تابع فَصْــــل في أحوال أهل الضلال والبدع ـ تتمةـ
 

وقد قيل‏:‏ إن أول من عرف أنه أظهر في الإسلام التعطيل ـ الذي تضمنه قول فرعون ـ هو الجعد بن درهم، فضحى به خالد بن عبد اللّه القسري ‏[‏هو خالد بن عبد اللّه بن يزيد بن أسد القسري، وثقه ابن حبان، وقد ولاه هشام بن عبد الملك على العراق عام ست ومائة ثم عزله سنة خمس وعشرين ومائة، وقتل سنة ست وعشرين ومائة‏]‏، وقال‏:‏ أيها الناس، ضحوا تقبل اللّه ضحاياكم، إني مُضَحٍّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن اللّه لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى اللّه عما يقول الجعد علوًا كبيرًا‏.‏ ثم نزل فذبحه، وشكر له علماء المسلمين ما فعله، كالحسن البصري وغيره‏.‏
وهذا الجعد إليه ينسب مروان بن محمد الجعدي آخر خلفاء بني أمية، وكان شؤمه عاد عليه حتى زالت الدولة؛ فإنه إذا ظهرت البدع التي تخالف دين الرسل انتقم اللّه ممن خالف الرسل، وانتصر لهم؛ ولهذا لما ظهرت الملاحدة الباطنية وملكوا الشام وغيرها ظهر فيها النفاق والزندقة الذي هو باطن أمرهم، وهو حقيقة قول فرعون ‏[‏إنكار الصانع وإنكار عبادته‏]‏، وخيار ما كانوا يتظاهرون به الرفض، فكان خيارهم وأقربهم إلى الإسلام الرافضة، وظهر بسببهم الرفض والإلحاد، حتى كان من كان ينزل الشام مثل بني حمدان الغالية ونحوهم متشيعين، وكذلك من كان من بني بويه في المشرق‏.‏
وكان ابن سينا وأهل بيته من أهل دعوتهم، قال‏:‏ وبسبب ذلك اشتغلت في الفلسفة، وكان مبدأ ظهورهم من حين تولى المقتدر، ولم يكن بلغ بعد، وهو مبدأ انحلال الدولة العباسية، ولهذا سمي حينئذ بأمير المؤمنين الأموي الذي كان بالأندلس، وكان قبل ذلك لا يسمى بهذا الاسم، ويقول‏:‏ لا يكون للمسلمين خليفتان، فلما ولى المقتدر قال‏:‏ هذا صبي لا تصح ولايته، فسمى بهذا الاسم‏.‏
وكان بنو عبيد اللّه القداح الملاحدة يسمون بهذا الاسم، لكن هؤلاء كانوا في الباطن ملاحدة زنادقة منافقين، وكان نسبهم باطلاً كدينهم، بخلاف الأموي والعباسي فإن كلاهما نسبه صحيح، وهم مسلمون كأمثالهم من خلفاء المسلمين‏.‏
فلما ظهر النفاق والبدع والفجور المخالف لدين الرسول سلطت عليهم الأعداء، فخرجت الروم النصارى إلى الشام والجزيرة مرة بعد مرة، وأخذوا الثغور الشامية شيئًا بعد شىء إلى أن أخذوا بيت المقدس في أواخر المائة الرابعة، وبعد هذا بمدة حاصروا دمشق، وكان أهل الشام بأسوأ حال بين الكفار النصارى والمنافقين الملاحدة، إلى أن تولى نور الدين الشهيد، وقام بما قام به من أمر الإسلام وإظهاره والجهاد لأعدائه، ثم استنجد به ملوك مصر بنو عبيد على النصارى فأنجدهم، وجرت فصول كثيرة إلى أن أخذت مصر من بني عبيد أخذها صلاح الدين يوسف بن سادي، وخطب بها لبني العباس، فمن حينئذ ظهر الإسلام بمصر بعد أن مكثت بأيدي المنافقين المرتدين عن دين الإسلام مائة سنة‏.‏
فكان الإيمان بالرسول والجهاد عن دينه سببًا لخير الدنيا والآخرة، وبالعكس البدع والإلحاد ومخالفة ما جاء به سبب لشر الدنيا والآخرة‏.‏
فلما ظهر في الشام ومصر والجزيرة الإلحاد والبدع سلط عليهم الكفار، ولما أقاموا ما أقاموه من الإسلام وقهر الملحدين والمبتدعين نصرهم اللّه على الكفار؛ تحقيقًا لقوله‏:‏‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏10 ـ 13‏]‏‏.‏
وكذلك لما كان أهل المشرق قائمين بالإسلام كانوا منصورين على الكفار المشركين من الترك والهند والصين وغيرهم، فلما ظهر منهم ما ظهر من البدع والإلحاد والفجور سلط عليهم الكفار، قال تعالى‏:‏‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 4 ـ 8‏]‏‏.‏
وكان بعض المشايخ يقول‏:‏ هولاكو ـ ملك الترك التتار الذي قهر الخليفة بالعراق، وقتل ببغداد مقتلة عظيمة جدًا، يقال‏:‏ قتل منهم ألف ألف، وكذلك قتل بحلب دار الملك حينئذ، كان بعض الشيوخ يقول‏:‏ هو للمسلمين بمنزلة بختنصر لبني إسرائيل‏.‏
وكان من أسباب دخول هؤلاء ديار المسلمين ظهور الإلحاد والنفاق والبدع، حتى إنه صنف الرازي كتابًا في عبادة الكواكب والأصنام وعمل السحر، سماه ‏[‏السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم‏]‏، ويقال‏:‏ إنه صنفه لأم السلطان علاء الدين محمد بن لكش بن جلال الدين خوارزم شاه،وكان من أعظم ملوك الأرض،وكان للرازي به اتصال قوي،حتى إنه وصى إليه على أولاده، وصنف له كتابًا سماه ‏[‏الرسالة العلائية في الاختيارات السماوية‏]‏‏.‏
