فصــل في حتمية ألا يطلب العبد الحسنات إلا من الله تعالى
 
فصــل
ولما كان الأمر كما أخبر اللّه به فى قوله‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏، أوجب هذا ألا يطلب العبد الحسنات ـ والحسنات تدخل فيها كل نعمة ـ إلا من اللّه، وأن يعلم أنها من اللّه وحده، فيستحق اللّه عليها الشكر الذي لا يستحقه غيره، ويعلم أنه لا إله إلا هو، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏53‏]‏‏.‏
فهذا يوجب على العبد شكره وعبادته وحده، ثم قال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 53‏]‏، وهذا إخبار عن حالهم، والجؤار‏:‏ يتضمن رفع الصوت‏.‏
والإنسان إنما يجأر إذا أصابه الضر، وأما في حال النعمة فهو ساكن، إما شاكراً وإما كفوراً‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏53، 54‏]‏‏.‏
وهذا المعنى قد ذكره الله في غير موضع، يذم من يشرك به بعد كشف البلاء عنه، وإسباغ النعماء عليه، فيضيف العبد ـ بعد ذلك ـ الإنعام إلى غيره، ويعبد غيره تعالى، ويجعل المشكور غيره على النعم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم
مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏33، 43‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏63، 64‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 8‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ نسى الضر الذي كان يدعو اللّه لدفعه عنه، كما قال‏:‏فى سورة الأنعام‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الآيتان‏:‏40،41‏]‏‏.‏
فذم اللّه ـ سبحانه ـ حزبين‏:‏ حزباً لا يدعونه فى الضراء، ولا يتوبون إليه، وحزباً يدعونه ويتضرعون إليه ويتوبون إليه‏.‏ فإذا كشف الضر عنهم أعرضوا عنه، وأشركوا به ما اتخذوهم من الأنداد من دونه‏.‏
فهذا الحزب نوعان ـ كالمعطلة، والمشركة ـ حزب إذا نزل بهم الضر لم يدعو الله ولم يتضرعوا إليه، ولم يتوبوا إليه، كما قال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏42، 43‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏76‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏126‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏21‏]‏‏.‏وحزب يتضرعون إليه فى حال الضراء، ويتوبون إليه ، فإذا كشفها عنهم أعرضوا عنه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏12‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَان أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏51‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏67‏]‏، وقال فى المشركين ما تقدم‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏53، 54‏]‏‏.‏
والممدوح هو القسم الثالث، وهم الذين يدعونه، ويتوبون إليه ويثبتون على عبادته، والتوبة إليه فى حال السراء، فيعبدونه ويطيعونه فى السراء والضراء، وهم أهل الصبر والشكر، كما ذكر ذلك عن أنبيائه ـ عليهم السلام ـ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ
فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏87، 88‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏34،35‏]‏،وقال تعالى‏:‏‏{‏وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏21ـ 25‏]‏، وقال تعالى عن آدم وحواء‏:‏ ‏{‏فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏22،23‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏37‏]‏‏.‏
وقـال تعالى عـن المؤمنين الذين قتـل نبيهم‏:‏ ‏{‏وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏[‏آل عمران‏:‏146ـ 148‏]‏‏.‏
