الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا :مَا يَصْلُحُ بِهِ حَالُ الانْسَانِ
 

بسم الله الرحمن الرحيم

فَصْلٌ

وَأَمَّا مَا يَصْلُحُ بِهِ حَالُ الانْسَانِ فِيهَا فَثَلاَثَةُ أَشْيَاءَ، هِيَ قَوَاعِدُ أَمْرِهِ وَنِظَامُ حَالِهِ، وَهِيَ: نَفْسٌ مُطِيعَةٌ إلَى رُشْدِهَا مُنْتَهِيَةٌ عَنْ غَيِّهَا، وَأُلْفَةٌ جَامِعَةٌ تَنْعَطِفُ الْقُلُوبُ عَلَيْهَا وَيَنْدَفِعُ الْمَكْرُوهُ بِهَا، وَمَادَّةٌ كَافِيَةٌ تَسْكُنُ نَفْسُ الانْسَانِ إلَيْهَا وَيَسْتَقِيمُ أَوَدُهُ بِهَا. فَأَمَّا الْقَاعِدَةُ الاولَى الَّتِي هِيَ نَفْسٌ مُطِيعَةٌ: فَلِأَنَّهَا إذَا أَطَاعَتْهُ مَلَكَهَا، وَإِذَا عَصَتْهُ مَلَكَتْهُ وَلَمْ يَمْلِكْهَا. وَمَنْ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ فَهُوَ بِأَنْ لاَ يَمْلِكَ غَيْرَهَا أَحْرَى، وَمَنْ عَصَتْهُ نَفْسُهُ كَانَ بِمَعْصِيَةِ غَيْرِهَا أَوْلَى.

وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: لاَ يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَطْلُبَ طَاعَةَ غَيْرِهِ وَنَفْسُهُ مُمْتَنِعَةٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: أَتَطْمَعُ أَنْ يُطِيعَك قَلْبُ سُعْدَى وَتَزْعُمُ أَنَّ قَلْبَك قَدْ عَصَاك وَطَاعَةُ نَفْسِهِ تَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا نُصْحٌ، وَالثَّانِي انْقِيَادٌ. فَأَمَّا النُّصْحُ فَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الامُورِ بِحَقَائِقِهَا فَيَرَى الرُّشْدَ رُشْدًا وَيَسْتَحْسِنَهُ، وَيَرَى الْغَيَّ غَيًّا وَيَسْتَقْبِحَهُ. وَهَذَا يَكُونُ مِنْ صِدْقِ النَّفْسِ إذَا سَلِمَتْ مِنْ دَوَاعِي الْهَوَى. وَلِذَلِكَ قِيلَ: مَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ.

فَأَمَّا الانْقِيَادُ فَهُوَ أَنْ تُسْرِعَ إلَى الرُّشْدِ إذَا أَمَرَهَا، وَتَنْتَهِيَ عَنْ الْغَيِّ إذَا زَجَرَهَا. وَهَذَا يَكُونُ مِنْ قَبُولِ النَّفْسِ إذَا كُفِيَتْ مُنَازَعَةَ الشَّهَوَاتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}. وَلِلنَّفْسِ آدَابٌ هِيَ تَمَامُ طَاعَتِهَا، وَكَمَالُ مَصْلَحَتِهَا. وَقَدْ أَفْرَدْنَا لَهَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ بَابًا وَاقْتَصَرْنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى مَا قَدْ اقْتَضَاهُ التَّرْتِيبُ، وَاسْتَدْعَاهُ التَّقْرِيبُ.