وهذه الاختيارات لأهل الضلال بدل الاستخارة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين، كما قال جابر في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره‏:‏ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول‏:‏ ‏(‏إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل‏:‏اللهم إني أستخبرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ـ ويسميه باسمه ـ خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي، ويسره، ثم بارك فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضِّني به‏)‏‏.‏
وأهل النجوم لهم اختيارات إذا أراد أحدهم أن يفعل فعلاً أخذ طالعًا سعيدًا، فعمل فيه ذلك العمل لينجح بزعمهم‏.‏ وقد صنف الناس كتبًا في الرد عليهم، وذكروا كثرة ما يقع من خلاف مقصودهم فيما يخبرون به ويأمرون به، وكم يخبرون من خبر فيكون كذبًا، وكم يأمرون باختيار فيكون شرًا، والرازي صنف الاختيارات لهذا الملك، وذكر فيه الاختيار لشرب الخمر وغير ذلك، كما ذكر في ‏[‏السر المكتوم‏]‏ في عبادة الكواكب ودعوتها مع السجود لها، والشرك بها ودعائها، مثلما يدعو الموحدون ربهم، بل أعظم، والتقرب إليها بما يظن أنه مناسب لها من الكفر والفسوق والعصيان، فذكر أنه يتقرب إلى الزهرة بفعل الفواحش وشرب الخمر والغناء، ونحو ذلك مما حرمه اللّه ورسوله‏.‏
وهذا في نفس الأمر يقرب إلى الشياطين، الذين يأمرونهم بذلك ويقولون لهم‏:‏ إن الكوكب نفسه يحب ذلك، وإلا فالكواكب مسخرات بأمر اللّه مطيعة للّه، لا تأمر بشرك ولا غيره من المعاصي، ولكن الشياطين هي التي تأمر بذلك ويسمونها روحانية الكواكب، وقد يجعلونها ملائكة وإنما هي شياطين، فلما ظهر بأرض المشرق بسبب مثل هذا الملك ونحوه، ومثل هذا العالم ونحوه ما ظهر من الإلحاد والبدع سلط اللّه عليهم الترك المشركين الكفار، فأبادوا هذا الملك، وجرت له أمور فيها عبرة لمن يعتبر، ويعلم تحقيق ما أخبر اللّه به في كتابه، حيث يقول‏:‏ ‏{‏سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏53‏]‏ أي أن القرآن حق، وقال‏:‏‏{‏سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 37‏]‏، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا أن دولة بني أمية كان انقراضها بسبب هذا الجعد المعطل وغيره من الأسباب، التي أوجبت إدبارها، وفي آخر دولتهم ظهر الجهم بن صفوان بخراسان، وقد قيل‏:‏ إن أصله من ترمذ وأظهر قول المعطلة النفاة الجهمية، وقد قتل في بعض الحروب، وكان أئمة المسلمين بالمشرق أعلم بحقيقة قوله من علماء الحجاز والشام والعراق؛ ولهذا يوجد لعبد اللّه بن المبارك وغيره من علماء المسلمين بالمشرق من الكلام في الجهمية أكثر مما يوجد لغيرهم، مع أن عامة أئمة المسلمين تكلموا فيهم، ولكن لم يكونوا ظاهرين إلا بالمشرق، لكن قوى أمرهم لما مات الرشيد، وتولى ابنه الملقب بالمأمون بالمشرق، وتلقي عن هؤلاء ما تلقاه‏.‏
ثم لما ولى الخلافة اجتمع بكثير من هؤلاء، ودعا إلى قولهم في آخر عمره، وكتب إلى بغداد وهو بالثغر بطرسوس التي ببلدسيس ـ وكانت إذ ذاك أعظم ثغور بغداد، ومن أعظم ثغور المسلمين يقصدها أهل الدين من كل ناحية ويرابطون بها، رابط بها الإمام أحمد، رضي اللّه عنه، والسرى السقطى ‏[‏هو أبو الحسن السقطي البغدادي، ولد في حدود الستين ومائة، اشتهر بالصلاح والزهد والورع، وتوفى في رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين‏]‏، وغيرهما، وتولي قضاءها أبو عبيد، وتولى قضاءها أيضًا صالح بن أحمد بن حنبل؛ ولهذا ذكرت في كتب الفقه كثيرًا فإنها كانت ثغرًا عظيمًا ـ فكتب من الثغر إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب كتابًا يدعو الناس فيه إلى أن يقولوا‏:‏ القرآن مخلوق‏.‏ فلم يجبه أحد‏.‏ ثم كتب كتابًا ثانيًا يأمر فيه بتقييد من لم يجبه وإرساله إليه، فأجاب أكثرهم، ثم قيدوا سبعة لم يجيبوا، فأجاب منهم خمسة بعد القيد، وبقى اثنان لم يجيبا‏:‏ الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فأرسلوهما إليه فمات قبل أن يصلا إليه، ثم أوصي إلى أخيه أبي إسحاق، وكان هذا سنة ثماني عشرة ومائتين، وبقى أحمد في الحبس إلى سنة عشرين، فجرى ما جرى من المناظرة حتى قطعهم بالحجة، ثم لما خافوا الفتنة ضربوه وأطلقوه، وظهر مذهب النفاة الجهمية، وامتحنوا الناس فصار من أجابهم أعطوه وإلا منعوه العطاء وعزلوه من الولايات، ولم يقبلوا شهادته، وكانوا إذا افتكوا الأسرى يمتحنون الأسير، فإن أجابهم افتدوه وإلا لم يفتدوه‏.‏
