فَصْـــل إذا عرف تفسير القرآن والحديث من جهة النبي فلا يحتاج إلى أقوال أهل اللغة ـ أ ـ
 
فَصْـــل
ومما ينبغي أن يعلم‏:‏ أن القرآن والحديث إذا عرف تفسيره من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى أقوال أهل اللغة؛ فإنه قد عرف تفسيره وما أريد بذلك من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم؛ ولهذا قال الفقهاء‏:‏‏(‏الأسماء ثلاثة أنواع‏)‏ نوع يعرف حَدّه بالشرع كالصلاة والزكاة، ونوع يعرف حده باللغة كالشمس والقمر، ونوع يعرف حده بالعرف كلفظ القبض، ولفظ المعروف في قوله‏:‏ ‏{‏وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏19‏]‏‏.‏
وكان من أعظم ما أنعم اللّه به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان‏:‏ أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن، لا برأيه ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجْده؛ فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدي ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم، فيه نبأ من قَبْلَهم، وخبر ما بعدهم، وحُكْم ما بينهم، هو الفَصْل ليس بالهَزْل، من تركه من جبار قَصَمَهُ اللَّه، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل اللّه المتين، وهو الذِّكْر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، فلا يستطيع أن يزيغه إلى هواه، ولا يحرف به لسانه، ولا يَخْلَق ‏[‏أي‏:‏ يبلى‏.‏ انظر‏:‏ القاموس، مادة‏:‏ خلق‏]‏ عن كثرة الترداد، فإذا ردد مرة بعد مرة لم يخلق ولم يمل كغيره من الكلام، ولا تنقضى عجائبه، ولا تشبع منه العلماء، من قال به صَدَق، ومن عمل به أجِر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم‏.‏
فكان القرآن هو الإمام الذي يقتدى به؛ ولهذا لا يوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس، ولا بذوق ووجد ومكاشفة،ولا قال قط قد تعارض في هذا العقل والنقل، فضلا عن أن يقول‏:‏ فيجب تقديم العقل‏.‏ والنقل ـ يعني القرآن والحديث وأقوال الصحابة والتابعين ـ إما أن يُفوَّض وإما أن يُؤوَّل‏.‏ ولا فيهم من يقول‏:‏ إن له ذوقًا أو وَجْدًا أو مخاطبة أو مكاشفة تخالف القرآن والحديث، فضلا عن أن يَدَّعِي أحدهم أنه يأخذ من حيث يأخذ الملك الذي يأتي الرسول، وأنه يأخذ من ذلك المعدن علم التوحيد، والأنبياء كلهم يأخذون عن مشكاته‏.‏ أو يقول‏:‏ الولي أفضل من النبي، ونحو ذلك من مقالات أهل الإلحاد؛ فإن هذه الأقوال لم تكن حدثت بَعْدُ في المسلمين، وإنما يعرف مثل هذه إما عن ملاحدة اليهود والنصارى؛ فإن فيهم من يجوز أن غير النبي أفضل من النبي، كما قد يقوله في الحواريين؛ فإنهم عندهم رسل، وهم يقولون‏:‏ أفضل من داود وسليمان، بل ومن إبراهيم وموسى، وإن سموهم أنبياء، إلى أمثال هذه الأمور‏.‏
ولم يكن السلف يقبلون معارضة الآية إلا بآية أخرى تفسرها وتنسخها أو بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم تفسرها، فإن سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تبين القرآن وتدل عليه وتعبر عنه، وكانوا يسمون ما عارض الآية ناسخًا لها، فالنسخ عندهم اسم عام لكل ما يرفع دلالة الآية على معنى باطل‏.‏ وإن كان ذلك المعنى لم يرد بها، وإن كان لا يدل عليه ظاهر الآية، بل قد لا يفهم منها وقد فهمه منها قوم فيسمون ما رفع ذلك الإبهام والإفهام نسخًا، وهذه التسمية لا تؤخذ عن كل واحد منهم‏.‏
وأصل ذلك من إلقاء الشيطان، ثم يحكـم اللّه آياته، فما ألقاه الشيطان في الأذهان من ظن دلالة الآية على معنى لم يدل عليه، سمى هؤلاء ما يرفع ذلك الظن نسخًا، كما سموا قولـه‏:‏‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابـن‏:‏16‏]‏ ناسخًا لـقوله‏:‏‏{‏اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏102‏]‏ وقوله‏:‏‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏286‏]‏ ناسخًا لقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ
يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏284‏]‏‏.‏وأمثال ذلك مما ليس هذا موضع بسطه‏.‏
إذ المقصود أنهم كانوا متفقين على أن القرآن لا يعارضه إلا قرآن، لا رأي ومعقول وقياس، ولا ذوق ووَجْد وإلهام ومكاشفة‏.‏
وكانت البدع الأولى مثل ‏[‏بدعة الخوارج‏]‏ إنما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب؛ إذ كان المؤمن هو البر التقي‏.‏ قالوا‏:‏ فمن لم يكن برًا تقيًا فهو كافر، وهو مخلد في النار‏.‏ ثم قالوا‏:‏ وعثمانوعلي ومن والاهما ليسوا بمؤمنين؛ لأنهم حكموا بغير ما أنزل اللّه، فكانت بدعتهم لها مقدمتان‏:‏
الواحدة‏:‏ أن من خالف القرآن بعمل أو برأي أخطأ فيه فهو كافر‏.‏
والثانية‏:‏ أن عثمان وعليا ومن والاهما كانوا كذلك؛ ولهذا يجب الاحتراز من تكفير المسلمين بالذنوب والخطايا، فإنه أول بدعة ظهرت في الإسلام، فكفَّر أهلها المسلمين، واستحلوا دماءهم وأموالهم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث صحيحة في ذمهم والأمر بقتالهم‏.‏قال الإمام أحمد بن حنبل ـ رضي اللّه عنه ـ‏:‏صح فيهم الحديث من عشرة أوجه؛ ولهذا قد أخرجها مسلم في صحيحه،وأفرد البخاري قطعة منها، وهم مع هذا الذم إنما قصدوا اتباع القرآن، فكيف بمن تكون بدعته معارضة القرآن والإعراض عنه،وهو مع ذلك يكفر المسلمين، كالجهمية‏؟‏‏!‏ ثم الشيعة لما حدثوا لم يكن الذي ابتدع التشيع قصده الدين، بل كان غرضه فاسدًا، وقد قيل‏:‏ إنه كان منافقًا زنديقًا، فأصل بدعتهم مبنية على الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم،وتكذيب الأحاديث الصحيحة؛ولهذا لا يوجد في فرق الأمة من الكذب أكثر مما يوجد فيهم، بخلاف الخوارج فإنه لا يعرف فيهم من يكذب‏.‏
والشيعة لا يكاد يوثق برواية أحد منهم من شيوخهم لكثرة الكذب فيهم؛ولهذا أعرض عنهم أهل الصحيح، فلا يروي البخاري ومسلم أحاديث علىّ إلا عن أهل بيته كأولاده، مثل الحسن،والحسين، ومثل محمد بن الحنفية، وكاتبه عبيد اللّه بن أبي رافع،أو أصحاب ابن مسعود وغيرهم، مثل عبيدة السلماني، والحارث التيمي، وقيس بن عباد وأمثالهم؛إذ هؤلاء صادقون فيما يروونه عن علي، فلهذا أخرج أصحاب الصحيح حديثهم‏.‏
وهاتان الطائفتان ـ الخوارج والشيعة ـ حَدثوا بعد مقتل عثمان، وكان المسلمون في خلافة أبي بكر وعمر وصدرًا من خلافة عثمان ـ في السنة الأولي من ولايته ـ متفقين لا تنازع بينهم، ثم حدث في أواخر خلافة عثمان أمور أوجبت نوعًا من التفرق، وقام قوم من أهل الفتنة والظلم، فقتلوا عثمان، فتفرق المسلمون بعد مقتل عثمان، ولما اقتتل المسلمون بصفين واتفقوا على تحكيم حكمين خرجت الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفارقوه، وفارقوا جماعة المسلمين إلى مكان يقال له حروراء، فكف عنهم أمير المؤمنين، وقال‏:‏ لكم علينا ألا نمنعكم حقكم من الفىء، ولا نمنعكم المساجد، إلى أن استحلوا دماء المسلمين وأموالهم، فقتلوا عبد اللّه بن خباب، وأغاروا على سرح المسلمين؛ فعلم عليّ أنهم الطائفة التي ذكرها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:‏‏(‏يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، آيتهم فيهم رجل مخدج ‏[‏أي‏:‏ ناقص‏.‏ انظر‏:‏ القاموس، مادة‏:‏ خدج‏]‏ اليد عليها بضعة شعرات‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان‏)‏، فخطب الناس وأخبرهم بما سمع من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ هم هؤلاء القوم، قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على سرح الناس فقاتلهم، ووجد العلامة بعد أن كاد لا يوجد، فسجد للّه شكرًا‏.‏
وحدث في أيامه الشيعة لكن كانوا مختفين بقولهم، لا يظهرونه لعلي وشيعته، بل كانوا ثلاث طوائف‏:‏
طائفة تقول‏:‏ إنه إله، وهؤلاء لما ظهر عليهم أحرقهم بالنار، وخَدَّ لهم أخاديد عند باب مسجد بني كندة، وقيل‏:‏ إنه أنشد‏:‏