وقوله ‏{‏قُتِل‏}‏ أى‏:‏ النبى قُتِل‏.‏ وهذا أصح القولين‏.‏ وقوله‏:‏‏{‏مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ‏}‏ جملة فى موضع الخبر،صفة للنبى ـ صفة بعد صفة ـ أى كم من نبى معه ربيون كثير قُتل،ولم يقتلوا معه،فإنه كان يكون المعنى‏:‏ أنه قتل وهم معه،والمقصود‏:‏ أنه كان معه ربيون كثير، وقُتِل فى الجملة، وأولئك الربيون ‏{‏مَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ‏}‏‏.‏
والربيون‏:‏ الجموع الكثيرة، وهم الألوف الكثيرة‏.‏
وهذا المعنى هو الذى يناسب سبب النزول، وهو ما أصابهم يوم أُحُد، لما قيل‏:‏‏(‏إن محمداً قد قتل‏)‏، وقد قال قبل ذلك‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏144‏]‏ وهى التى تلاها أبو بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ يوم مات النبى صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات و من كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت‏.‏
فإنه عند قتل النبى وموته، تحصل فتنة عظيمة للناس ـ المؤمنين والكافرين ـ وتحصل رِدَّة ونفاق؛ لضعف قلوب أتباعه لموته، ولما يلقيه الشيطان فى قلوب الكافرين‏:‏ إن هذا قد انقضى أمره، وما بقى يقوم دينه، وإنه لو كان نبىا لما قتل وغلب، ونحو ذلك‏.‏ فأخبر الله تعالى؛ أنه كم من نبى قتل ‏.‏
فإن بنى إسرائيل قتلوا كثيراً من الأنبياء، والنبى معه ربيون كثير أتباع له، وقد يكون قتله فى غير حرب ولا قتال، بل يقتل وقد اتبعه ربيون كثير، فما وهن المؤمنون لما أصابهم بقتله، وما ضعفوا وما استكانوا، واللّه يحب الصابرين، ولكن استغفروا لذنوبهم التى بها تحصل المصائب ـ فما أصابهم من سيئة فمن أنفسهم ـ وسألوا اللّه أن يغفر لهم، وأن يثبت أقدامهم، فيثبتهم على الإيمان والجهاد لئلا يرتابوا، ولا ينكلوا عن الجهاد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏15‏]‏، وسألـوه أن ينصرهـم على القـوم الكافرين ‏.‏ سألوا ربهم ما يفعل لهم فى أنفسهم من التثبيت، وما يعطيهم من عنده من النصر؛ فإنه هو الناصر وحـده، ومـا النصر إلا مـن عند اللّه ‏.‏ وكذا أنزل الملائكة عوناً لهم، قال تعالى ـ لما أنزل الملائكة ـ‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏10‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 148‏]‏، وهذا مبسوط فى موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا أنه لما كانت الحسنة من إحسانه ـ تعالى ـ والمصائب من نفس الإنسان ـ وإن كانت بقضاء الله وقدره ـ وجب على العبد أن يشكر ربه سبحانه وأن يستغفره من ذنوبه، وألا يتوكل إلا عليه وحده، فلا يأتى بالحسنات إلا هو، فأوجب ذلك للعبد توحيده، والتوكل عليه وحده، والشكر له وحده والاستغفار من الذنوب‏.‏
وهذه الأمور كان النبى صلى الله عليه وسلم يجمعها فى الصلاة، كما ثبت عنه فى الصحيح‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع، يقول‏:‏ ‏(‏ربنا ولك الحمد، ملء السماء وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شىء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد‏)‏‏.‏ فهذا حمد، وهو شكر لله ـ تعالى ـ وبيان أن حمده أحق ما قاله العبد، ثم يقول بعد ذلك‏:‏‏(‏اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد‏)‏‏.‏
وهذا تحقيق لوحدانيته، لتوحيد الربوبية ـ خلقاً وقدراً وبداية وهداية ـ هو المعطى المانع، لا مانع لما أعطى ولا معطى لما منع، ولتوحيد الإلهية ـ شرعا وأمراً ونهياً ـ وهو أن العباد، وإن كانوا يعطون ملكا وعظمة، وبختا ورياسة فى الظاهر أو فى الباطن، كأصحاب المكاشفات والتصرفات الخارقة، فلا ينفع ذا الجد منك الجد، أى‏:‏ لا ينجيه ولا يخلصه من سؤلك وحسابك حظه وعظمته وغناه‏.‏