وكتب قاضيهم أحمد بن أبي دؤاد ‏[‏هو أحمد بن أبي دؤاد القاضي الأباري، ولي القضاء للمعتصم والواثق، وكان موصوفًا بالجود وحسن الخلق، غير أنه أعلن بمذهب الجهمية، وكان أحمد بن حنبل يطلق عليه الكفر، ولد سنة ستين ومائة، وتوفى سنة أربعين ومائتين من فالج أصابه‏]‏ على ستارة الكعبة ‏[‏ليس كمثلة شىء وهو العزيز الحكيم‏]‏، لم يكتب وهو ‏{‏السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏‏.‏
ثم ولي الواثق واشتد الأمر إلى أن ولى المتوكل فرفع المحنة، وظهرت حينئذ السُّنَّة، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
والمقصود أن أئمة المسلمين لما عرفوا حقيقة قول الجهمية بينوه، حتى قال عبد اللّه بن المبارك‏:‏ إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، وكان ينشد‏:‏
عجبت لشيطان دعا الناس جهرة ** إلى النار واشتق اسمه من جهنم
وقيل له‏:‏ بماذا يعرف ربنا‏؟‏ قال‏:‏ بأنه فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه، قيل له‏:‏ بِحَدٍّ ‏؟‏ قال‏:‏ بحد‏.‏ وكذلك قال أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه، وعثمان بن سعيد الدارمي، وغيرهم من أئمة السنة‏.‏
وحقيقة قول الجهمية المعطلة هو قول فرعون، وهو جحد الخالق وتعطيل كلامه ودينه، كما كان فرعون يفعل، فكان يجحد الخالق جل جلاله، ويقول‏:‏ ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏38‏]‏، ويقول لموسى‏:‏ ‏{‏لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏29‏]‏، ويقول‏:‏‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏ النازعات‏:‏24‏]‏، وكان ينكر أن يكون الله كلم موسى، أو يكون لموسى إله فوق السموات، ويريد أن يبطل عبادة اللّه وطاعته، ويكون هو المعبود المطاع‏.‏
فلما كان قول الجهمية المعطلة النفاة يؤول إلى قول فرعون، كان منتهي قولهم إنكار رب العالمين، وإنكار عبادته، وإنكار كلامه حتى ظهروا بدعوى التحقيق والتوحيد والعرفان، فصاروا يقولون‏:‏ العالم هو اللّه، والوجود واحد، والموجود القديم الأزلي الخالق هو الموجود المحدث المخلوق، والرب هو العبد، ما ثم رب وعبد وخالق ومخلوق بل هو عندهم فرقان‏.‏
ولهذا صاروا يعيبون على الأنبياء وينقصونهم؛ ويعيبون على نوح وعلى إبراهيم الخليل وغيرهما، ويمدحون فرعون، ويجوزون عبادة جميع المخلوقات، وجميع الأصنام، ولا يرضون بأن تعبد الأصنام حتى يقولوا‏:‏ إن عُبَّاد الأصنام لم يعبدوا إلا اللّه، وأن اللّه نفسه هو العابد وهو المعبود، وهو الوجود كله، فجحدوا الرب وأبطلوا دينه، وأمره ونهيه،وما أرسل به رسله، وتكليمه لموسى وغيره‏.‏
وقد ضل في هذا جماعة لهم معرفة بالكلام والفلسفة والتصوف المناسب لذلك، كابن سبعين، والصدر ـ القونوي تلميذ ابن عربي ـ والبلياني، والتلمساني، وهو من حذاقهم علمًا ومعرفة، وكان يظهر المذهب بالفعل، فيشرب الخمر ويأتي المحرمات‏.‏
وحدثني الثقة أنه قرأ عليه ‏[‏فصوص الحكم‏]‏ لابن عربي، وكان يظنه من كلام أولياء اللّه العارفين، فلما قرأه رآه يخالف القرآن، قال‏:‏ فقلت له‏:‏ هذا الكلام يخالف القرآن، فقال‏:‏ القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، وكان يقول‏:‏ ثبت عندنا في الكشف ما يخالف صريح المعقول‏.‏
وحدثني من كان معه ومع آخر نظير له، فمرا على كلب أجرب ميت بالطريق عند دار الطعم، فقال له رفيقه‏:‏ هذا أيضًا هو ذات اللّه‏؟‏ فقال‏:‏ وهل ثم شيء خارج عنها‏؟‏ نعم ‏!‏ الجميع في ذاته‏!‏
وهؤلاء حقيقة قولهم هو قول فرعون، لكن فرعون ما كان يخاف أحدًا فينافقه فلم يثبت الخالق، وإن كان في الباطن مقرًا به، وكان يعرف أنه ليس هو إلا مخلوق، لكن حب العلو في الأرض والظلم دعاه إلى الجحود والإنكار، كما قال‏:‏‏{‏فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 13، 14‏]‏‏.‏
