تفسير قوله تعالى {ما أصابك من حسنة فمن الله}
 
وَقَالَ شيخ الإسلام‏:‏
قوله‏:‏‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏}‏ الآية بعد قوله‏:‏‏{‏كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏78، 79‏]‏، لو اقتصر على الجمع أعرض العاصى عن ذم نفسه، والتوبة من الذنب، والاستعاذة من شره، وقام بقلبه حجة إبليس، فلم تزده إلا طرداً، كما زادت المشركين ضلالا حين قالوا‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏‏.‏
ولو اقتصر على الفرق لغابوا عن التوحيد والإيمان بالقدر، واللجاء إلى اللّه فى الهداية، كما فى خطبته صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الحمد الله، نحمده ونستعينه ونستغفره‏)‏ فيشكره ويستعينه على طاعته، ويستغفره من معصيته، ويحمده على إحسانه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏ونعوذ بالله من شرور أنفسنا‏)‏ إلى آخره، لما استغفر من المعاصى استعاذه من الذنوب التى لم تقع ثم قال‏:‏‏(‏ومن سيئات أعمالنا‏)‏،أى‏:‏ومن عقوباتها،ثم قال‏:‏‏(‏من يهد الله فلا مضل له‏)‏إلخ‏.‏ شهادة بأنه المتصرف فى خلقه، ففيه إثبات القضاء الذى هو نظام التوحيد، هذا كله مقدمة بين يدى الشهادتين، فإنما يتحققان بحمد الله وإعانته، واستغفاره واللجاء إليه، والإيمان بأقداره‏.‏ فهذه الخطبة عقد نظام الإسلام والإيمان‏.‏
وقال‏:‏ كون الحسنات من الله والسيئات من النفس له وجوه‏:‏
الأول‏:‏ أن النعم تقع بلا كسب‏.‏
الثانى‏:‏ أن عمل الحسنات من إحسان الله إلى عبده، فخلق الحياة، وأرسل الرسل، وحبب إليهم الإيمان‏.‏ وإذا تدبرت هذا شكرت الله فزادك، وإذا علمت أن الشر لا يحصل إلا من نفسك تبت فزال‏.‏
الثالث‏:‏ أن الحسنة تضاعف‏.‏
الرابع‏:‏ أن الحسنة يحبها ويرضاها، فيحب أن ينعم، ويحب أن يطاع؛ ولهذا تأدب العارفون فأضافوا النعم إليه والشر إلى محله، كما قال إمام الحنفاء‏:‏‏{‏الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏78ـ80‏]‏‏.‏
الخامس‏:‏ أن الحسنة مضافة إليه لأنه أحسن بها بكل اعتبار، وأما السيئة فما قدرها إلا لحكمة‏.‏
السادس‏:‏ أن الحسنات أمور وجودية متعلقة بالرحمة والحكمة؛ لأنها إما فعل مأمور أو ترك محظور، والترك أمر وجودى، فتركه لما عرف أنه ذنب،وكراهته له ومنع نفسه منه أمور وجودية، وإنما يثاب على الترك على هذا الوجه‏.‏
وقد جعل النبى صلى الله عليه وسلم البغض فى الله من أوثق عُرَى الإيمان، وهو أصل الترك، وجعل المنع لله من كمال الإيمان وهو أصل الترك‏.‏ وكذلك براءة الخليل من قومه المشركين ومعبوديهم ليست تركا محضاً، بل صادراً عن بغض وعداوة‏.‏ وأما السيئات فمنشؤها من الظلم والجهل‏.‏ وفى الحقيقة كلها ترجع إلى الجهل، وإلا فلو تم العلم بها لم يفعلها؛ فإن هذا خاصة العقل،وقد يغفل عن هذا كله بقوة وارد الشهوة، والغفلة، والشهوة أصل الشر، كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا‏}‏الآية ‏[‏الكهف‏:‏28‏]‏‏.‏
السابع‏:‏ أن ابتلاءه له بالذنوب عقوبة له على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه‏.‏
الثامن‏:‏ أن ما يصيبه من الخير والنعم لا تنحصر أسبابه من إنعام الله عليه، فيرجع فى ذلك إلى الله، ولا يرجو إلا هو؛ فهو يستحق الشكر التام الذى لا يستحقه غيره، وإنما يستحق من الشكر جزاء على ما يسره الله على يديه،ولكن لا يبلغ أن يشكر بمعصية الله، فإنه المنعم بما لا يقدر عليه مخلوق، ونعم المخلوق منه أيضاً، وجزاؤه على الشكر والكفر لا يقدر أحد على مثله‏.‏
فإذا عرف أن ‏{‏مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏2‏]‏ صار توكله ورجاؤه إلى الله وحده، وإذا عرف ما يستحقه من الشكر الذى يستحقه صار له‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض بالأصل‏]‏، والشر انحصر سببه فى النفس؛ فعلم من أين يؤتى فتاب واستعان بالله، كما قال بعض السلف‏:‏ لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه،وقد تقدم قول السلف ـ ابن عباس وغيره ـ أن ما أصابهم يوم أحد مطلقاً كان بذنوبهم لم يستثن أحد، وهذا من فوائد تخصيص الخطاب؛ لئلا يظن أنه عام مخصوص‏.‏