ولهذا قال‏:‏‏(‏لا ينفعه منك‏)‏ ولم يقل‏:‏‏(‏لا ينفعه عندك‏)‏، فإنه لو قيل ذلك أوهم أنه لا يتقرب به إليك، لكن قد لا يضره‏.‏ فيقول صاحب الجد‏:‏ إذا سلمت من العذاب فى الآخرة فما أبالى، كالذين أوتوا النبوة والملك، لهم ملك فى الدنيا وهم من السعداء، فقد يظن ذو الجد ـ الذى لم يعمل بطاعة الله من بعده ـ أنه كان كذلك، فقال‏:‏ ‏(‏ولا ينفع ذا الجد منك‏)‏، ضمن ‏(‏ينفع‏)‏ معنى ‏(‏ينجى ويخلص‏)‏، فبين أن جده لا ينجيه من العذاب، بل يستحق بذنوبه ما يستحقه أمثاله ولا ينفعه جده منك، فلا ينجيه ولا يخلصه‏.‏
فتضمن هذا الكلام تحقيق التوحيد، وتحقيق قوله‏:‏‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏123‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 8، 9‏]‏‏.‏
فقوله‏:‏‏(‏لا مانع لما أعطيت، ولامعطى لما منعت‏)‏‏:‏ توحيد الربوبية الذى يقتضى أنه ـ سبحانه ـ هو الذى يسأل ويدعى، ويتوكل عليه‏.‏
وهو سبب لتوحيد الإلهية، ودليل عليه، كما يحتج به فى القرآن على المشركين؛ فإن المشركين كانوا يقرون بهذا التوحيد ـ توحيد الربوبية ـ ومع هذا يشركون بالله، فيجعلون له أنداداً، يحبونهم كحب الله، ويقولون‏:‏ إنهم شفعاؤنا عنده، وإنهم يتقربون بهم إليه‏.‏ فيتخذونهم شفعاء وقرباناً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏18‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُون‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏27، 28‏]‏‏.‏
وهذا التوحيد هو عبادة اللّه وحده لا شريك له، وألا نعبده إلا بما أحبه وما رضيه، وهو ما أمر به وشرعه على ألسن رسله ـ صلوات الله عليهم ـ فهو متضمن لطاعته وطاعة رسوله، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، وأن يكون اللّه ورسوله أحب إلى العبد من كل ما سواهما‏.‏
وهو يتضمن أن يحب الله حباً لا يماثله ولا يساويه فيه غيره، بل يقتضى أن يكون رسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه‏.‏
فإذا كان الرسول ـ لأجل أنه رسول اللّه ـ يجب أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه، فكيف بربه ـ سبحانه وتعالى‏؟‏
وفى صحيح البخارى أن عمرقال‏:‏ يا رسول اللّه، واللّه إنك لأحب إلى من كل شىء، إلا من نفسى ‏.‏ فقال‏:‏‏(‏لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فوالذى بعثك بالحق، إنك لأحب إلي من نفسى‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏الآن يا عمر‏)‏‏.‏
وقد قال تعالى‏:‏‏{‏النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏6‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏24‏]‏‏.‏
فإن لم يكن الله ورسوله، والجهاد فى سبيله، أحب إلى العبد من الأهل والمال ـ على اختلاف أنواعه ـ فإنه داخل تحت هذا الوعيد‏.‏
فهذا التوحيد ـ توحيد الإلهية ـ يتضمن فعل المأمور وترك المحظور‏.‏
ومن ذلك‏:‏ الصبر على المقدور، كما أن الأول يتضمن الإقرار بأنه لا خالق ولا رازق، ولا معطى ولا مانع، إلا الله وحده، فيقتضى ألا يسأل العبد غيره، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يستعين إلا به، كما قال تعالى فى النوعين‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏، وقال‏:‏‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏123‏]‏‏.‏
وهذا التوحيد هو الفارق بين الموحدين والمشركين، وعليه يقع الجزاء والثواب فى الأولى والآخرة، فمن لم يأت به كان من المشركين الخالدين، فإن اللّه لا يغفر أن يشرك به،ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏.‏
أما توحيد الربوبية، فقد أقر به المشركون، وكانوا يعبدون مع اللّه غيره، ويحبونهم كما يحبونه، فكان ذلك التوحيد ـ الذى هو توحيد الربوبية ـ حجة عليهم‏.‏ فإذا كان اللّه هو رب كل شىء ومليكه، ولا خالق ولا رازق إلا هو، فلماذا يعبدون غيره معه، وليس له عليهم خلق ولا رزق، ولا بيده لهم منع ولا عطاء، بل هو عبد مثلهم لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ‏؟‏‏!‏