وَأَمَّا الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ الالْفَةُ الْجَامِعَةُ: فَلِأَنَّ الانْسَانَ مَقْصُودٌ بِالاذِيَّةِ، مَحْسُودٌ بِالنِّعْمَةِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ آلِفًا مَأْلُوفًا تَخَطَّفَتْهُ أَيْدِي حَاسِدِيهِ، وَتَحَكَّمَتْ فِيهِ أَهْوَاءُ أَعَادِيهِ، فَلَمْ تَسْلَمْ لَهُ نِعْمَةٌ، وَلَمْ تَصْفُ لَهُ مُدَّةٌ. فَإِذَا كَانَ آلِفًا مَأْلُوفًا انْتَصَرَ بِالالْفَةِ عَلَى أَعَادِيهِ، وَامْتَنَعَ مِنْ حَاسِدِيهِ، فَسَلِمَتْ نِعْمَتُهُ مِنْهُمْ، وَصَفَتْ مُدَّتُهُ عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ صَفْوُ الزَّمَانِ عُسْرًا، وَسِلْمُهُ خَطَرًا.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ رحمهما الله عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {الْمُؤْمِنُ آلِفٌ مَأْلُوفٌ، وَلاَ خَيْرَ فِيمَنْ لاَ يَأْلَفُ وَلاَ يُؤْلَفُ، وَخَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ}. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْضَى لَكُمْ ثَلاَثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاَثًا. يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِهِ جَمِيعًا وَلاَ تَتَفَرَّقُوا وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلاَهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ}. وَكُلُّ ذَلِكَ حَثٌّ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الالْفَةِ.

وَالْعَرَبُ تَقُولُ: مَنْ قَلَّ ذَلَّ وَقَالَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ: إنَّ الْقِدَاحَ إذَا اجْتَمَعْنَ فَرَامَهَا بِالْكَسْرِ ذُو حَنَقٍ وَبَطْشٍ أَيِّدِ عَزَّتْ فَلَمْ تُكْسَرْ وَإِنْ هِيَ بُدِّدَتْ فَالْوَهْنُ وَالتَّكْسِيرُ لِلْمُتَبَدِّدِ

وَإِذَا كَانَتْ الالْفَةُ بِمَا أُثْبِتَ تَجْمَعُ الشَّمْلَ وَتَمْنَعُ الذُّلَّ، اقْتَضَتْ الْحَالُ ذِكْرَ أَسْبَابِهَا. وَأَسْبَابُ الالْفَةِ خَمْسَةٌ وَهِيَ: الدِّينُ وَالنَّسَبُ وَالْمُصَاهَرَةُ وَالْمَوَدَّةُ وَالْبِرُّ. فَأَمَّا الدِّينُ: وَهُوَ الاوَّلُ مِنْ أَسْبَابِ الالْفَةِ فَلِأَنَّهُ يَبْعَثُ عَلَى التَّنَاصُرِ، وَيَمْنَعُ مِنْ التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ.

