى شُرُوطِهِ فِي وُجُودِ أَعْوَانٍ يَصْلُحُونَ لَهُ. فَأَمَّا مَعَ فَقْدِ الاعْوَانِ فَعَلَى الانْسَانِ الْكَفُّ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ قَدْ يُقْتَلُ قَبْلَ بُلُوغِ الْغَرَضِ، وَذَلِكَ قَبِيحٌ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُ. فَهَذَا مَا أَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَوَامِرَهُ وَأَيَّدَ بِهِ زَوَاجِرَهُ مِنْ الامْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَمَا يَخْتَلِفُ مِنْ أَحْوَالِ الامِرِينَ بِهِ وَالنَّاهِينَ عَنْهُ.

ثُمَّ لَيْسَ يَخْلُو حَالُ النَّاسِ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ، مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي، مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَجِيبُ إلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَيَكُفُّ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي. وَهَذَا أَكْمَلُ أَحْوَالِ أَهْلِ الدِّينِ، وَأَفْضَلُ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ. فَهَذَا يَسْتَحِقُّ جَزَاءَ الْعَامِلِينَ، وَثَوَابَ الْمُطِيعِينَ. رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَدَائِنِيُّ. عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {الذَّنْبُ لاَ يُنْسَى وَالْبِرُّ لاَ يَبْلَى، وَالدَّيَّانُ لاَ يَمُوتُ، فَكُنْ كَمَا شِئْت، وَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ}. وَقَدْ قِيلَ: كُلٌّ يَحْصُدُ مَا يَزْرَعُ، وَيُجْزَى بِمَا يَصْنَعُ. بَلْ قَالُوا: زَرْعُ يَوْمِك حَصَادُ غَدِك. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيُقْدِمُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، وَهِيَ أَخْبَثُ أَحْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ. فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ اللاَهِي عَنْ فِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ، وَعَذَابَ الْمُجْتَرِئِ عَلَى مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مِنْ مَعَاصِيهِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: عَجِبْت لِمَنْ يَحْتَمِي مِنْ الطَّيِّبَاتِ مَخَافَةَ الدَّاءِ، كَيْفَ لاَ يَحْتَمِي مِنْ الْمَعَاصِي مَخَافَةَ النَّارِ.

فَأَخَذَ ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ: جِسْمُك قَدْ أَفْنَيْته بِالْحِمَى دَهْرًا مِنْ الْبَارِدِ وَالْحَارِّ وَكَانَ أَوْلَى بِك أَنْ تَحْتَمِي مِنْ الْمَعَاصِي حَذَرَ النَّارِ وَقَالَ ابْنُ صَبَاوَةَ: إنَّا نَظَرْنَا فَوَجَدْنَا الصَّبْرَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَهْوَنَ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ آخَرُ: اصْبِرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَلَى عَمَلٍ لاَ غِنَى بِكُمْ عَنْ ثَوَابِهِ، وَاصْبِرُوا عَنْ عَمَلٍ لاَ صَبْرَ لَكُمْ عَلَى عِقَابِهِ. وَقِيلَ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رضي الله عنه: رَضِيَ اللَّهُ عَنْك. فَقَالَ: كَيْفَ يَرْضَى عَنِّي وَلَمْ أُرْضِهِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَجِيبُ إلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيُقْدِمُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي. فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ الْمُجْتَرِئِ؛ لِأَنَّهُ تَوَرَّطَ بِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ عَلَى الاقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَإِنْ سَلِمَ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي فِعْلِ الطَّاعَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {أَقْلِعُوا عَنْ الْمَعَاصِي قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَكُمْ اللَّهُ هَتًّا بَتًّا}: الْهَتُّ الْكَسْرُ وَالْبَتُّ الْقَطْعُ. وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَفْضَلُ النَّاسِ مَنْ لَمْ تُفْسِدْ الشَّهْوَةُ دِينَهُ، وَلَمْ تَتْرُكْ الشُّبْهَةُ يَقِينَهُ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: عَجِبْت لِمَنْ يَحْتَمِي مِنْ الاطْعِمَةِ لِمَضَرَّاتِهَا، كَيْفَ لاَ يَحْتَمِي مِنْ الذُّنُوبِ لِمَعَرَّاتِهَا. وَقَالَ بَعْضُ الصُّلَحَاءِ: أَهْلُ الذُّنُوبِ مَرْضَى الْقُلُوبِ وَقِيلَ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رحمه الله: مَا أَعْجَبُ الاشْيَاءِ ؟ فَقَالَ: قَلْبٌ عَرَفَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ عَصَاهُ. وَقَالَ بَعْضُ الالِبَّاءِ: يُدِلُّ بِالطَّاعَةِ الْعَاصِي وَيَنْسَى عَظِيمَ الْمَعَاصِي. وَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك رَجُلٌ قَلِيلُ الذُّنُوبِ قَلِيلُ الْعَمَلِ، أَوْ رَجُلٌ كَثِيرُ الذُّنُوبِ كَثِيرُ الْعَمَلِ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: لاَ أَعْدِلُ بِالسَّلاَمَةِ شَيْئًا.

