فصــل شهادة الرب بالسمع والبصر
 
فصــل
وإذا كان لابد من بيان شهادته للعباد؛ ليعلموا أنه قد شهد، فهو قد بينها بالطريقين؛ بالسمع والبصر‏.‏ فالسميع يسمع آيات الله المتلوة المنزلة، والبصير يعاين آياته المخلوقة الفعلية؛ وذلك أن شهادته تتضمن بيانه ودلالته للعباد وتعريفهم ذلك، وذلك حاصل بآياته، فإن آياته هى دلالاته وبراهينه التى بها يعرف العباد خبره وشهادته، كما عرفهم بها أمره ونهيه، وهو عليم حكيم؛ فخبره يتضمن أمره ونهيه، وفعله يبين حكمته‏.‏
فالأنبياء إذا أخبروا عنه بكلامه عرف بذلك شهادته وآياته القولية، ولابد أن يعرف صدق الأنبياء فيما أخبروا عنه؛ وذلك قد عرفه بآياته التى أيد بها الأنبياء ودل بها على صدقهم؛ فإنه لم يبعث نبيا إلا بآيه تبين صدقه، إذ تصديقه بما لا يدل على صدقه غير جائز، كما قال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏25‏]‏ أى‏:‏ بالآيات البينات، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏43، 44‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏183‏]‏، وقال ‏{‏فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏184‏]‏‏.‏
وفى الصحيحين عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من نبى من الأنبياء إلا وقد أوتى من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذى أوتيته وَحْيًا أوحاه الله إلى فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة‏)‏‏.‏
فالآيات والبراهين التى أرسل بها الرسل دلالات الله على صدقهم، دل بها العباد، وهى شهادة الله بصدقهم فيما بلغوا عنه، والذى بلغوه فيه شهادته لنفسه فيما أخبر به، ولهذا قال بعض النُّظَّار‏:‏ إن المعجزة تصديق الرسول، وهى تجرى مجرى المرسل، صدقت فهى تصديق بالفعل، تجرى مجرى التصديق بالقول؛ إذ كان الناس لا يسمعون كلام الله المرسل منه، وتصديقه إخبار بصدقه، وشهادة له بالصدق وشهادة له بأنه أرسله وشهادة له بأن كل ما يبلغه عنه كلامه‏.‏
وهو ـ سبحانه ـ اسمه المؤمن، وهو فى أحد التفسيرين المصدق، الذى يصدق أنبياءه فيما أخبروا عنه بالدلائل التى دل بها على صدقه‏.‏
وأما الطريق العيانى فهو‏:‏ أن يرى العباد من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحى الذى بلغته الرسل عن اللّه حق، كما قال تعالى‏:‏‏{‏سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏53‏]‏ أى‏:‏ أو لم يكف بشهادته المخبرة بما علمه، وهو الوحى الذى أخبر به الرسول؛ فإن اللّّه على كل شىء شهيد وعليم به، فإذا أخبر به وشهد كان ذلك كافياً، وإن لم ير المشهود به، وشهادته قد علمت بالآيات التى دل بها على صدق الرسول، فالعالم بهذه الطريق لا يحتاج أن ينظر الآيات المشاهدة، التى تدل على أن القرآن حق، بل قد يعلم ذلك بما علم به أن الرسول صادق فيما أخبر به عن شهادة الله ـ تعالى ـ وكلامه‏.‏
وكذلك ذكر الكتاب المنزل، فقال‏:‏‏{‏وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ‏}‏ الآيات إلى قوله‏:‏‏{‏إِلَّا الظَّالِمُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏46 ـ49‏]‏ فبين أن القرآن آيات بينات فى صدور الذين أوتوا العلم، فإنه من أعظم الآيات البينة الدالة على صدق من جاء به، وقد اجتمع فيه من الآيات ما لم يجتمع فى غيره؛ فإنه هو الدعوة والحجة، وهو الدليل والمدلول عليه، والحكم، وهو الدعوى، وهو البينة على الدعوى، وهو الشاهد والمشهود به‏.‏
وقوله‏:‏‏{‏فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏49‏]‏، سواء أريد به أنه بين فى صدورهم،أو أنه محفوظ في صدورهم، أو أريد به الأمران وهو الصواب، فإنه محفوظ فى صدور العلماء، بين فى صدورهم، يعلمون أنه حق، كما قال‏:‏ ‏{‏وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏6‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏19‏]‏،‏{‏وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏‏[‏الحج‏:‏ 54‏]‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 50-52‏]‏، فيها بيان ما يوجب السعادة للمؤمنين وينجيهم من العذاب‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏{‏قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏، فإنه إذا كان عالماً بالأشياء كانت شهادته بعلم، وقد بين شهادته بالآيات الدالة على صدق الرسول، ومنها القرآن، و الله أعلم‏.‏