فإن قالوا‏:‏ ليشفع فقد قال اللّه‏:‏ ‏{‏مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏255‏]‏ فلا يشفع من له شفاعة ـ من الملائكة والنبيين ـ إلا بإذنه‏.‏ وأما قبورهم ـ وما نصب عليها من قباب وأنصاب ـ أو تماثيلهم ـ التى مثلت على صورهم، مجسدة أو مرقومة ـ فجعل الاستشفاع بها استشفاعا بهم، فهذا باطل عقلا وشرعا؛ فإنها لا شفاعة لها بحال، ولا لسائر الأصنام التى عملت للكواكب والجن والصالحين، وغيرهم‏.‏
وإذا كان اللّه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى فما بقى الشفعاء شركاء، كشفاعة المخلوق عند المخلوق؛ فإن المخلوق يشفع عنده نظيره ـ أو من هو أعلى منه، أو دونه ـ بدون إذن المشفوع إليه، ويقبل المشفوع إليه ولا بد شفاعته إما لرغبته إليه، أو فيما عنده من قوة أو سبب ينفعه به أو يدفع عنه ما يخشاه، وإما لرهبته منه، وإما لمحبته إياه، وإما للمعاوضة بينهما والمعاونة، وإما لغير ذلك من الأسباب‏.‏
وتكون شفاعة الشفيع هى التى حَرَّكَت إرادة المشفوع إليه، وجعلته مريداً للشفاعة، بعد أن لم يكن مريداً لها، كأمر الآمر الذى يؤثر في المأمور،فيفعل ما أمره به بعد أن لم يكن مريداً لفعله‏.‏
وكذلك سؤال المخلوق للمخلوق، فإنه قد يكون محركا له إلى فعل ما سأله‏.‏
فالشفيع كما أنه شافع للطالب شفاعته فى الطلب، فهو أيضاً قد شفع المشفوع إليه، فبشفاعته صار المشفوع إليه فاعلا للمطلوب، فقد شفع الطالب والمطلوب‏.‏
واللّه تعـالى وِتْر، لا يشفعه أحد، فلا يشـفع عنده أحـد إلا بإذنه، فالأمر كله إليه وحده، فلا شريك له بوجه، ولهذا ذكر ـ سبحانه ـ نفى ذلك فى آية الكرسى، التى فيها تقرير التوحيد، فقال‏:‏ ‏{‏لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏
وسيد الشفعاء صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، إذا سجد وحمد ربه، يقال له‏:‏ ‏(‏ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فيحد له حداً، فيدخلهم الجنة‏)‏‏.‏ فالأمر كله للّه، كما قال‏:‏‏{‏قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏154‏]‏،وقال لرسوله‏:‏‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 128‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏54‏]‏‏.‏
فإذا كان لا يشفع عند اللّه أحد إلا بإذنه، فهو يأذن لمن يشاء، ولكن يكرم الشفيع بقبول الشفاعة، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح‏:‏‏(‏اشفعوا تؤجروا، ويقضى اللّه على لسان نبيه ما شاء‏)‏‏.‏
وإذا دعاه الداعى، وشفع عنده الشفيع، فسمع الدعاء، وقبل الشفاعة لم يكن هذا مؤثراً فيه، كما يؤثر المخلوق فى المخلوق؛ فإنه ـ سبحانه ـ هو الذى جعل هذا يدعو وهذا يشفع، وهو الخالق لأفعال العباد، فهو الذى وفق العبد للتوبة ثم قبلها وهو الذى وفقه للعمل ثم أثابه عليه، وهو الذى وفقه للدعاء ثم أجابه، فما يؤثر فيه شىء من المخلوقات، بل هو ـ سبحانه ـ الذى جعل ما يفعله سبباً لما يفعله‏.‏
وهذا مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر، وأن اللّه خالق كل شىء و أنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يكون شىء إلا بمشيئته، وهو خالق أفعال العباد، كما هو خالق سائر المخلوقات‏.‏ قال يحيى بن سعيد القطان‏:‏ ما زلت أسمع أصحابنا يقولون‏:‏ إن اللّه خالق أفعال العباد‏.‏
ولكن هذا يناقض قول القَدَريِة، فإنهم إذا جعلوا العبد هو الذى يحدث، ويخلق أفعاله بدون مشيئة اللّه وخلقه، لزمهم أن يكون العبد قد جعل ربه فاعلاً لما لم يكن فاعلاً له، فبدعائه جعله مجيباً له وبتوبته جعله قابلا للتوبة، وبشفاعته جعله قابلا للشفاعة‏.‏
وهذا يشبه قول من جعل المخلوق يشفع عند الله بغير إذنه‏.‏