وَقِيلَ لِبَعْضِ الزُّهَّادِ: مَا تَقُولُ فِي صَلاَةِ اللَّيْلِ ؟ فَقَالَ: خَفْ اللَّهَ بِالنَّهَارِ وَنَمْ بِاللَّيْلِ. وَسَمِعَ بَعْضُ الزُّهَّادِ رَجُلاً يَقُولُ لِقَوْمٍ: أَهْلَكَكُمْ النَّوْمُ. فَقَالَ: بَلْ أَهْلَكَتْكُمْ الْيَقِظَةُ. وَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: مَا التَّقْوَى ؟ فَقَالَ: أَجَزْتَ فِي أَرْضٍ فِيهَا شَوْكٌ ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: كَيْفَ كُنْتَ تَصْنَعُ ؟ فَقَالَ: كُنْتُ أَتَوَقَّى. قَالَ: فَتَوَقَّ الْخَطَايَا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: أَيَضْمَنُ لِي فَتًى تَرْكَ الْمَعَاصِي وَأَرْهَنُهُ الْكَفَالَةَ بِالْخَلاَصِ أَطَاعَ اللَّهَ قَوْمٌ وَاسْتَرَاحُوا وَلَمْ يَتَجَرَّعُوا غُصَصَ الْمَعَاصِي وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَيَكُفُّ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ اللاَهِي عَنْ دِينِهِ، الْمُنْذَرِ بِقِلَّةِ يَقِينِهِ. وَرَوَى أَبُو إدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {كَانَتْ صُحُفُ مُوسَى - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ - كُلُّهَا عِبَرًا. عَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ ثُمَّ يَضْحَكُ، وَعَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ يَتْعَبُ، وَعَجِبْت لِمَنْ رَأَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا ثُمَّ يَطْمَئِنُّ إلَيْهَا، وَعَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ ثُمَّ يَفْرَحُ، وَعَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ غَدًا ثُمَّ لاَ يَعْمَلُ}.

وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {اجْتَهَدُوا فِي الْعَمَلِ فَإِنْ قَصَرَ بِكُمْ ضَعْفٌ فَكُفُّوا عَنْ الْمَعَاصِي}. وَهَذَا وَاضِحُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْكَفَّ عَنْ الْمَعَاصِي تَرْكٌ وَهُوَ أَسْهَلُ، وَعَمَلَ الطَّاعَاتِ فِعْلٌ وَهُوَ أَثْقَلُ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُبِحْ اللَّهُ تَعَالَى ارْتِكَابَ الْمَعْصِيَةِ بِعُذْرٍ وَلاَ بِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ وَالتَّرْكُ لاَ يَعْجَزُ الْمَعْذُورُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَبَاحَ تَرْكَ الاعْمَالِ بِالاعْذَارِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ قَدْ يَعْجَزُ الْمَعْذُورُ عَنْهُ. وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً كَانَ قَوِيًّا فَأَعْمَلَ قُوَّتَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ كَانَ ضَعِيفًا فَكَفَّ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ عَبْدُ الاعْلَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشَّامِيُّ رحمه الله تعالى: الْعُمْرُ يَنْقُصُ وَالذُّنُوبُ تَزِيدُ وَتُقَالُ عَثَرَاتُ الْفَتَى فَيَعُودُ هَلْ يَسْتَطِيعُ جُحُودَ ذَنْبٍ وَاحِدٍ رَجُلٌ جَوَارِحُهُ عَلَيْهِ شُهُودُ وَالْمَرْءُ يُسْأَلُ عَنْ سِنِيهِ فَيَشْتَهِي تَقْلِيلَهَا وَعَنْ الْمَمَاتِ يَحِيدُ وَاعْلَمْ أَنَّ لِأَعْمَالِ الطَّاعَاتِ وَمُجَانَبَةِ الْمَعَاصِي آفَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا تُكْسِبُ الْوِزْرَ وَالاخْرَى تُوهِنُ الاجْرَ. فَأَمَّا الْمُكْسِبَةُ لِلْوِزْرِ فَإِعْجَابٌ بِمَا سَلَفَ مِنْ عَمَلِهِ، وَقَدَّمَ مِنْ طَاعَتِهِ؛ لِأَنَّ الاعْجَابَ بِهِ يُفْضِي إلَى حَالَتَيْنِ مَذْمُومَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّ الْمُعْجَبَ بِعَمَلِهِ مُمْتَنٌّ بِهِ وَالْمُمْتَنُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى جَاحِدٌ لِنِعَمِهِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ: أَمَّا زُهْدُك فِي الدُّنْيَا فَقَدْ اسْتَعْجَلْت بِهِ الرَّاحَةَ، وَأَمَّا انْقِطَاعُك إلَيَّ فَهُوَ عِزٌّ لَك، فَهَذَانِ لَك وَبَقِيَتْ أَنَا. وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْمُعْجَبَ بِعَمَلِهِ مُدِلٌّ بِهِ وَالْمُدِلُّ بِعَمَلِهِ مُجْتَرِئٌ، وَالْمُجْتَرِئُ عَلَى اللَّهِ عَاصٍ. وَقَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ: خَيْرٌ مِنْ الْعُجْبِ بِالطَّاعَةِ أَنْ لاَ يَأْتِيَ بِطَاعَةٍ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ضَاحِكٌ مُعْتَرِفٌ بِذَنْبِهِ، خَيْرٌ مِنْ بَاكٍ مُدِلٍّ عَلَى رَبِّهِ، وَبَاكٍ نَادِمٌ عَلَى ذَنْبِهِ خَيْرٌ مِنْ ضَاحِكٍ مُعْتَرِفٍ بِلَهْوِهِ. وَأَمَّا الْمُوهِنَةُ لِلْأَجْرِ فَالثِّقَةُ بِمَا أَسْلَفَ وَالرُّكُونُ إلَى مَا قَدَّمَ؛ لِأَنَّ الثِّقَةَ تَئُولُ إلَى أَمْرَيْنِ شَيْنَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُحْدِثُ اتِّكَالا عَلَى مَا مَضَى وَتَقْصِيرًا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ. وَمَنْ قَصَّرَ وَاتَّكَلَ لَمْ يَرْجُ أَجْرًا وَلَمْ يُؤَدِّ شُكْرًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَاثِقَ آمِنٌ. وَالامِنُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ خَائِفٍ، وَمَنْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ تَعَالَى هَانَتْ عَلَيْهِ أَوَامِرُهُ، وَسَهُلَتْ عَلَيْهِ زَوَاجِرُهُ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: رَهْبَةُ الْمَرْءِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ: لاَنْ أَبِيتَ نَائِمًا وَأُصْبِحَ نَادِمًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَبِيتَ قَائِمًا وَأُصْبِحَ نَاعِمًا. وَقَالَ الْحُكَمَاءُ: مَا بَيْنَك وَبَيْنَ أَنْ لاَ يَكُونَ فِيك خَيْرٌ الا أَنْ تَرَى أَنَّ فِيك خَيْرًا. وَقِيلَ لِرَابِعَةَ الْعَدَوِيَّةِ - رَحِمَهَا اللَّهُ -: هَلْ عَمِلْت عَمَلاً قَطُّ تَرَيْنَ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْك ؟ قَالَتْ: إنْ كَانَ شَيْءٌ فَخَوْفِي أَنْ يُرَدَّ عَلَيَّ عَمَلِي. وَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ -: إنَّا لِلَّهِ فِيمَا مَضَى مَا أَعْظَمَ فِيهِ الْخَطَرُ، وَإِنَّا لِلَّهِ فِيمَا بَقِيَ مَا أَقَلَّ مِنْهُ الْحَذَرُ. وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الزُّهَّادِ وَقَفَ عَلَى جَمْعٍ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الاغْنِيَاءِ لَكُمْ أَقُولُ: اسْتَكْثِرُوا مِنْ الْحَسَنَاتِ فَإِنَّ ذُنُوبَكُمْ كَثِيرَةٌ، وَيَا مَعْشَرَ الْفُقَرَاءِ لَكُمْ أَقُولُ: أَقِلُّوا مِنْ الذُّنُوبِ فَإِنَّ حَسَنَاتِكُمْ قَلِيلَةٌ. فَيَنْبَغِي - أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْك بِالتَّوْفِيقِ - أَنْ لاَ تُضَيِّعَ صِحَّةَ جِسْمِك وَفَرَاغَ وَقْتِك بِالتَّقْصِيرِ فِي طَاعَةِ رَبِّك، وَالثِّقَةِ بِسَالِفِ عَمَلِك. فَاجْعَلْ الاجْتِهَادَ غَنِيمَةَ صِحَّتِك، وَالْعَمَلَ فُرْصَةَ فَرَاغِك، فَلَيْسَ كُلُّ الزَّمَانِ مُسْتَسْعَدًا وَلاَ مَا فَاتَ مُسْتَدْرَكًا، وَلِلْفَرَاغِ زَيْغٌ أَوْ نَدَمٌ، وَلِلْخَلْوَةِ مَيْلٌ أَوْ أَسَفٌ.