لما رأيت الأمر أمرًا منكرًا ** أجَّجْت ناري ودعوت قنْبَرًا
وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال‏:‏ أتى عَلِيٌّ بزنادقة فحرقهم بالنار، ولو كنت أنا لم أحرقهم؛ لنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب بعذاب اللّه، ولضربت أعناقهم لقوله‏:‏‏(‏من بدل دينه فاقتلوه‏)‏‏.‏
وهذا الذي قاله ابن عباس هو مذهب أكثر الفقهاء، وقد روى أنه أجَّلَهم ثلاثًا‏.‏
والثانية‏:‏ السابة‏:‏ وكان قد بلغه عن ابن السوداء ‏[‏في المطبوعة‏:‏‏(‏ أبي السوداء‏)‏ وهو خطأ‏.‏ والمراد عبد اللّه بن سبأ اليهودي، أظهر الإسلام وأبطن الكفر، رئيس فرقة السبئية من غلاة الشيعة، وإنما سمي بابن السوداء لسواد أمه‏]‏ أنه كان يسب أبا بكر وعمر فطلبه، قيل‏:‏ إنه طلبه ليقتله فهرب منه‏.‏
والثالثة‏:‏ المفضلة‏:‏ الذين يفضلونه على أبي بكر وعمر، فتواتر عنه أنه قال‏:‏‏(‏خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر‏)‏، وروى ذلك البخاري في صحيحه عن محمد بن الحنفية أنه سأل أباه‏:‏ مَنْ خير الناس بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ فقال‏:‏ أبو بكر‏.‏ قال‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ عمر‏.‏
وكانت الشيعة الأولى لا يتنازعون في تفضيل أبي بكر وعمر، وإنما كان النزاع في علي وعثمان؛ ولهذا قال شريك بن عبد اللّه ‏[‏هو شريك بن عبد اللّه بن أبي نمر القرشي، وثقه ابن سعد، وقال يحيى بن معين والنسائي‏:‏ ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات، وتوفي سنة 140هـ‏.‏ وقيل‏:‏ 144هـ‏]‏‏:‏ إن أفضل الناس بعد رسول الّله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر‏.‏ فقيل له‏:‏ تقول هذا وأنت من الشيعة‏؟‏فقال‏:‏ كل الشيعة كانوا على هذا، وهو الذي قال هذا على أعواد منبره، أفنكذبه فيما قال‏؟‏ ولهذا قال سفيان الثوري‏:‏ من فضل عليا على أبي بكر وعمر فقد أزرى ‏[‏أي‏:‏ حطَّ من شأنهم‏.‏ انظر‏:‏ القاموس، مادة‏:‏ زري‏]‏ بالمهاجرين والأنصار، وما أرى يصعد له إلى اللّه ـ عز وجل ـ عمل وهو كذلك‏.‏ رواه أبو داود في سننه، وكأنه يعرض بالحسن بن صالح بن حيى، فإن الزيدية الصالحة وهم أصلح طوائف الزيدية ينسبون إليه‏.‏
ولكن الشيعة لم يكن لهم في ذلك الزمان جماعة ولا إمام، ولا دار ولا سيف يقاتلون به المسلمين، وإنما كان هذا للخوارج، تميزوا بالإمام والجماعة والدار، وسموا دارهم دار الهجرة، وجعلوا دار المسلمين دار كفر وحرب‏.‏
وكلا الطائفتين تطعن بل تكفر ولاة المسلمين، وجمهور الخوارج يكفرون عثمان وعليا ومن تولاهما، والرافضة يلعنون أبا بكر وعمر وعثمان ومن تولاهم، ولكن الفساد الظاهر كان في الخوارج، من سفك الدماء، وأخذ الأموال، والخروج بالسيف؛ فلهذا جاءت الأحاديث الصحيحة بقتالهم، والأحاديث في ذمهم والأمر بقتالهم كثيرة جدًا، وهي متواترة عند أهل الحديث مثل أحاديث الرؤية، وعذاب القبر وفتنته، وأحاديث الشفاعة والحوض‏.‏
وقد رويت أحاديث في ذم القدرية والمرجئة، روى بعضها أهل السنن، كأبي داود وابن ماجه، وبعض الناس يثبتها ويقويها، ومن العلماء من طعن فيها وضعفها، ولكن الذي ثبت في ذم القدرية ونحوهم هو عن الصحابة كابن عمر وابن عباس‏.‏
وأما لفظ ‏[‏الرافضة‏]‏، فهذا اللفظ أول ما ظهر في الإسلام، لما خرج زيد بن علي ابن الحسين في أوائل المائـة الثانية في خلافة هشام بن عبد الملك، واتبعه الشيعة، فسئل عن أبي بكر وعمر فتولاهـما وترحم عليهما، فرفضـه قوم،فقال‏:‏رفضتموني رفضتمونــي، فسموا الرافضة؛ فالرافضة تتولى أخاه أبا جعفر محمد بن علي، والزيدية يتولون زيدًا وينسبون إليه، ومن حينئذ انقسمت الشيعة إلى‏:‏ زيدية، ورافضة إمامية‏.‏