وَبِمِثْلِ ذَلِكَ وَصَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ، فَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {لاَ تَقَاطَعُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ}. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي الدِّينِ يَقْتَضِيهِ فَهُوَ عَلَى وَجْهِ التَّحْذِيرِ مِنْ تَذَكُّرِ تُرَاثِ الْجَاهِلِيَّةِ وَإِحَنِ الضَّلاَلَةِ. فَقَدْ بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْعَرَبُ أَشَدُّ تَقَاطُعًا وَتَعَادِيًا، وَأَكْثَرُ اخْتِلاَفًا وَتَمَادِيًا، حَتَّى إنَّ بَنِي الابِ الْوَاحِدِ يَتَفَرَّقُونَ أَحْزَابًا فَتُثِيرُ بَيْنَهُمْ بِالتَّحَزُّبِ وَالافْتِرَاقِ أَحْقَادُ الاعْدَاءِ، وَإِحَنُ الْبُعَدَاءِ. وَكَانَتْ الانْصَارُ أَشَدَّهُمْ تَقَاطُعًا وَتَعَادِيًا، وَكَانَ بَيْنَ الاوْسِ وَالْخَزْرَجِ مِنْ الاخْتِلاَفِ وَالتَّبَايُنِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ إلَى أَنْ أَسْلَمُوا فَذَهَبَتْ إحَنُهُمْ وَانْقَطَعَتْ عَدَاوَاتُهُمْ وَصَارُوا بِالاسْلاَمِ إخْوَانًا مُتَوَاصِلِينَ، وَبِأُلْفَةِ الدِّينِ أَعْوَانًا مُتَنَاصِرِينَ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا}. يَعْنِي أَعْدَاءً فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بِالاسْلاَمِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا}. يَعْنِي حُبًّا. وَعَلَى حَسَبِ التَّآلُفِ عَلَى الدِّينِ تَكُونُ الْعَدَاوَةُ فِيهِ إذَا اخْتَلَفَ أَهْلُهُ فَإِنَّ الانْسَانَ قَدْ يَقْطَعُ فِي الدِّينِ مَنْ كَانَ بِهِ بَرًّا وَعَلَيْهِ مُشْفِقًا. هَذَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَقَدْ كَانَتْ لَهُ الْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ فِي الْفَضْلِ وَالاثَرِ الْمَشْهُورِ فِي الاسْلاَمِ، قَتَلَ أَبَاهُ يَوْم بَدْرٍ وَأَتَى بِرَأْسِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ، حِينَ بَقِيَ عَلَى ضَلاَلِهِ وَانْهَمَكَ فِي طُغْيَانِهِ. فَلَمْ يُعْطِفْهُ عَلَيْهِ رَحْمَةٌ وَلاَ كَفَّهُ عَنْهُ شَفَقَةٌ، وَهُوَ مِنْ أَبَرِّ الابْنَاءِ، تَغْلِيبًا لِلدِّينِ عَلَى النَّسَبِ وَطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَاعَةِ الابِ. وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}.

وَقَدْ يَخْتَلِفُ أَهْلُ الدِّينِ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى وَآرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ فَيَحْدُثُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالتَّبَايُنِ مِثْلُ مَا يَحْدُثُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الادْيَانِ. وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الدِّينَ وَالاجْتِمَاعَ عَلَى الْعَقْدِ الْوَاحِدِ فِيهِ لَمَّا كَانَ أَقْوَى أَسْبَابِ الالْفَةِ، كَانَ الاخْتِلاَفُ فِيهِ أَقْوَى أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ. وَإِذَا تَكَافَأَ أَهْلُ الادْيَانِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْمَذَاهِبِ الْمُتَبَايِنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ أَعْلَى يَدًا، وَأَكْثَرَ عَدَدًا، كَانَتْ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمْ أَقْوَى وَالاحَنُ فِيهِمْ أَعْظَمَ؛ لِأَنَّهُ يَنْضَمُّ إلَى عَدَاوَةِ الاخْتِلاَفِ تَحَاسُدُ الاكْفَاءِ، وَتَنَافُسُ النُّظَرَاءِ.

الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا :اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لِنَافِذِ قُدْرَتِهِ وَبَالِغِ حِكْمَتِهِ

الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا :سُلْطَانٌ قَاهِرٌ تَتَأَلَّفُ مِنْ رَهْبَتِهِ الاهْوَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ

الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا : عَدْلٌ شَامِلٌ يَدْعُو إلَى الالْفَةِ

الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا :أَمْنٌ عَامٌّ و خِصْبُ دَار و أَمَلٌ فَسِيحٌ

الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا :مَا يَصْلُحُ بِهِ حَالُ الانْسَانِ

الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا :وَأَمَّا النَّسَبُ

الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا :وَأَمَّا الْمُصَاهَرَةُ مِنْهَا

الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا :وَأَمَّا الْمُؤَاخَاة عِبَادَاتِهِ

الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا :وَأَمَّا الْبِرُّ وَعَلَيْك

الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا :الْبَذْلُ وَالْعَطَاءُ

الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا : الْمَعْرُوفُ وَعَلَيْك

الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا :الْمَادَّةُ الْكَافِيَةُ

الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا :أَفَادَتْنِي الْقَنَاعَةُ كُلَّ عِزٍّ