فصــل فيما يتناوله لفظ الحسنات والسيات في القرآن الكريم
 
فصــل
ولفظ ‏(‏الحسنات‏)‏ و ‏(‏السيئات‏)‏ فى كتاب اللّه يتناول هذا وهذا، قال اللّه تعالى عن المنافقين‏:‏ ‏{‏إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏120‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏50‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏168‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏48‏]‏، وقال تعالى فى حق الكفار المتطيرين بموسى ومن معه‏:‏ ‏{‏َإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ‏}‏ ذكر هذا بعد قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏‏[‏الأعراف‏:‏130، 131‏]‏‏.‏
وأما الأعمال المأمور بها والمنهى عنها ففى مثل قوله تعالى‏:‏‏{‏مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏84‏]‏ ‏{‏وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏160‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏114‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏70‏]‏‏.‏
وهنا قال‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏ ولم يقل‏:‏ وما فعلت، وما كسبت، كما قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏30‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏49‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏52‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ‏}‏‏[‏الرعد‏:‏31‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏106‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 155، 156‏]‏‏.‏
فلهذا كان قول ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ‏}‏ و‏{‏مِن سَيِّئَةٍ‏}‏ متناول لما يصيب الإنسان، ويأتيه من النعم التى تسره، ومن المصائب التى تسوءه‏.‏
فالآية متناولة لهذا قطعاً، وكذلك قال عامة المفسرين‏.‏
قال أبو العالية‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ‏}‏ قال‏:‏ هذه فى السراء ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ‏}‏ قال‏:‏ وهذه فى الضراء‏.‏
وقال السدى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ‏}‏‏:‏ قالوا‏:‏ والحسنة؛ الخصب؛ ينتج خيولهم وأنعامهم ومواشيهم، ويحسن حالهم، وتلد نساؤهم الغلمان قالوا‏:‏‏{‏هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ‏}‏ قالوا ـ والسيئة‏:‏ الضرر فى أموالهم، تشائما بمحمد ـ قالوا‏:‏ ‏{‏هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ‏}‏ يقولون‏:‏ بتركنا ديننا، واتباعنا محمداً أصابنا هذا البلاء، فأنزل الله ‏{‏قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ‏}‏ الحسنة والسيئة ‏{‏فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا‏}‏ قال القرآن‏.‏
وقال الوالبى عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏}‏ قال‏:‏ ما فتح الله عليك يوم بدر، وكذلك قال الضحاك‏.‏
وقال الوالبى أيضا عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏مِنْ حَسَنَةٍ‏}‏ قال‏:‏ ما أصاب من الغنيمة والفتح فمن الله، قال‏:‏ ‏(‏والسيئة‏)‏ ما أصابه يوم أحد؛ إذ شُجّ فى وجهه، وكسرت رَبَاعيتَهُ‏.‏
وقال‏:‏ أما ‏(‏الحسنة‏)‏ فأنعم اللّه بها عليك، وأما ‏(‏السيئة‏)‏ فابتلاك الله بها‏.‏
وروى ـ أيضا ـ عن حجاج عن عطية عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏}‏ قال‏:‏ هذا يوم بَدْر ‏{‏أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ قال‏:‏ هذا يوم أُحُد‏.‏ يقول‏:‏ ما كان من نَكْبَة فمن ذنبك، وأنا قدرت ذلك عليك‏.‏
وكذلك روى ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن أبى صالح‏:‏ ‏{‏فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ قال‏:‏ فبذنبك، وأنا قدرتها عليك‏.‏ روى هذه الآثار ابن أبى حاتم وغيره‏.‏
وروى ـ أيضًا ـ عن مُطرِّف بن عبد اللّه بن الشِّخِّير قال‏:‏ ما تريدون من القدر‏؟‏ أما تكفيكم هذه الآية التى فى سورة النساء‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ‏}‏‏؟‏ ‏[‏النساء‏:‏78‏]‏ أي‏:‏ من نفسك، واللّه ما وكلوا إلى القدر، وقد أمروا به، وإليه يصيرون‏.‏
وكذلك فى تفسير أبى صالح عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ‏}‏‏:‏ الخصب والمطر ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ‏}‏‏:‏ الجدب والبلاء‏.‏
وقال ابن قتيبة‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ قال‏:‏ الحسنة النعمة، والسيئة‏:‏ البلية‏.‏
وقد ذكر أبو الفرج فى قوله‏:‏‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ‏}‏ و ‏{‏مِن سَيِّئَةٍ‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏
أحدها‏:‏ أن الحسنة‏:‏ ما فتح الله عليهم يوم بدر، والسيئة‏:‏ ما أصابهم يوم أحد‏.‏ قال‏:‏ رواه ابن أبى طلحة ـ وهو الوالبى ـ عن ابن عباس‏.‏
قال‏:‏ والثانى‏:‏ الحسنة‏:‏ الطاعة، والسيئة‏:‏ المعصية‏.‏ قاله أبو العالية‏.‏
والثالث‏:‏ الحسنة‏:‏ النعمة، والسيئة‏:‏ البلية‏.‏ قاله ابن مُنَبِّه‏.‏قال‏:‏ وعن أبى العالية نحوه‏.‏ وهو أصح‏.‏
قلت‏:‏ هذا هو القول المعروف بالإسناد عن أبي العالية، كما تقدم من تفسيره المعروف الذى يروى عنه هو وغيره، من طريق أبى جعفر الدارى عن الربيع بن أنس عنه وأمثاله‏.‏
وأما الثانى فهو لم يذكر إسناده، ولكن ينقل من كتب المفسرين الذين يذكرون أقوال السلف بلا إسناد، وكثير منها ضعيف، بل كذب لا يثبت عمن نقل عنه‏.‏ وعامة المفسرين المتأخرين ـ أيضا ـ يفسرونه على مثل أقوال السلف، وطائفة منهم تحملها على الطاعة والمعصية‏.‏
فأما الصنف الأول، فهى تتناوله قطعا‏.‏ كما يدل عليه لفظها وسياقها ومعناها وأقوال السلف‏.‏
وأما المعنى الثانى، فليس مراداً دون الأول قطعاً، ولكن قد يقال‏:‏ إنه مراد مع الأول؛ باعتبار أن ما يهديه اللّه إليه من الطاعة هو نعمة فى حقه من اللّّه أصابته، وما يقع منه من المعصية هو سيئة أصابته، ونفسه التى عملت السيئة‏.‏ وإذا كان الجزاء من نفسه، فالعمل الذى أوجب الجزاء أولى أن يكون من نفسه‏.‏
فلا منافاة أن تكون سيئة العمل وسيئة الجزاء من نفسه، مع أن الجميع مقدر ـ كما تقدم ‏.‏ وقد روى عن مجاهد عن ابن عباس؛ أنه كان يقرأ‏:‏ ‏(‏فمن نفسك وأنا قدرتها عليك‏)‏‏.‏