ثم في آخر عصر الصحابة حدثت ‏[‏القدرية‏]‏، وأصل بدعتهم كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر اللّه، والإيمان بأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وظنوا أن ذلك ممتنع، وكانوا قد آمنوا بدين اللّه، وأمره ونهيه ووعده ووعيده، وظنوا أنه إذا كان كذلك لم يكن قد علم قبل الأمر من يطيع ومن يعصى؛ لأنهم ظنوا أن من علم ما سيكون لم يحسن منه أن يأمر وهو يعلم أن المأمور يعصيه ولا يطيعه، وظنوا أيضًا أنه إذا علم أنهم يفسدون لم يحسن أن يخلق من يعلم أنه يفسد، فلما بلغ قولهم ـ بإنكار القدر السابق ـ الصحابة أنكروا إنكارًا عظيمًا وتبرؤوا منهم، حتى قال عبد اللّه بن عمر‏:‏ أخبر أولئك أني برىء منهم، وأنهم منى برآء، والذي يحلف به عبد اللّه بن عمر‏:‏ لو أن لأحدهم مثل أحُدٍ ذهبًا فأنفقه ما قبله اللّه منه حتى يؤمن بالقدر، وذكر عن أبيه حديث جبريل وهذا أول حديث في صحيح مسلم، وقد أخرجه البخاري ومسلم من طريق أبي هريرة أيضًا مختصرًا‏.‏
ثم كثر الخوض في القدر، وكان أكثر الخوض فيه بالبصرة والشام وبعضه في المدينة، فصار مقتصدوهم وجمهورهم يقرون بالقدر السابق وبالكتاب المتقدم، وصار نزاع الناس في ‏[‏الإرادة‏]‏ و‏[‏خلق أفعال العباد‏]‏ فصاروا في ذلك حزبين‏:‏
النفاة يقولون‏:‏ لا إرادة إلا بمعنى المشيئة، وهو لم يرد إلا ما أمر به، ولم يخلق شيئًا من أفعال العباد‏.‏
وقابلهم الخائضون في القدر من ‏[‏المجبرة‏]‏ مثل الجهم بن صفوان وأمثاله، فقالوا‏:‏ ليست الإرادة إلا بمعنى المشيئة، والأمر والنهي لا يستلزم إرادة، وقالوا‏:‏ العبد لا فعل له البتة ولا قدرة، بل اللّه هو الفاعل القادر فقط، وكان جهم مع ذلك ينفي الأسماء والصفات، يذكر عنه أنه قال‏:‏ لا يسمى اللّه شيئًا، ولا غير ذلك من الأسماء التي تسمى بها العباد إلا القادر فقط؛ لأن العبد ليس بقادر‏.‏
وكانت ‏[‏الخوارج‏]‏ قد تكلموا في تكفير أهل الذنوب من أهل القبلة، وقالوا‏:‏ إنهم كفار مخلدون في النار، فخاض الناس في ذلك، وخاض في ذلك القدرية بعد موت الحسن البصري، فقال عمرو بن عبيد وأصحابه‏:‏ لا هم مسلمون ولا كفار، بل لهم منزلة بين المنزلتين، وهم مخلدون في النار، فوافقوا الخوارج على أنهم مخلدون، وعلى أنه ليس معهم من الإسلام والإيمان شىء،ولكن لم يسموهم كفارًا،واعتزلوا حلقة أصحاب الحسن البصري، مثل قتادة وأيوب السختياني وأمثالهما‏.‏
فسموا معتزلة من ذلك الوقت بعد موت الحسن‏.‏ وقيل‏:‏ إن قتادة كان يقول‏:‏ أولئك المعتزلة‏.‏
وتنازع الناس في ‏[‏الأسماء والأحكام‏]‏ أي في أسماء الدين، مثل مسلم ومؤمن، وكافر وفاسق، وفي أحكام هؤلاء في الدنيا والآخرة‏.‏ فالمعتزلة وافقوا الخوارج على حكمهم في الآخرة دون الدنيا، فلم يستحلوا من دمائهم وأموالهم ما استحلته الخوارج، وفي الأسماء أحدثوا المنزلة بين المنزلتين،وهذه خاصة المعتزلة التي انفردوا بها، وسائر أقوالهم قد شاركهم فيها غيرهم‏.‏
وحدثت ‏[‏المرجئة‏]‏، وكان أكثرهم من أهل الكوفة، ولم يكن أصحاب عبد اللّه من المرجئة ولا إبراهيم النخعي وأمثاله، فصاروا نقيض الخوارج والمعتزلة، فقالوا‏:‏ إن الأعمال ليست من الإيمان، وكانت هذه البدعة أخف البدع، فإن كثيرًا من النزاع فيها نزاع في الاسم واللفظ دون الحكم؛ إذ كان الفقهاء الذين يضاف إليهم هذا القول، مثل حماد ابن أبي سليمان، وأبي حنيفة وغيرهما، هم مع سائر أهل السنة متفقين على أن اللّه يعذب من يعذبه من أهل الكبائر بالنار، ثم يخرجهم بالشفاعة، كما جاءت الأحاديث الصحيحة بذلك، وعلى أنه لابد في الإيمان أن يتكلم بلسانه‏.