فإن ‏(‏الإذن‏)‏ نوعان‏:‏ إذن بمعنى المشيئة والخلق، وإذن بمعنى الإباحة والإجازة‏.‏
فمن الأول‏:‏ قوله فى السحر‏:‏‏{‏وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏ فإن ذلك بمشيئة الله تعالى وقدرته، وإلا فهو لم يبح السحر‏.‏
والقدرية تنكر هذا ‏(‏الإذن‏)‏‏.‏ وحقيقة قولهم‏:‏ إن السحر يضر بدون إذن اللّه‏.‏
وكذلك قوله‏:‏‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏166‏]‏،فإن الذى أصابهم من القتل والجراح والتمثيل والهزيمة، إذا كان بإذنه فهو خالق لأفعال الكفار ولأفعال المؤمنين‏.‏
والنوع الثانى‏:‏ قوله‏:‏‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏45، 46‏]‏،وقوله‏:‏ ‏{‏مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏5‏]‏، فإن هذا يتضمن إباحته لذلك، وإجازته له، ورفع الجُنَاح والحَرَج عن فاعله، مع كونه بمشيئته وقضائه‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، هو هذا الإذن الكائن بقدره وشرعه، ولم يرد بمجرد المشيئة والقدر؛ فإن السحر وانتصار الكفار على المؤمنين كان بذلك الإذن‏.‏
فمن جعل العباد يفعلون أفعالهم بدون أن يكون اللّه خالقاً لها، وقادراً عليها، ومشيئاً لها، فعنده كل شافع وداع قد فعل ما فعل بدون خلق الله وقدرته، وإن كان قد أباح الشفاعة‏.‏
وأما الكفر، والسحر، وقتال الكفار، فهو عندهم بغير إذنه، لا هذا الإذن ولا هذا الإذن؛ فإنه لم يبح ذلك باتفاق المسلمين‏.‏ وعندهم‏:‏ أنه لم يشأه ولم يخلقه، بل كان بدون مشيئته وخلقه‏.‏
والمشركون المقرون بالقدر يقولون‏:‏ إن الشفعاء يشفعون بالإذن القَدَرِى، وإن لم يإذن لهم إباحة وجوازاً‏.‏
ومن كان مكذباً بالقدر ـ مثل كثير من النصارى ـ يقولون‏:‏ إن شفاعة الشفعاء بغير إذن، لا قَدَرِى ولا شرعى‏.‏
والقدرية من المسلمين يقولون‏:‏ يشفعون بغير إذن قدرى ‏.‏
ومن سأل اللّه بغير إذنه الشرعى، فقد شفع عنده بغير إذن قدرى ولا شرعي‏.‏
فالداعى المأذون له فى الدعاء مؤثر فى الله عندهم، لكن بإباحته‏.‏
والداعى غير المأذون له، إذا أجاب دعاءه، فقد أثر فيه عندهم لا بهذا الإذن ولا بهذا الإذن،كدعاء بلعام بن باعوراء وغيره، والله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏
فإن قيل‏:‏ فمن الشفعاء من يشفع بدون إذن اللّّه الشرعى، وإن كان خالقاً لفعله ـ كشفاعة نوح لابنه، وشفاعة إبراهيم لأبيه، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعبد اللّه بن أبّى بن سلول، حين صلى عليه بعد موته ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ قد قلتم‏:‏ إنه يعم النوعين، فإنه لو أراد الإذن القدرى لكان كل شفاعة داخلة فى ذلك كما يدخل فى ذلك كل كفر وسحر‏.‏ ولم يكن فرق بين ما يكون بإذنه، وما لا يكون بإذنه، ولو أراد الإذن الشرعى فقط، لزم قول القدرية، وهؤلاء قد شفعوا بغير إذن شرعى‏؟‏
قيل‏:‏ المنفى من الشفاعة بلا إذن هى الشفاعة التامة، وهى المقبولة، كما فى قول المصلى‏:‏‏(‏سمع اللّه لمن حمده‏)‏ أى‏:‏ استجاب له، وكما فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏2‏]‏، وقوله ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏45‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏45‏]‏، ونحو ذلك‏.‏
فإن الهدى، والإنذار، والتذكير، والتعليم، لابد فيه من قبول المتعلم، فإذا تعلم حصل له التعليم المقصود، وإلا قيل‏:‏ علمته فلم يتعلم، كما قيل‏:‏‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏17‏]‏، فكذلك الشفاعة‏.‏
