فصــل في أن المؤمن على أمر من الله
 
فصــل
وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ‏}‏ ـ كما تقدم هو ـ كقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 57‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏14‏]‏،وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّه‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 22‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏
/ فإن هذا النوع يبين أن المؤمن على أمر من الله، فاجتمع في هذا اللفظ حرف الاستعلاء، وحرف ‏(‏من‏)‏ لابتداء الغاية، وما يستعمل فيه حرف ابتداء الغاية فيقال‏:‏ هو من الله على نوعين، فإنه إما أن يكون من الصفات التي لا تقوم بنـفسها، ولا بمخلوق، فهذا يكون صفة له، وما كان عينًا قائمة بنفسها، أو بمخلوق فهي مخلوقة‏.‏
فالأول‏:‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏13‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏114‏]‏،كما قال السلف‏:‏القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود‏.‏
والنـوع الثاني‏:‏ كقـولـه‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 13‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 53‏]‏، و ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏، وكما يقال‏:‏ إلهام الخير وإيحاؤه من الله، وإلهام الشر وإيحاؤه من الشيطان، والوسوسة من الشيطان، فهذا نوعان‏:‏
تارة يضاف باعتبار السبب، وتارة باعتبار العاقبة والغاية‏.‏ فالحسنات‏:‏ هي النعم، والسيئات‏:‏ هي المصائب كلها من عند الله، لكن تلك الحسنات أنعم الله بها على العبد، فهي منـه، إحسانًا وتفضـلاً، وهـذه عقـوبة ذنب مـن نفس العـبد، فهي مـن نفسه باعتبار أن عمله السيئ كان / سببها، وهي عقوبة له؛ لأن النفس أرادت تلك الذنوب ووسوست بها‏.‏
وتـارة يقال باعتبار حسنات العمـل وسيئاته،وما يلقي في القلب من التصورات والإرادات، فيقال للحق‏:‏ هو من الله ألهمه العبد‏.‏ ويقال للباطل‏:‏ إنه من الشيطان وسوس به، ومن النفس ـ أيضًا؛ لأنها إرادته، كما قال عمر وابن عمر وابن مسعود ـ فيما قالوه باجتهادهم ـ‏:‏ إن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمنا ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه‏.‏
وهذا لفظ ابن مسعود ـ في حديث بروع بنت واشق، قال ـ ‏:‏ إن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ؛ لأنه حكم بحكم‏.‏ فإن كان موافقًا لحكم الله فهو من الله؛ لأنه موافق لعلمه وحكمه، فهو منه باعتبار أنه ـ سبحانه ـ ألهمه عبده لم يحصل بتوسط الشيطان والنفس، وإن كان خطأ فالشيطان وسوس به، والنفس أرادته ووسوست به، وإن كان ذلك مخلوقًا فيه، والله خلقه فيه، لكن الله لم يحكم به، وإن لم يكن ما وقع لي من إلهام الملَك كما قال ابن مسعود ‏:‏ إن للملك بقلب ابن آدم لمة ، وللشيطان لمة؛ فلَمَّة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق، ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق فالتصديق من باب الخبر والإيعاد بالخبر، والشر من باب الطلب والإرادة ‏.‏ قال تعالي‏:‏ ‏{‏الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 268‏]‏‏.‏
فهذه حسنات العمل من الله ـ عز وجل ـ بهذين الاعتبارين‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه يأمر بها ويحبها، وإذا كانت خيرًا فهو يصدقها ويخبر بها، فهي من علمه وحكمه، وهي ـ أيضًا ـ من إلهامه لعبده وإنعامه عليه، لم تكن بواسطة النفس والشيطان؛ فاختصت بإضافتها إلى الله مـن جهة أنها من علمه وحكمه، وإن النازل بها إلى العبد ملك، كما اختص القرآن بأنه منه كلام، وقرآن مسيلمة بأنه من الشيطان، فإن ما يلقيه الله في قلوب المؤمنين من الإلهامات الصادقة العادلة، هي من وحي الله، وكذلك ما يريهم إياه في المنام، قال عُبَادة بن الصامت‏:‏ رُؤْيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في منامه، وقال عمر‏:‏ اقتربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون، فإنهم يتجلي لهم أمور صادقة، وقد قال تعالي‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏111‏]‏، ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏7‏]‏، ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏15‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 8‏]‏، على قول الأكثرين، وهو أن المراد‏:‏ أنه ألهم الفاجرة فجورها، والتقية تقواها، فالإلهام عنده هو البيان بالأدلة السمعية والعقلية‏.‏