‏ وعلى أن الأعمال المفروضة واجبة وتاركها مستحق للذم والعقاب، فكان في الأعمال هـل هي مـن الإيمان وفـي الاستثناء ونحو ذلك، عامته نزاع لفظي؛ فإن الإيمان إذا أطلق دخلت فيه الأعمال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الإيمان بضع وستون شعبة ـ أو بضع وسبعون شعبة ـ أعلاها قول لا إله إلا اللّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان‏)‏، وإذا عطف عليه العمل كقوله‏:‏‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواوَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏107‏]‏، فقد ذكر مقيدًا بالعطف، فهنا قد يقال‏:‏ الأعمال دخلت فيه وعطفت عطف الخاص على العام، وقد يقال‏:‏ لم تدخل فيه ولكن مع العطف كما في اسم الفقير والمسكين، إذا أفرد أحدهما تناول الآخر، وإذا عطف أحدهما على الآخر فهما صنفان كما في آية الصدقات، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏60‏]‏، وكما في آية الكفارة، كقوله‏:‏ ‏{‏فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏89‏]‏، وفي قوله‏:‏‏{‏وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏271‏]‏، فالفقير والمسكين شيء واحد‏.‏
وهذا التفصيل في الإيمان هو كذلك في لفظ البر والتقوى والمعروف وفي الإثم والعدوان والمنكر، تختلف دلالتها في الإفراد والاقتران لمن تدبر القرآن، وقد بسط هذا بسطًا كبيرًا في الكلام على الإيمان، وشرح حديث جبريل الذي فيه بيان أن الإيمان أصله في القلب؛ وهو الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله، كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏(‏الإسلام علانية والإيمان في القلب‏)‏، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏‏(‏ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد،وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد،ألا وهي القلب‏)‏، فإذا كان الإيمان في القلب فقد صلح القلب، فيجب أن يصلح سائر الجسد؛ فلذلك هو ثمرة ما في القلب؛ فلهذا قال بعضهم‏:‏الأعمال ثمرة الإيمان‏.‏وصحته لما كانت لازمة لصلاح القلب دخلت في الاسم،كما نطق بذلك الكتاب والسنة في غير موضع‏.‏
وفي الجملة، الذين رموا بالإرجاء من الأكابر، مثل طلق بن حبيب ‏[‏هو طلق بن حبيب العنزي البصري، من الزهاد والعلماء العاملين، قال أبو حاتم‏:‏ صدوق، يرى الإرجاء، ووثقه أبو زرعة وابن حبان، ذكره البخاري فيمن مات بين التسعين إلى المائة‏]‏، وإبراهيم التيمي ونحوهما‏:‏ كان إرجاؤهم من هذا النوع، وكانوا أيضًا لا يستثنون في الإيمان، وكانوا يقولون‏:‏ الإيمان هو الإيمان الموجود فينا، ونحن نقطع بأنا مصدقون، ويَرَوْن الاستثناء شَكا، وكان عبد اللّه بن مسعود وأصحابه يستثنون، وقد روى في حديث أنه رجع عن ذلك لما قال له بعض أصحاب معاذ ما قال، لكن أحمد أنكر هذا وضعف هذا الحديث، وصار الناس في الاستثناء على ثلاثة أقوال‏:‏
قول‏:‏ إنه يجب الاستثناء، ومن لم يستثن كان مبتدعًا‏.‏
وقول‏:‏ إن الاستثناء محظور؛ فإنه يقتضى الشك في الإيمان‏.‏
والقول الثالث ـ أوسطها وأعدلها ـ‏:‏ أنه يجوز الاستثناء باعتبار، وتركه باعتبار؛ فإذا كان مقصوده أنى لا أعلم أني قائم بكل ما أوجب اللّه علي، وأنه يقبل أعمالي، ليس مقصوده الشك فيما في قلبه، فهذا استثناؤه حسن وقصده ألا يزكي نفسه، وألا يقطع بأنه عمل عملاً كما أمر فقبل منه، والذنوب كثيرة، والنفاق مخوف على عامة الناس‏.‏
قال ابن أبي مُلَيْكة‏:‏ أدركت ثلاثين من أصحاب محمد كلهم يخاف النفاق على نفسه، لا يقول واحد منهم‏:‏ إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل‏.‏ والبخاري في أول صحيحه بوب أبوابًا في الإيمان والرد على المرجئة، وقد ذكر بعض من صنف في هذا الباب من أصحاب أبي حنيفة، قال‏:‏ وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد كرهوا أن يقول الرجل‏:‏ إيماني كإيمان جبريل وميكائيل ـ قال محمد‏:‏ لأنهم أفضل يقينًا ـ أو إيماني كإيمان جبريل، أو إيماني كإيمان أبي بكر، أو كإيمان هذا، ولكن يقول‏:‏ آمنت بما آمن به جبريل وأبو بكر‏.‏