فالشفاعة مقصودها قبول المشفوع إليه، وهى الشفاعة التامة، فهذه هى التى لا تكون إلا بإذنه، وأما إذا شفع شفيع فلم تقبل شفاعته كانت كعدمها، وكان على صاحبها التوبة والاستغفار منها، كما قال نوح‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏47‏]‏، وكما نهى الله تعالى النبى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين، وقال له‏:‏‏{‏وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏84‏]‏، وقال له‏:‏ ‏{‏سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏6‏]‏، ولهذا قال على لسان المشركين‏:‏ ‏{‏فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 100، 101‏]‏‏.‏
فالشفاعة المطلوبة هى شفاعة المطاع الذى تقبل شفاعته، وهذه ليست لأحد عند الله تعالى إلا بإذنه قدراً وشرعا، فلابد أن يأذن فيها، ولابد أن يجعل العبد شافعا، فهو الخالق لفعله،والمبيح له، كما فى الداعى هو الذى أمره بالدعاء، وهو الذى يجعل الداعى داعياً، فالأمر كله للّه، خلقاً وأمراً، كما قال‏:‏ ‏{‏أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏54‏]‏‏.‏
وقد روى فى حديث ـ ذكره ابن أبى حاتم وغيره ـ أنه قال‏:‏ ‏(‏فمن يثق به، فليدعه‏)‏ أى‏:‏ فلم يبق لغيره لا خلق ولا أمر‏.‏
ولما كان المراد الشفاعة المثبتة هى الشفاعة المطلقة، وهى المقصود بالشفاعة وهى المقبولة، بخلاف المردودة، فإن أحداً لا يريدها، لا الشافع ولا المشفوع له، ولا المشفوع إليه، ولو علم الشافع والمشفوع له أنها ترد لم يفعلوها‏.‏ والشفاعة المقبولة هى النافعة، بين ذلك فى مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏23‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏109‏]‏، فنفى الشفاعة المطلقة وبين أن الشفاعة لا تنفع عنده إلا لمن أذن له، وهو الإذن الشرعى، بمعنى‏:‏ أباح له ذلك وأجازه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏39‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏53‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏58‏]‏، ونحو ذلك‏.‏
وقوله‏:‏‏{‏إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ هو إذن للمشفوع له فلا يأذن فى شفاعة مطلقة لأحد، بل إنما يأذن فى أن يشفعوا لمن أذن لهم فى الشفاعة فيه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏108، 109‏]‏، وفيه قولان‏:‏
قيل‏:‏ إلا شفاعة من أذن له الرحمن‏.‏
وقيل‏:‏ لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن، فهو الذى تنفعه الشفاعة‏.‏
وهذا هو الذى يذكره طائفة من المفسرين، لا يذكرون غيره؛ لأنه لم يقل‏:‏ ‏(‏لا تنفع إلا من أذن له‏)‏ ولا قال‏:‏‏(‏لا تنفع الشفاعة إلا فيمن أذن له‏)‏، بل قال‏:‏ ‏{‏لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ فهى لا تنفع ولا ينتفع بها، ولا تكون نافعة إلا للمأذون لهم، كما قال تعالى فى الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 23‏]‏‏.‏
ولا يقال‏:‏ لا تنفع إلا لشفيع مأذون له، بل لو أريد هذا، لقيل‏:‏ لا تنفع الشفاعة عنده إلا من أذن له، وإنما قال‏:‏ ‏{‏لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ وهو المشفوع له، الذى تنفعه الشفاعة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ‏}‏ لم يعد إلى ‏(‏الشفعاء‏)‏ بل عاد إلى المذكورين فى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ‏}‏ ثم بين أن هذا منتف ‏{‏حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 22، 23‏]‏، فلا يعلمون ماذا قال، حتى يفزع عن قلوبهم فكيف يشفعون بلا إذنه‏؟‏
وهو ـ سبحانه ـ إذا أذن للمشفوع له فقد أذن للشافع‏.‏
فهذا الإذن هو الإذن المطلق، بخلاف ما إذا أذن للشافع فقط؛ فإنه لا يلزم أن يكون قد أذن للمشفوع له، إذ قد يأذن له إذناً خاصاً‏.‏
وهكذا قال غير واحد من المفسرين‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا يدل على أن الشفاعة لا تنفع إلا المؤمنين، وكذلك قال السلف فى هذه الآية‏.‏