فصــل في قوله تعالى {ما أصابك من حسنة فمن الله}
 
فصــل
فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏ وبعض ما تضمنته من الحكم العظيمة‏.‏
هذه الآية ذكرها اللّه فى سياق الأمر بالجهاد، وذم الناكثين عنه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏71‏]‏ الآيات إلى أن ذكر صلاة الخوف، وقد ذكر قبلها طاعة اللّه وطاعة الرسول، والتحاكم إلى اللّه وإلى الرسول، ورد ما تنازع فيه الناس إلى اللّه وإلى الرسول، وذم الذين يتحاكمون ويردون ما تنازعوا فيه إلى غير اللّه والرسول‏.‏
فكانت تلك الآيات تبييناً للإيمان باللّه وبالرسول؛ ولهذا قال فيها‏:‏ ‏{‏فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏65‏]‏‏.‏
وهذا جهاد عما جاء به الرسول، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 15‏]‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏24‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏19-21‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 10-14‏]‏‏.‏
وذكر بعد آيات الجهاد إنزال الكتاب على رسول اللّه ليحكم بين الناس بما أراه اللّه، ونهيه عن ضد ذلك، وذكره فضل الله عليه ورحمته فى حفظه، وعصمته من إضلال الناس له، وتعليمه ما لم يكن يعلم، وذم من شاق الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين، وتعظيم أمر الشرك، وشديد خطره وأن اللّه لا يغفره ولكن يغفر ما دونه لمن يشاء ـ إلى أن بين أن أحسن الأديان دينُ من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا، بشرط أن تكون عبادته بفعل الحسنات التى شرعها، لا بالبدع والأهواء، وهم أهل ملة إبراهيم، الذين اتبعوا ملة إبراهيم حنيفا ‏{‏وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏‏.‏
فكان فى الأمر بطاعة الرسول والجهاد عليها اتباع التوحيد، وملة إبراهيم‏.‏ وهو إخلاص الدين للّه، وأن يعبد الله بما أمر به على ألسن رسله من الحسنات‏.‏
وقد ذكر ـ تعالى ـ فى ضمن آيات الجهاد ذَمَّ من يخاف العدو، ويطلب الحياة ، وبين أن ترك الجهاد لا يدفع عنهم الموت، بل أينما كانوا أدركهم الموت، ولو كانوا فى بروج مُشَيَّدة‏.‏ فلا ينالون بترك الجهاد منفعة، بل لا ينالون إلا خسارة الدنيا والآخرة، فقال تعالـى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 77‏]‏‏.‏
وهذا الفريق قد قيل‏:‏ إنهم منافقون، وقيل‏:‏ نافقوا لما كتب عليهم القتال‏.‏ وقيل‏:‏ بل حصل منهم جبن وفشل، فكان فى قلوبهم مرض،كما قال تعالى‏:‏‏{‏فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 20، 21‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏12‏]‏‏.‏
والمعنى متناول لهؤلاء ولهؤلاء ولكل من كان بهذه الحال‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏‏.‏
فالضمير فى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ‏}‏ يعود إلى من ذكر، وهم ‏(‏الذين يخشون الناس‏)‏ أو يعود إلى معلوم، وإن لم يذكر، كما فى مواضع كثيرة‏.‏
وقد قيل‏:‏ إن هؤلاء كانوا كفاراً من اليهود‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا منافقين‏.‏ وقيل‏:‏ بل كانوا من هؤلاء وهؤلاء‏.‏ والمعنى يعم كل من كان كذلك، ولكن تناوله لمن أظهر الإسلام وأمر بالجهاد أولى‏.‏
ثم إذا تناول الذم هؤلاء، فهو للكفار الذين لا يظهرون الإسلام أولى وأحْرَى‏.‏
والذى عليه عامة المفسرين‏:‏ أن ‏(‏الحسنة‏)‏ و‏(‏السيئة‏)‏ يراد بهما النعم والمصائب، ليس المراد مجرد ما يفعله الإنسان باختياره، باعتباره من الحسنات أو السيئات‏.‏