وأبو حنيفة وأصحابه لا يجوزون الاستثناء في الإيمان بكون الأعمال منه، ويذمون المرجئة، والمرجئة عندهم الذين لا يوجبون الفرائض، ولا اجتناب المحارم، بل يكتفون بالإيمان، وقد علل تحريم الاستثناء فيه بأنه لا يصح تعليقه على الشرط؛ لأن المعلق على الشرط لا يوجد إلا عند وجوده، كما قالوا في قوله‏:‏ أنت طالق إن شاء اللّه‏.‏ فإذا علق الإيمان بالشرط كسائر المعلقات بالشرط لا يحصل إلا عند حصول الشرط‏.‏ قالوا‏:‏ وشرط المشيئة الذي يترجاه القائل لا يتحقق حصوله إلى يوم القيامة، فإذا علق العزم بالفعل على التصديق والإقرار فقد ظهرت المشيئة وصح العقد، فلا معنى للاستثناء؛ ولأن الاستثناء عقيب الكلام يرفع الكلام، فلا يبقى الإقرار بالإيمان والعقد مؤمنا، وربما يتوهم هذا القائل القارن بالاستثناء على الإيمان بقاء التصديق، وذلك يزيله‏.‏
قلت‏:‏ فتعليلهم في المسألة إنما يتوجه فيمن يعلق إنشاء الإيمان على المشيئة، كالذي يريد الدخول في الإسلام، فيقال له‏:‏ آمن‏.‏ فيقول‏:‏ أنا أومن إن شاء اللّه، أو آمنت إن شاء، أو أسلمت إن شاء اللّه، أو أشهد إن شاء اللّه أن لا إله إلا اللّّه، وأشهد إن شاء اللّه أن محمدًا رسول اللّه، والذين استثنوا من السلف والخلف لم يقصدوا في الإنشاء، وإنما كان استثناؤهم في إخباره عما قد حصل له من الإيمان، فاستثنوا إما أن الإيمان المطلق يقتضى دخول الجنة وهم لا يعلمون الخاتمة، كأنه إذا قيل للرجل‏:‏ أنت مؤمن‏.‏ قيل له‏:‏ أنت عند اللّه مؤمن من أهل الجنة، فيقول‏:‏ أنا كذلك إن شاء اللّه‏.‏ أو لأنهم لا يعرفون أنهم أتوا بكمال الإيمان الواجب‏.‏
ولهذا كان من جواب بعضهم ـ إذا قيل له‏:‏ أنت مؤمن ـ‏:‏ آمنت باللّه وملائكته وكتبه، فيجزم بهذا ولا يعلقه، أو يقول‏:‏ إن كنت تريد الإيمان الذي يعصم دمي ومالي فأنا مؤمن، وإن كنت تريد قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حقًا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏2ـ 4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 15‏]‏، فأنا مؤمن إن شاء اللّه، وأما الإنشاء فلم يستثن فيه أحد، ولا شرع الاستثناء فيه، بل كل من آمن وأسلم آمن وأسلم جزمًا بلا تعليق‏.‏
فتبين أن النزاع في المسألة قد يكون لفظيًا، فإن الذي حرمه هؤلاء غير الذي استحسنه وأمر به أولئك، ومن جزم جزم بما في قلبه من الحال، وهذا حق لا ينافى تعليق الكمال والعاقبة، ولكن هؤلاء عندهم الأعمال ليست من الإيمان، فصار الإيمان هو الإسلام عند أولئك‏.‏
والمشهور عند أهل الحديث أنه لا يستثنى في الإسلام‏.‏ وهو المشهور عن أحمد ـ رضي اللّه عنه ـ وقد روى عنه فيه الاستثناء، كما قد بسط هذا في شرح حديث جبريل وغيره من نصوص الإيمان التي في الكتاب والسنة‏.‏
ولو قال لامرأته‏:‏ أنت طالق إن شاء اللّه، ففيه نزاع مشهور، وقد رجحنا التفصيل، وهو أن الكلام يراد به شيئان‏:‏ يراد به إيقاع الطلاق تارة،ويراد به منع إيقاعه تارة، فإن كان مراده أنت طالق بهذا اللفظ، فقوله‏:‏ إن شاء اللّه مثل قوله‏:‏ بمشيئة اللّه، وقد شاء اللّه الطلاق حين أتى بالتطليق فيقع، وإن كان قد علق لئلا يقع، أو علقه على مشيئة توجد بعد هذا لم يقع به الطلاق حتى يطلق بعد هذا، فإنه حينئذ شاء اللّه أن تطلق‏.‏
وقول من قال‏:‏ المشيئة تنجزه، ليس كما قال، بل نحن نعلم قطعًا أن الطلاق لا يقع إلا إذا طلقت المرأة، بأن يطلقها الزوج أو من يقوم مقامه، من ولي أو وكيل، فإذا لم يوجد تطليق لم يقع طلاق قط، فإذا قال‏:‏ أنت طالق إن شاء اللّه، وقصد حقيقة التعليق لم يقع إلا بتطليق بعد ذلك، وكذلك إذا قصد تعليقه لئلا يقع الآن‏.‏ وأما إن قصد إيقاعه الآن وعلقه بالمشيئة توكيدًا وتحقيقًا، فهذا يقع به الطلاق‏.‏
وما أعرف أحدًا أنشأ الإيمان فعلقه على المشيئة، فإذا علقه فإن كان مقصوده‏:‏ أنا مؤمن إن شاء اللّه، أنا أومن بعد ذلك، فهذا لم يصر مؤمنًا، مثل الذي يقال له‏:‏ هل تصير من أهل دين الإسلام‏؟‏ فقال‏:‏ أصير إن شاء اللّه، فهذا لم يسلم، بل هو باق على الكفر‏.‏ وإن كان قصده‏:‏ إني قد آمنت وإيماني بمشيئة اللّه صـار مؤمنًا، لكـن إطـلاق اللفظ يحتمل هذا وهذا، فلا يجوز إطلاق مثل هذا اللفظ في الإنشاء، وأيضًا فإن الأصل أنه إنما يعلق بالمشيئة ما كان مستقبلا،فأما الماضي والحاضر فلا يعلق بالمشيئة، والذين استثنوا لم يستثنوا في الإنشاء كما تقدم، كيف وقد أمروا أن يقولوا‏:‏‏{‏آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏136‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏285‏]‏، فأخبر أنهم آمنوا فوقع الإيمان منهم قطعًا بلا استثناء‏.‏