وأما هؤلاء فهم من وجه ينافقون المسلمين، فلا يمكنهم إظهار جحود الصانع، ومن وجه هم ضلال يحسبون أنهم على حق، وأن الخالق هو المخلوق، فكان قولهم هو قول فرعون، لكن فرعون كان معاندًا مظهرًا للجحود والعناد، وهؤلاء إما جُهَّال ضلال، وإما منافقون مبطنون الإلحاد والجحود، يوافقون المسلمين في الظاهر‏.‏
وحدثني الشيخ عبد السيد الذي كان قاضي اليهود ثم أسلم، وكان من أصدق الناس، ومن خيار المسلمين وأحسنهم إسلامًا، أنه كان يجتمع بشيخ منهم يقال له‏:‏ الشرف البلاسي، يطلب منه المعرفة والعلم، قال‏:‏ فدعاني إلى هذا المذهب فقلت له‏:‏ قولكم يشبه قول فرعون، قال‏:‏ ونحن على قول فرعون‏!‏ فقلت لعبد السيد‏:‏ واعترف لك بهذا ‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏!‏ وكان عبد السيد إذ ذاك قد ذاكرني بهذا المذهب، فقلت له‏:‏ هذا مذهب فاسد وهو يؤول إلى قول فرعون، فحدثني بهذا، فقلت له‏:‏ ما ظننت أنهم يعترفون بأنهم على قول فرعون، لكن مع إقرار الخصم ما يُحتاج إلى بينة، قال عبد السيد‏:‏ فقلت له‏:‏ لا أدع موسى وأذهب إلى فرعون، فقال‏:‏ ولم ‏؟‏ قلت‏:‏ لأن موسى أغرق فرعون فانقطع، واحتج عليه بالظهور الكوني، فقلت لعبد السيد ـ وكان هذا قبل أن يسلم‏:‏ نفعتك اليهودية، يهودي خير من فرعوني‏.‏
وفيهم جماعات لهم عبادة وزهد وصدق فيما هم فيه، وهم يحسبون أنه حق، وعامتهم ـ الذين يقرون ظاهرًا وباطنًا بأن محمدًا رسول اللّه، وأنه أفضل الخلق أفضل من جميع الأنبياء والأولياء ـ لا يفهمون حقيقة قولهم، بل يحسبون أنه تحقيق ما جاء به الرسول، وأنه من جنس كلام أهل المعرفة الذين يتكلمون في حقائق الإيمان والدين، وهم من خواص أولياء اللّه فيحسبون هؤلاء من جنس أولئك، من جنس الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، والسري السقطي، والجنيد بن محمد، وسهل ابن عبد اللّه، وأمثال هؤلاء‏.‏
وأما عرافهم الذين يعلمون حقيقة قولهم فيعلمون أنه ليس الأمر كذلك، ويقولون ما يقول ابن عربي ونحوه‏:‏ إن الأولياء أفضل من الأنبياء، وإن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، وإن جميع الأنبياء يستفيدون معرفة اللّه من مشكاة خاتم الأولياء، وإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يأتي خاتم الأنبياء، فإنهم متجهمة متفلسفة، يخرجون أقوال المتفلسفة والجهمية في قالب الكشف‏.‏
وعند المتفلسفة‏:‏ أن جبريل إنما هو خيال في نفس النبي، ليس هو ملكًا يأتي من السماء، والنبي عندهم يأخذ من هذا الخيال، وأما خاتم الأولياء في زعمهم فإنه يأخذ من العقل المجرد الذي يأخذ منه الخيال؛ فهو يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول‏.‏
وهم يعظمون فرعون، ويقولون ما قاله صاحب ‏[‏الفصوص‏]‏ قال‏:‏ ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت، وأنه جار في العرف الناموسي، لذلك قال‏:‏ ‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏24‏]‏ أي وإن كان الكل أربابًا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم‏.‏ قال‏:‏ ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله لم ينكروه وأقروا له بذلك‏.‏ وقالوا له‏:‏‏{‏فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏72‏]‏ قال‏:‏ فصح قول فرعون‏:‏ ‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ وإن كان فرعون عين الحق‏.‏
وحدثني الثقة ـ الذي كان منهم ثم رجع عنهم ـ أن أبغض الناس إليهم محمد بن عبد اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال‏:‏ وإذا نَهَق الحمار ونَبَح الكلب سجدوا له، وقالوا‏:‏ هذا هو اللّه، فإنه مظهر من المظاهر‏.‏ قال‏:‏ فقلت له‏:‏ محمد بن عبد اللّه أيضًا مظهر من المظاهر، فاجعلوه كسائر المظاهر، وأنتم تعظمون المظاهر كلها أو اسكتوا عنه، قال‏:‏ فقالوا لي‏:‏ محمد نبغضه؛ فإنه أظهر الفرق ودعا إليه، وعاقب من لم يقل به، قال‏:‏ فتناقضوا في مذهبهم الباطل، وجعلوا الكلب والحمار أفضل من أفضل الخلق، قال لي‏:‏ وهم يصرحون باللعنة له ولغيره من الأنبياء، ولا ريب أنهم من أعظم الناس عبادة للشيطان وكفرًا بالرحمن‏.‏
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم صياح الديكة فَسَلُوا اللّه من فضله؛ فإنها رأت ملكًا، وإذا سمعتم نهيق الحمار ونباح الكلب فتعوذوا باللّه من الشيطان؛ فإنها رأت شيطانًا‏)‏، فهم إذا سمعوا نهيق الحمار ونباح الكلب تكون الشياطين قد حضرت، فيكون سجودهم للشياطين‏.‏