التاسع‏:‏ أن السيئة إذا كانت من النفس والسيئة خبيثة، كما قال تعالى‏:‏‏{‏الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ‏}‏ الآية‏[‏النور‏:‏26‏]‏،قال جمهور السلف‏:‏الكلمات الخبيثات للخبيثين،وقال‏:‏‏{‏وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 26‏]‏،وقال‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏ والأقوال والأفعال صفات للقائل الفاعل، فإذا اتصفت النفس بالخبث فمحلها ما يناسبها،فمن أراد أن يجعل الحيات يعاشرن الناس كالسنانير لم يصلح،بل إذا كان فى النفس خبث طهرت حتى تصلح للجنة، كما فى حديث أبى سعيد ـ الذى فى الصحيح ـ وفيه‏:‏ ‏(‏حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أذن لهم فى دخول الجنة‏)‏‏.‏
فإذا علم الإنسان أن السيئة من نفسه لم يطمع فى السعادة التامة، مع ما فيه من الشر، بل علم تحقيق قوله‏:‏ ‏{‏مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏123‏]‏، ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7‏]‏ إلخ‏.‏ وعلم أن الرب عليم حكيم، رحيم عدل، وأفعاله على قانون العدل والإحسان، كما فى الصحيح‏:‏ ‏(‏يمين الله ملأى‏)‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏والقسط بيده الأخرى‏)‏ وعلم فساد قول الجهمية الذين يجعلون الثواب والعقاب بلا حكمة ولا عدل‏.‏
إلى أن قال‏:‏ ومن سلك مسلكهم غايته إذا عظم الأمر والنهى أن يقول ـ كما نقل عن الشاذلى ‏[‏هو أبو الحسن على بن عبد الله بن عبد الجبار بن يوسف بن هرمز الشاذلى المغربى، رأس الطائفة الشاذلية، من المتصوفة، وصاحب الأوراد المسماة ـ حزب الشاذلى ـ ولد سنة 591 هـ، سكن شاذلة قرب تونس، فنسب إليها، وتوفى سنة 656 هـ‏]‏ ـ يكون الجمع فى قلبك مشهوداً، والفرق على لسانك موجودا، كما يوجد فى كلامه وكلام غيره أقوال وأدعية تستلزم تعطيل الأمر والنهى، مما يوجب أن يجوز عنده أن يجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الأرض، ويدعون بأدعية فيها اعتداء، كما فى حزب الشاذلي‏.‏ وآخرون من عوامهم يجوزون أن يكرم الله بكرامات الأولياء لمن هو فاجر وكافر، ويقولون‏:‏ هذه موهبة، ويظنونها من الكرامات وهى من الأحوال الشيطانية التى يكون مثلها للسحرة والكهان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏هَارُوتَ وَمَارُوتَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 101، 102‏]‏، وصح قوله‏:‏ ‏(‏لتتبعن سنن من كان قبلكم‏)‏‏.‏
فعدل كثير من المنتسبين إلى الإسلام إلى أن نبذ القرآن وراء ظهره، واتبع ما تتلو الشياطين فلا يعظم أمر القرآن ونهيه ولا يوالى من أمر القرآن بموالاته، ولا يعادى من أمر القرآن بمعاداته بل يعظم من يأتى ببعض الخوارق‏.‏
ثم منهم من يعرف أنه من الشياطين لكن يعظمه لهواه، ويفضله على طريقة القرآن، وهؤلاء كفار، قال الله ـ تعالى ـ فيهم‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ‏}‏ إلخ ‏[‏النساء‏:‏ 51‏]‏‏.‏
قال‏:‏ وفى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏‏[‏النساء‏:‏79‏]‏ من الفوائد‏:‏ أن العبد لا يطمئن إلى نفسه، ولا يشتغل بملام الناس وذمهم، بل يسأل اللّه أن يعينه على طاعته؛ ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه دعاء الفاتحة، وهو محتاج إلى الهدى كل لحظة، ويدخل فيه من أنواع الحاجات ما لا يمكن حصره، ويبينه أن الله ـ سبحانه ـ لم يقص علينا قصة فى القرآن إلا لنعتبر، وإنما يكون الاعتبار إذا قِسْنَا الثانى بالأول، فلولا أن في النفوس ما فى نفوس المكذبين للرسل لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط، ولكن الأمر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏43‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَتَوَاصَوْا بِهِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏53‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏118‏]‏ ولهذا فى الحديث‏:‏ ‏(‏لتسلكن سنن من كان قبلكم‏)‏‏.‏
وقد بين القرآن أن السيئات من النفس، وأعظم السيئات جحود الخالق والشرك به، وطلب أن يكون شريكا له، وكلا هذين وقع‏.‏
وقال بعضهم‏:‏ ما من نفس إلا وفيها ما فى نفس فرعون، وذلك أن الإنسان إذا اعتبر وتعرف أحوال الناس رأى ما يبغض نظيره وأتباعه حسداً، كما فعلت اليهود لما بعث الله من يدعو إلى مثل ما دعا إليه موسى؛ ولهذا أخبر عنهم بنظير ما أخبر به عن فرعون‏.‏
وَقَالَ الشّيخ الإمَام العَالم العَلاّمة شيخ الإسلام تقى الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرانى ـ تغمده الله تعالى برحمته‏:‏
الحمد للّه نحمده ونستعينه، ونستهديه ونستغفره‏.‏ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له‏.‏
وأشهد أن لا إله إلا اللّه، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