وعلى كل أحد أن يقول‏:‏ آمنا باللّه وما أنزل إلينا ـ كما أمر اللّه ـ بلا استثناء، وهذا متفق عليه بين المسلمين ما استثنى أحد من السلف قط في مثل هذا، وإنما الكلام إذا أخبر عن نفسه بأنه مؤمن كما يخبر عن نفسه بأنه بر، تقي‏.‏ فقول القائل له‏:‏ أنت مؤمن هو عندهم كقوله‏:‏ هل أنت بَرٌّ تقي ‏؟‏ فإذا قال‏:‏ أنا بر تقي، فقد زكى نفسه‏.‏ فيقول‏:‏ إن شاء اللّه، وأرجو أن أكون كذلك، وذلك أن الإيمان التام يتعقبه قبول اللّه له، وجزاؤه عليه، وكتابة الملك له، فالاستثناء يعود إلى ذلك لا إلى ما علمه هو من نفسه وحصل واستقر، فإن هذا لا يصح تعليقه بالمشيئة، بل يقال‏:‏ هذا حاصل بمشيئة اللّه وفضله وإحسانه، وقوله فيه‏:‏ إن شاء اللّه بمعني إذا شاء اللّه، وذلك تحقيق لا تعليق‏.‏
والرجل قد يقول‏:‏ واللّه ليكونن كذا إن شاء اللّه، وهو جازم بأنه يكون‏.‏ فالمعلق هو الفعل، كقوله‏:‏ ‏{‏لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏27‏]‏ واللّه عالم بأنهم سيدخلونه، وقد يقول الآدمي‏:‏ لأفعلن كذا إن شاء اللّه وهو لا يجزم بأنه يقع، لكن يرجوه فيقول‏:‏ يكون إن شاء اللّه، ثم عزمه عليه قد يكون جازمًا، ولكن لا يجزم بوقوع المعزوم عليه، وقد يكون العزم مترددًا معلقًا بالمشيئة أيضًا، ولكن متى كان المعزوم عليه معلقًا لزم تعليق بقاء العزم، فإنه بتقدير أن تعليق العزم ابتداء أو دوامًا في مثل ذلك؛ ولهذا لم يَحْنَثْ المطلق المعلق وحرف‏(‏إن‏)‏ لا يبقى العزم، فلابد إذا دخل على الماضي صار مستقبلا، تقول‏:‏ إن جاء زيد كان كذلك ‏{‏فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏137‏]‏ وإذا أريد الماضي دخل حرف ‏(‏إن‏)‏ كقوله‏:‏‏{‏ن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏31‏]‏ فيفرق بين قوله‏:‏ أنـا مؤمـن إن شاء اللّه، وبين قوله‏:‏ إن كان اللّه شاء إيماني‏.‏
وكذلك إذا كان مقصوده‏:‏ إني لا أعلم بماذا يختم لي، كما قيل لابن مسعود‏:‏ إن فلانًا يشهد أنه مؤمن‏.‏ قال‏:‏ فليشهد أنه من أهل الجنة، فهذا مراده إذا شهد أنه مؤمن عند اللّه يموت على الإيمان، وكذلك إن كان مقصوده‏:‏ إن إيماني حاصل بمشيئة اللّه‏.‏
ومن لم يستثن قال‏:‏ أنا لا أشك في إيمان قلبي، فلا جناح عليه إذا لم يُزَكِّ نفسه ويقطع بأنه عامـل كما أمر، وقد تقبل اللّه عمله، وإن لم يقل‏:‏ إن إيمانه كإيمان جبريل وأبي بكر وعمر ونحو ذلك من أقوال المرجئة، كما كان مِسْعَر بن كِدَام يقـول‏:‏ أنـا لا أشك في إيماني، قال أحمد‏:‏ ولم يكن من المرجئة، فإن المرجئة الذين يقولون‏:‏ الأعمال ليست من الإيمان، وهو كان يقول‏:‏ هي من الإيمان، لكن أنا لا أشك في إيماني‏.‏
وكان الثوري يقول لسفيان بن عيينة‏:‏ ألا تنهاه عن هذا، فإنهم من قبيلة واحدة، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع‏.‏
والمقصود هنا أن النزاع في هذا كان بين أهل العلم والدين من جنس المنازعة في كثير من الأحكام، وكلهم من أهل الإيمان والقرآن‏.‏
وأما جَهْم، فكان يقول‏:‏ إن الإيمان مجرد تصديق القلب، وإن لم يتكلم به، وهذا القول لا يعرف عن أحد من علماء الأمة وأئمتها، بل أحمد ووَكِيع وغيرهما كفَّروا من قال بهذا القول، ولكن هو الذي نصره الأشعري وأكثر أصحابه، ولكن قالوا مع ذلك‏:‏ إن كل من حكم الشرع بكفره حكمنا بكفره، واستدللنا بتكفير الشارع له على خلو قلبه من المعرفة، وقد بسط الكلام على أقوالهم وأقوال غيرهم في ‏(‏الإيمان‏)‏‏.‏