وكان فيهم شيخ جليل من أعظمهم تحقيقًا- لكن هذا لم يكن من هؤلاء الذين يسبون الأنبياء - وقد صنف كتابًا سماه ‏[‏فك الأزرار عن أعناق الأسرار‏]‏ ذكر فيه مخاطبة جرت له مع إبليس، وأنه قال له ما معناه‏:‏ إنكم قد غلبتموني وقهرتموني ونحو هذا، لكن جرت لي قصة تعجبت منها مع شيخ منكم، فإني تجليت له فقلت‏:‏ أنا اللّه لا إله إلا أنا، فسجد لي، فتعجبت كيف سجد لي‏.‏ قال هذا الشيخ‏:‏ فقلت له‏:‏ ذاك أفضلنا وأعلمنا وأنت لم تعرف قصده،ما رأى في الوجود اثنين وما رأى إلا واحدًا فسجد لذلك الواحد، لا يميـز بين إبليس وغيـره، فجعـل هـذا الشيخ - ذاك الـذي سجـد لإبليس - لا يميز بين الرب وغيره، بل جعل إبليس هو اللّه هو وغيره من الموجودات جعله أفضلهم وأعلمهم‏.‏
ولهذا عاب ابن عربي نوحًا أول رسول بعث إلى أهل الأرض، وهو الذي جعل اللّه ذريته هم الباقين، وأنجاه ومن معه في السفينة، وأهلك سائر أهل الأرض لما كذبوه، فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا،وعظَّم قومه الكفار الذين عبدوا الأصنام، وأنهم ما عبدوا إلا اللّه، وأن خطاياهم خطت بهم فغرقوا في بحار العلم باللّه، وهذا عادته ينتقص الأنبياء ويمدح الكفار، كما ذكر مثل ذلك في قصة نوح وإبراهيم وموسى وهارون وغيرهم‏.‏
ومدح عُبَّاد العجل، وتنقص هارون، وافترى على موسى، فقال‏:‏ وكان موسى أعلم بالأمر من هارون؛ لأنه علم ما عبده أصحاب العجل، لعلمه بأن اللّه قد قضى ألا يعبد إلا إياه، وما قضى اللّه بشىء إلا وقع، فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه؛ فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء، فذكر عن موسى أنه عتب على هارون أنه أنكر عليهم عبادة العجل، وأنه لم يسع ذلك فأنكره؛ فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء‏.‏
وهذا من أعظم الافتراء على موسى وهارون، وعلى اللّه، وعلى عُبَّاد العجل، فإن اللّه أخبر عن موسى أنه أنكر العجل إنكارًا أعظم من إنكار هارون، وأنه أخذ بلحية هارون لما لم يدعهم ويتبع موسى لمعرفته،قال تعالى‏:‏‏{‏وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 83 ـ 94‏]‏‏.‏
قلت لبعض هؤلاء‏:‏ هذا الكلام الذي ذكره هذا عن موسى وهارون يوافق القرآن أو يخالفه‏؟‏ فقال‏:‏ لا بل يخالفه، قلت‏:‏ فاختر لنفسك إما القرآن وإما كلام ابن عربي‏.‏
وكذلك قال عن نوح قال‏:‏ لو أن نوحًا جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه؛ أي ذكر لهم فدعاهم جهارًا ثم دعاهم إسرارًا إلى أن قال‏:‏ ولما علموا أن الدعوة إلى اللّه مكر بالمدعو؛ لأنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية ‏{‏أَدْعُو إِلَى اللّهِ‏}‏ فهذا عين المكر ‏{‏عَلَى بَصِيرَةٍ‏}‏ ‏[‏ يوسف‏:‏108‏]‏،فنبه أن الأمر كله للّه فأجابوه مكرًا كما دعاهم، فجاء المحمدي وعلم أن الدعوة إلى اللّه ما هي من حيث هويته، وإنما هي من حيث أسمائه، فقال‏:‏‏{‏يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏85‏]‏ فجاء بحرف الغاية وقرنها بالاسم، فعرفنا أن العالم كان تحت حيطة اسم إلهي أوجب عليهم أن يكونوا متقين، فقالوا في مكرهم‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏23‏]‏ فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء؛ فإن للحق في كل معبود وجهًا يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله، كما قال في المحمديين‏:‏‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏23‏]‏ أي حكم، فالعارف يعرف من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وإن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير اللّه في كل معبود‏.‏
وهو دائمًا يحرف القرآن عن مواضعه، كما قال في هذه القصة‏:‏ ‏{‏مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏25‏]‏ فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم باللّه وهي الحيرة،‏{‏فَأُدْخِلُوا نَارًا‏}‏ في عين الماء في المحمديين ‏{‏وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَت‏}‏‏[‏ التكوير‏:‏6‏]‏ سجرت التنور‏:‏ أوقدتـه، ‏{‏مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏25‏]‏ فكان اللّه عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد، وقوله‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏23‏]‏ بمعنى‏:‏ أمر وأوجب وفرض‏.‏ وفي القراءة الأخرى‏:‏ ‏(‏ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه‏)‏، فجعل معناه‏:‏ أنه قدر وشاء ألا تعبدوا إلا إياه، وما قدره فهو كائن، فجعل معناها كل معبود هو اللّه، وإن أحدًا ما عبد غير اللّه قط، وهذا من أظهر الفرية على اللّه، وعلى كتابه، وعلى دينه، وعلى أهل الأرض‏.‏
