فصــل في ذكر كلام الجهمية
 
فصــل
وكان فيما ذكره إبطال لقول الجهمية المجبرة ونحوهم، ممن يقول‏:‏ إن الله قد يعذب العباد بلا ذنب، وأنه قد يأمر العباد بما لا ينفعهم، بل بما يضرهم، فإن فعلوا ما أمرهم به حصل لهم الضرر، وإن لم يفعلوه عاقبهم‏.‏
يقولون هذا ومثله، ويزعمون أن هذا لأنه يفعل ما يشاء‏.‏
والقرآن يرد على هؤلاء من وجوه كثيرة، كما يرد على المكذبين بالقدر‏.‏
فالآية ترد على هؤلاء وهؤلاء ـ كما تقدم ـ مع احتجاج الفريقين بها، وهي حجة على الفريقين‏.‏
فإن قال نفاة القدر‏:‏ إنما قال فى الحسنة‏:‏ هى من الله، وفى السيئة‏:‏ هى من نفسك، لأنه يأمر بهذا، وينهى عن هذا، باتفاق المسلمين‏.‏
قالوا‏:‏ ونحن نقول‏:‏ المشيئة ملازمة للأمر، فما أمر به فقد شاءه، وما لم يأمر به لم يشأه‏.‏ فكانت مشيئته وأمره حَاضَّة على الطاعة دون المعصية؛ فلهذا كانت هذه منه دون هذه‏.‏
قيل‏:‏ أما الآية، فقد تبين أن الذين قالوا‏:‏ الحسنة من عند الله والسيئة من عندك، أرادوا‏:‏ من عندك يا محمد، أى‏:‏ بسبب دينك‏.‏ فجعلوا رسالة الرسول هى سبب المصائب، وهذا غير مسألة القدر‏.‏
وإذا كان قد أريد‏:‏ أن الطاعة والمعصية ـ مما قد قيل ـ كان قوله‏:‏‏{‏كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏ حجة عليكم ـ كما تقدم‏.‏
وقوله بعد هذا‏:‏‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏ لا ينافى ذلك، بل ‏(‏الحسنة‏)‏ أنعم الله بها وبثوابها، و‏(‏السيئة‏)‏ هى من نفس الإنسان ناشئة، وإن كانت بقضائه وقدره، كما قال تعالى‏:‏‏{‏مٌن شّرٌَ مّا خّلّقّ‏}‏ ‏[‏الفلق‏:‏2‏]‏، فمن المخلوقات ماله شر، وإن كان بقضائه وقدره‏.‏
وأنتم تقولون‏:‏ الطاعة والمعصية هما من إحداث الإنسان، بدون أن يجعل الله هذا فاعلا وهذا فاعلا، وبدون أن يخص الله المؤمن بنعمة ورحمة أطاعه بها‏؟‏ وهذا مخالف للقرآن‏.‏