وأهل السنة يقولون‏:‏ كلا النوعين من الله، هذا الهدي المشترك / وذاك الهدي المختص، وإن كان قد سماه إلهامًا كما سماه هدي، كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏17‏]‏، وكذلك قد قيل في قوله‏:‏ ‏{‏وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏10‏]‏ أي‏:‏ بينا له طريق الخير والشر، وهو هدي البيان العام المشترك، وقيل‏:‏ هدينا المؤمن لطريق الخير، والكافر لطريق الشر؛ فعلى هذا يكون قد جعل الفجور هدي، كما جعل أولئك البيان إلهامًا‏.‏
وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 3‏]‏، قيل‏:‏هو الهدي المشترك، وهو أنه بين له الطريق التي يجب سلوكها،والطريق التي لا يجب سلوكها، وقيل‏:‏ بل هـدي كـلا مـن الطائفتين إلى مـا سلكه مـن السبيل ‏{‏إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا‏}‏‏.‏
لكن تسمية هذا هدي قد يعتذر عنه بأنه هدي مقيد لا مطلق، كما قال‏:‏ ‏{‏فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏21‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{‏يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏51‏]‏، وأنه ‏{‏يَقُولُ الْحَقَّ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏ و ‏{‏يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏90‏]‏ فهو موافق لقوله وأمره لعلمه وحكمه، كما أن القرآن وسائر كلامه كذلك، وباعتبار أنه أنعم على العبد بواسطة جنده بالملائكة‏.‏
ويقال لضد هذا ـ وهو الخطأ ـ‏:‏ هذا من الشيطان والنفس؛ لأن الله لا يقوله ولا يأمر به؛ ولأنه إنما يَنْكُتُه في قلب الإنسان / الشيطان، ونفسه تقبله من الشيطان، فإنه يزين لها الشيء فتطيعه فيه، وليس كل ما كان من الشيطان يعاقب عليه العبد، ولكن يفوته به نوع من الحسنات كالنسيان، فإنه من الشيطان، والاحتلام من الشيطان، والنعاس عند الذكر والصلاة من الشيطان، والصعق عند الذكر من الشيطان، ولا إثم على العبد فيما غلب عليه، إذا لم يكن ذلك بقصد منه أو بذنب‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏57‏]‏ وشبهها ـ مما تقدم ذكره ـ من هذا الباب، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 3‏]‏،فإن المؤمنين على تصديق ما أخبر الله به،وفعل ما أمر الله ابتداء وتبليغًا كالقرآن، وقد قال‏:‏‏(‏إن الله أنزل الأمانة في جَذْرِ قلوب الرجال‏)‏ فهي تنزل في قلوب المؤمنين من نوره وهداه، وهذه حسنات دينية وعلوم دينية حق نافعة في الدنيا والآخرة، وهو الإيمان الذي هو إفضال المنعم، وهو أفضل النعم‏.‏
وأما قوله‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏، فقد دخل في ذلك نعم الدنيا كلها، كالعافية والرزق، والنصر، وتلك حسنات يبتلي الله العبد بها، كما يبتليه بالمصائب، هل يشكر أم لا‏؟‏ وهل يصبر أم لا‏؟‏ كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 168‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏35‏]‏، ‏{‏فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ‏}‏ الآيات ‏[‏الفجر‏:‏15‏]‏‏.‏
/ وقد يقال في الشيء‏:‏ إنه من الله وإن كان مخلوقًا إذا كان مختصًا بالله، كآيات الأنبياء، كما قال لموسي‏:‏ ‏{‏فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 32‏]‏، وقلب العصا حية، وإخراج اليد بيضاء من غير سوء مخلوق لله، لكنه منه لأنه دل به وأرشد إلى صدق نبيه موسي، وهو تصديق منه وشهادة منه له بالرسالة والصدق، فصار ذلك من الله بمنزلة البينة من الله، والشهادة من الله، وليست هذه الآيات مما تفعله الشياطين والكهان، كما يقال‏:‏ هذه علامة من فلان، وهذا دليل من فلان، وإن لم يكن ذلك كلامًا منه‏.‏
وقد سمي موسي ذلك بينة من الله فقال‏:‏‏{‏قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏105‏]‏، فقوله‏:‏‏{‏بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ‏}‏‏.‏
وهذه البينة هنا حجة وآية، ودلالة مخلوقة تجري مجري شهادة الله وإخباره بكلامه، كالعلامة التي يرسل بها الرجل إلى أهله وكيله، قال سعيد بن جبير في الآية‏:‏ هي كالخاتم تبعث به، فيكون هذا بمنزلة قوله‏:‏ صدقوه فيما قال، أو أعطوه ما طلب‏.‏
فالقرآن والهدي منه، وهو من كلامه وعلمه وحكمه الذي هو قائم به غير مخلوق، وهذه الآيات دليل على ذلك، كما يكتب كلامه في / المصاحف، فيكون المراد المكتوب به الكلام يعرف به الكلام، قال تعالي‏:‏ ‏{‏قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 109‏]‏‏.‏
ولهذا يكون لهذه الآيات المعجزات حرمة، كالناقة وكالماء النابع بين أصابع النبي صلي الله عليه وسلم ونحو ذلك‏.‏ والله ـ سبحانه ـ أعلم‏.