فإن اللّه في غير موضع أخبر أن المشركين عبدوا غير اللّّه، بل يعبدون الشيطان، كما قال تعالى‏:‏‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏60 ـ62‏]‏‏.‏ وقال تعالى عن يوسف أنه قال‏:‏‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏39، 40‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَـؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏ الأعراف‏:‏138 ـ140‏]‏‏.‏
وقال تعالى عن الخليل‏:‏‏{‏إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏42-50‏]‏‏.‏
فهو - سبحانه - يقول‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ‏}‏ وهؤلاء الملحدون يقولون‏:‏ ما عبدنا غير اللّه في كل معبود‏.‏
وقال تعالى‏:‏‏{‏وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148-152‏]‏‏.‏
قال أبو قِلابة‏:‏ هي لكل مفتر إلى يوم القيامة أن يذله اللّه‏.‏
والجهمية النفاة كلهم مفترون، كما قال الإمام أحمد بن حنبل‏:‏ إنما يقودون قولهم إلى فرية على اللّه، وهؤلاء من أعظمهم افتراء على اللّه، فإن القائلين بأن وجود الخالق هو وجود المخلوق هم أعظم افتراء ممن يقول‏:‏ إنه يحل فيه، وهؤلاء يجهلون من يقول بالحلول أو يقول بالاتحاد، وهو أن الخالق اتحد مع المخلوق، فإن هذا إنما يكون إذا كان شيئان متباينان، ثم اتحد أحدهما بالآخر، كما يقوله النصارى من اتحاد اللاهوت مع الناسوت، وهذا إنما يقال في شىء معين‏.‏
وهؤلاء عندهم ما ثَمَّ وجود لغيره حتى يتحد مع وجوده، وهم من أعظم الناس تناقضًا، فإنهم يقولون‏:‏ ما ثم غير ولا سوى، وتقول السبعينية‏:‏ ليس إلا اللّه، بدل قول المسلمين‏:‏ لا إله إلا اللّه، ثم يقولون‏:‏هؤلاء المحجوبون لا يرون هذا‏.‏ فإذا كان ما ثم غير ولا سوى فمن المحجوب ومن الحاجب‏؟‏ ومن الذي ليس بمحجوب، وعم حجب‏؟‏ فقد أثبتوا أربعة أشياء‏:‏ قوم محجوبون، وقوم ليسوا بمحجوبين، وأمرًا انكشف لهؤلاء، وحجب عن أولئك‏.‏
فأين هذا من قولهم‏:‏ ما ثم اثنان ولا وجودان‏؟‏ كما حدثني الثقة أنه قال للتلمساني‏:‏ فعلى قولكم‏:‏ لا فرق بين امرأة الرجل وأمه وابنته‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏!‏ الجميع عندنا سواء، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا‏:‏ حرام، فقلنا‏:‏ حرام عليكم، فقيل لهم‏:‏فمن المخاطب للمحجوبين أهو هم أم غيرهم‏؟‏ فإن كانوا هم فقد حرم على نفسه لما زعم أنه حرام عليهم دونه، وإن كانوا غيره فقد أثبت غيرين وعندهم ما ثم غير‏.‏
وهؤلاء اشتبه عليهم الواحد بالنوع بالواحد بالعين، فإنه يقال‏:‏ الوجود واحد، كما يقال‏:‏ الإنسانية واحدة، والحيوانية واحدة، أي يعني واحد كلي، وهذا الكلي لا يكون كليًا إلا في الذهن لا في الخارج، فظنوا هذا الكلى ثابتًا في الخارج، ثم ظنوه هو اللّه، وليس في الخارج كلي مع كونه كليًا، وإنما يكون كليًا في الذهن، وإذا قدر في الخارج كلى فهو جزء من المعينات وقائم بها، ليس هو متميزًا قائمًا بنفسه، فحيوانية الحيوان وإنسانية الإنسان سواء قدرت معينة أو مطلقة هي صفة له، ويمتنع أن تكون صفة الموصوف مبدعة له، ولوقدر وجودها مجردًا عن العيان على رأي من أثبت ‏[‏المثل الأفلاطونية‏]‏ فتثبت الماهيات الكلية مجردة عن الموصوفات، ويدعى أنها قديمة أزلية، مثل إنسانية مجردة وحيوانية مجردة، وهذا خيال باطل‏.‏
وهذا الذي جعله مجردًا هو مجرد في الذهن وليس في الخارج كلي مجرد، وإذا قدر ثبوت كلي مجرد في الخارج ـ وهو مسمى الوجود ـ فهذا يتناول وجود المحدثات كلها، كما يتناول وجود القديم، وهذا لا يكون مبدعًا لشىء ولا اختصاص له بصفات الكمال، فلا يوصف بأنه حي عليم قدير؛ إذ ليس وصفه بذلك بأولى من وصفه بأنه عاجز جاهل ميت، والخالق لابد أن يكون حيًا عليمًا قديرًا، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا‏.‏