والأصل الذي منه نشأ النزاع اعتقاد من اعتقد أن من كان مؤمنًا لم يكن معه شيء من الكفر والنفاق، وظن بعضهم أن هذا إجماع، كما ذكر الأشعري أن هذا إجماع، فهذا كان أصل الإرجاء، كما كان أصل القدر عجزهم عن الإيمان بالشرع والقدر جميعًا، فلما كان هذا أصلهم صاروا حزبين‏.‏ قالت الخوارج والمعتزلة‏:‏ قد علمنا يقينًا أن الأعمال من الإيمان، فمن تركها فقد ترك بعض الإيمان، وإذا زال بعضه زال جميعه؛ لأن الإيمان لا يتبعض، ولا يكون في العبد إيمان ونفاق، فيكون أصحاب الذنوب مخلدين في النار؛ إذ كان ليس معهم من الإيمان شيء‏.‏
وقالت المرجئة ـ مقتصدتهم وغلاتهم كالجهمية ـ‏:‏ قد علمنا أن أهل الذنوب من أهل القبلة لا يخلدون في النار، بل يخرجون منها كما تواترت بذلك الأحاديث‏.‏ وعلمنا بالكتاب والسنة وإجماع الأئمة أنهم ليسوا كفارًا مرتدين؛ فإن الكتاب قد أمر بقطع السارق لا بقتله، وجاءت السنة بجلد الشارب لا بقتله، فلو كان هؤلاء كفارًا مرتدين لوجب قتلهم؛ وبهذا ظهر للمعتزلة ضعف قول الخوارج فخالفوهم في أحكامهم في الدنيا‏.‏
والخوارج لا يتمسكون من السنة إلا بما فسر مجملها، دون ما خالف ظاهر القرآن عندهم، فلا يرجمون الزاني، ولا يرون للسرقة نصابًا، وحينئذ فقد يقولون‏:‏ ليس في القرآن قتل المرتد، فقد يكون المرتد عندهم نوعين‏.‏
وأقوال الخوارج إنما عرفناها من نقل الناس عنهم، لم نقف لهم على كتاب مصنف، كما وقفنا على كتب المعتزلة والرافضة، والزيدية والكرّامية والأشعرية، والسالمية، وأهل المذاهب الأربعة، والظاهرية، ومذاهب أهل الحديث، والفلاسفة، والصوفية، ونحو هؤلاء‏.‏
وقد بسط الكلام على تفصيل القول في أقوال هؤلاء في غير هذا الموضع‏.‏
وإن الناس في ترتيب أهل الأهواء على أقسام‏:‏
منهم من يرتبهم على زمان حدوثهم، فيبدأ بالخوارج‏.‏
ومنهم من يرتبهم بحسب خفة أمرهم وغلظه فيبدأ بالمرجئة، ويختم بالجهمية، كما فعله كثير من أصحاب أحمد ـ رضي اللّه عنه ـ كعبد الله ابنه ونحوه، وكالخلال، وأبي عبد اللّه بن بطة، وأمثالهما، وكأبي الفرج المقدسي، وكلا الطائفتين تختم بالجهمية؛ لأنهم أغلظ البدع، وكالبخاري في صحيحه فإنه بدأ بـ ‏(‏كتاب الإيمان والرد على المرجئة‏)‏، وختمه ‏(‏بكتاب التوحيد والرد على الزنادقة والجهمية‏)‏‏.‏
ولما صنف الكتاب في الكلام صاروا يقدمون التوحيد والصفات، فيكون الكلام أولاً مع الجهمية، وكذلك رتب أبو القاسم الطبري كتابه في أصول السنة، والبيهقي أفرد لكل صنف مصنفًا، فله مصنف في الصفات، ومصنف في القدر، ومصنف في شعب الإيمان، ومصنف في دلائل النبوة، ومصنف في البعث والنشور، وبسط هذه الأمور له موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا أن منشأ النزاع في ‏(‏الأسماء والأحكام‏)‏ في الإيمان والإسلام أنهم لما ظنوا أنه لا يتبعض، قال أولئك‏:‏ فإذا فعل ذنبًا زال بعضه فيزول كله فيخلد في النار، فقالت الجهمية والمرجئة‏:‏ قد علمنا أنه ليس يخلد في النار، وأنه ليس كافرًا مرتدًا، بل هو من المسلمين، وإذا كان من المسلمين وجب أن يكون مؤمنًا تام الإيمان، ليس معه بعض الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم لا يتبعض، فاحتاجوا أن يجعلوا الإيمان شيئًا واحدًا يشترك فيه جميع أهل القبلة، فقال فقهاء المرجئة‏:‏ هو التصديق بالقلب والقول باللسان، فقالت الجهمية بعد تصديق اللسان قد لا يجب إذا كان الرجل أخرس أو كان مكرهًا فالذي لابد منه تصديق القلب، وقالت المرجئة‏:‏ الرجل إذا أسلم كان مؤمنًا قبل أن يجب عليه شيء من الأفعال‏.‏
وأنكر كل هذه الطوائف أنه ينقص، والصحابة قد ثبت عنهم أن الإيمان يزيد وينقص، وهو قول أئمة السنة، وكان ابن المبارك يقول‏:‏ هو يتفاضل ويتزايد ويمسك عن لفظ ‏(‏ينقص‏)‏، وعن مالك ـ في كونه لا ينقص ـ روايتان، والقرآن قد نطق بالزيادة في غير موضع، ودلت النصوص على نقصه كقوله‏:‏‏(‏لا يزنى الزاني حين يزني وهو مؤمن‏)‏ ونحو ذلك، لكن لم يعرف هذا اللفظ إلا في قوله في النساء‏:‏ ‏(‏ناقصات عقل ودين‏)‏، وجعل من نقصان دينها أنها إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي، وبهذا استدل غير واحد على أنه ينقص‏.‏