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: الرَّاحَةُ لِلرِّجَالِ غَفْلَةٌ وَلِلنِّسَاءِ غُلْمَةٌ. وَقَالَ بَزَرْجَمْهَرُ: إنْ يَكُنْ الشُّغْلُ مَجْهَدَةً، فَالْفَرَاغُ مَفْسَدَةٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إيَّاكُمْ وَالْخَلَوَاتِ فَإِنَّهَا تُفْسِدُ الْعُقُولَ، وَتُعَقِّدُ الْمَحْلُولَ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: لاَ تُمْضِ يَوْمَك فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ، وَلاَ تُضِعْ مَالَك فِي غَيْرِ صَنْعَةٍ. فَالْعُمُرُ أَقْصَرُ مِنْ أَنْ يَنْفَدَ فِي غَيْرِ الْمَنَافِعِ، وَالْمَالُ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يُصْرَفَ فِي غَيْرِ الصَّنَائِعِ. وَالْعَاقِلُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَفِنِي أَيَّامَهُ فِيمَا لاَ يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُهُ وَخَيْرُهُ، وَيُنْفِقَ أَمْوَالَهُ فِيمَا لاَ يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُهُ وَأَجْرُهُ. وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ -: الْبِرُّ ثَلاَثَةٌ: الْمَنْطِقُ وَالنَّظَرُ وَالصَّمْتُ. فَمَنْ كَانَ مَنْطِقُهُ فِي غَيْرِ ذِكْرٍ فَقَدْ لَغَا، وَمَنْ كَانَ نَظَرُهُ فِي غَيْرِ اعْتِبَارٍ فَقَدْ سَهَا، وَمَنْ كَانَ صَمْتُهُ فِي غَيْرِ فِكْرٍ فَقَدْ لَهَا.

الْبَابُ الثَّالِثُ أَدَبُ الدِّينِ :اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانهُ وَتَعَالَى

الْبَابُ الثَّالِثُ أَدَبُ الدِّينِ :فَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ الَّتِي يَمْنَعُ الشَّرْعُ مِنْهَا

الْبَابُ الثَّالِثُ أَدَبُ الدِّينِ :وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ فِيمَا كُلِّفَ مِنْ عِبَادَاتِهِ

الْبَابُ الثَّالِثُ أَدَبُ الدِّينِ :وَاعْلَمْ - جَعَلَ اللَّهُ الْعِلْمَ حَاكِمًا لَك وَعَلَيْك