ثم لو قدر أن هذا هو الخالق فهذا غير الأعيان الموجودة المخلوقة، فقد ثبت وجودان أحدهما غير الآخر، وأحدهما محدث مخلوق، فيكون الآخر الخالق غير المخلوق، ولا يمكن جحد وجود الأعيان المعينة، ولكن الواحد من هؤلاء قد يغيب عن شهود المغيبات كما يغيب عن شهود نفسه، فيظن أن ما لم يشهده قد عدم في نفسه وفنى وليس كذلك، فإن ما عدم وفنى شهوده له وعلمه به ونظره إليه، فالمعدوم الفاني صفة هذا الشخص، وإلا فالموجودات في نفسها باقية على حالها لم تتغير، وعدم العلم ليس علمًا بالمعدوم، وعدم المشهود ليس شهودًا للعدم، ولكن هذه الحال يعترى كثيرًا من السالكين يغيب أحدهم عن شهود نفسه وغيره من المخلوقات، وقد يسمون هذا فناء واصطلامًا، وهذا فناء عن شهود تلك المخلوقات، لا أنها في نفسها فنيت، ومن قال‏:‏ فنى ما لم يكن وبقى مالم يزل، فالتحقيق - إذا كان صادقًا - أنه فني شهوده لما لم يكن، وبقى شهوده لما لم يزل‏.‏ لا أن ما لم يكن فني في نفسه، فإنه باق موجود، ولكن يتوهمون إذا لم يشهدوه أنه قد عدم في نفسه‏.‏
ومن هنا دخلت طائفة في الاتحاد والحلول، فأحدهم قد يذكر اللّه حتى يغلب على قلبه ذكر اللّه ويستغرق في ذلك فلا يبقى له مذكور مشهود لقلبه إلا اللّه، ويفنى ذكره وشهوده لما سواه، فيتوهم أن الأشياء قد فنيت، وأن نفسه فنيت حتى يتوهم أنه هو اللّه، وأن الوجود هو اللّه‏.‏
ومن هذا الباب غلط أبي يزيد ونحوه حيث قال‏:‏ ما في الجبة إلا اللّه‏.‏
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين أنه يعبر بالفناء عن ثلاثة أمور‏:‏
أحدها‏:‏ أنه يفنى بعبادة اللّه عن عبادة ما سواه، وبمحبته وطاعته وخشيته ورجائه والتوكل عليه عن محبة ما سواه وطاعته وخشيته ورجائه والتوكل عليه، وهذا هو حقيقة التوحيد الذي بعث اللّه به الرسل، وأنزل به الكتب، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا اللّه، فقد فنى من قلبه التأله لغير اللّه، وبقى في قلبه تأله اللّه وحده، وفنى من قلبه حب غير اللّه وخشية غير اللّه والتوكل على غير اللّه، وبقى في قلبه حب اللّه وخشية اللّه والتوكل على اللّه‏.‏
وهذا الفناء يجامع البقاء، فيتخلى القلب عن عبادة غير اللّه مع تحلي القلب بعبادة اللّه وحده، كما قال صلى الله عليه وسلم لرجل‏:‏ ‏(‏قل‏:‏ أسلمت للّه وتخليت‏)‏ وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا اللّه بالنفي مع الإثبات؛ نفي إلهية غيره مع إثبات إلهيته وحده، فإنه ليس في الوجود إله إلا الله، ليس فيه معبود يستحق العبادة إلا اللّه؛ فيجب أن يكون هذا ثابتا في القلب؛ فلا يكون في القلب من يألهه القلب ويعبده إلا اللّه وحده، ويخرج من القلب كل تأله لغير اللّه، ويثبت فيه تأله اللّه وحده؛ إذ كان ليس ثم إله إلا اللّه وحده‏.‏
وهذه الولاية للّه مقرونة بالبراءة والعداوة لكل معبود سواه ولمن عبدهم، قال تعالى عن الخليل ـ عليه السلام‏:‏‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26ـ 28‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏75ـ77‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏4‏]‏‏.‏
قلت لبعض من خاطبته من شيوخ هؤلاء‏:‏ قول الخليل‏:‏ ‏{‏إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ‏}‏ ممن تبرأ الخليل‏؟‏ أتبرأ من اللّه تعالى وعندكم ما عبد غير اللّه قط‏؟‏ والخليل قد تبرأ من كل ما كانوا يعبدون إلا من رب العالمين، وقد جعله اللّه لنا وفيمن معه أسوة حسنة، لمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏4 ـ 6‏]‏‏.‏
وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد‏:‏ ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل‏)‏‏.‏
وهذا تصديق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏62‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏23‏]‏، وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏ قال طائفة من السلف‏:‏ كل عمل باطل إلاما أريد به وجهه، وقد قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}‏ ‏[‏القصص‏:‏87، 88‏]‏‏.‏
و ‏[‏الإله‏]‏ هو المألوه أي المستحق لأن يُؤْلَه أي يُعْبَد، ولا يستحق أن يؤله ويعبد إلا اللّه وحده، وكل معبود سواه ـ من لدن عرشه إلى قرار أرضه ـ باطل، وفعال بمعنى مفعول مثل لفظ الركاب والحمال؛ بمعنى المركوب والمحمول‏.‏ وكان الصحابة يرتجزون في حفر الخندق يقولون‏:‏
هذا الحمال لا حمال خيبر ** هذا أبر ربنا وأطهـــــــــر
وإذا قيل‏:‏ هذا هو الإمام فهو الذي يستحق أن يؤتم به، كما قال تعالى لإبراهيم‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏124]‏ فعهده بالإمامة لا ينال الظالم، فالظالم لا يجوز أن يؤتم به في ظلمه، ولا يركن إليه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏113‏]‏ فمن ائتم بمن لا يصلح للإمامة فقد ظلم نفسه، فكيف بمن جعل مع اللّه إلهًا آخر، وعبد من لا يصلح للعبادة، واللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏48، 116]‏‏.‏
وقد غلط طائفة من أهل الكلام فظنوا أن ‏[‏الإله‏]‏ بمعنى الفاعل، وجعلوا الإلهية هي القدرة والربوبية، فالإله هو القادر وهو الرب، وجعلوا العباد مألوهين كما أنهم مربوبون‏.‏
فالذين يقولون بوحدة الوجود متنازعون في أمور، لكن إمامهم ابن عربي يقول‏:‏ الأعيان ثابتة في العدم ووجود الحق فاض عليها؛ فلهذا قال‏:‏ فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلهاً‏.‏ فزعم أن المخلوقات جعلت الرب إلهًا لها حيث كانوا مألوهين‏.‏ ومعنى مألوهين ـ عنده ـ مربوبين، وكونهم مألوهين حيث كانت أعيانهم ثابتة في العدم‏.‏ وفي كلامهم من هذا وأمثاله مما فيه تنقص بالربوبية ما لا يحصى، فتعالى اللّه عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا‏.‏
والتحقيق أن اللّه خالق كل شيء، والمعدوم ليس بشيء في الخارج، ولكن اللّه يعلم ما يكون قبل أن يكون ويكتبه، وقد يذكره ويخبر به فيكون سببًا في العلم والذكر والكتاب لا في الخارج، كما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏ يس‏:‏ 28‏]‏‏.‏ واللّه ـ سبحانه ـ خالق الإنسان ومعلمه فهو الذي ‏{‏خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏1، 2‏]‏ وهو ‏{‏الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 3 ـ 5‏]‏، ولو قدر أن الإله بمعنى الرب فهو الذي جعل المربوب مربوبًا، فيكون على هذا هو الذي جعل المألوه مألوهًا، والمربوب لم يجعله ربًا، بل ربوبيته صفة، وهو الذي خلق المربوب وجعله مربوبًا؛وهو إذا آمن بالرب واعتقد ربوبيته وأخبر بها كان قد اتخذ اللّه ربا ولم يبغ ربا سوى اللّه ولم يتخذ ربًا سواه، كما قال تعالى‏:‏‏{‏الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق:‏ 3 :5‏]‏، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏14‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏80‏]‏‏.‏
وهو - أيضًا - في نفسه هو الإله الحق لا إله غيره، فإذا عبده الإنسان فقد وَحَّده من لم يجعل معه إلهًا آخر ولا اتخذ إلهًا غيره، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏213‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏22‏]‏، وقال إبراهيم لأبيه آزر‏:‏‏{‏أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏74‏]‏ فالمخلوق ليس بإله في نفسه، لكن عابده اتخذه إلهًا وجعله إلهًا وسماه إلهًا، وذلك كله باطل لا ينفع صاحبه بل يضره، كما أن الجاهل إذا اتخذ إمامًا ومفتيًا وقاضيًا كان ذلك باطلاً؛ فإنه لا يصلح أن يؤم ولا يفتى ولا يقضى، وغير اللّه لا يصلح أن يتخذ إلهًا يعبد ويدعى، فإنه لا يخلق ولا يرزق، وهو ـ سبحانه ـ لا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع، ولا ينفع ذا الجَدِّ منه الجَدُّ‏.‏
ومن دعا من لا يسمع دعاءه، أو يسمع ولا يستجيب له، فدعاؤه باطل وضلال، وكل من سوى اللّه إما أنه لا يسمع دعاء الداعي، أو يسمع ولكن لا يستجيب له، فإن غير اللّه لا يستقل بفعل شيء البتة، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏‏[‏سبأ‏:‏22، 23‏]‏ فغير اللّه لا مالك لشيء، ولا شريك في شيء، ولا هو معاون للرب في شيء، بل قد يكون له شفاعة إن كان من الملائكة والأنبياء والصالحين ولكن لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، فلابد أن يأذن للشافع أن يشفع، وأن يأذن للمشفوع له أن يشفع له، ومن دونه لا يملكون الشفاعة البتة، فلا يصلح من سواه لأن يكون إلهًا معبودًا، كما لا يصلح أن يكون خالقًا رازقًا‏.‏ لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير‏.‏