تفسير قوله تعالى {قل ادعو الذين زعمتم من دونه}
 

وقال شيخ الإسلام ـ رَحِمَهُ الله‏:‏
في الكلام علي قوله تعالي‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ‏}‏ الآيتين ‏[‏الإسراء‏:‏56، 57‏]‏، لما ذكر أن من السلف من ذكر أنهم من الملائكة، ومنهم من ذكر أنهم من الإنس، ومنهم من ذكر أنهم من الجن‏.‏
لفظ السلف يذكرون جنس المراد من الآية علي التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله عن الخبز‏:‏ فيريه رغيفًا، والآية هنا قصد بها التعميم لكل ما يدعي من دون الله، فكل من دعا ميتًا أو غائبًا من الأنبياء والصالحين‏.‏ سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها، فقد تناولته هذه الآية كما تتناول من دعا الملائكة والجن، ومعلوم أن هؤلاء يكونون وسائط فيما يقدره الله بأفعالهم، ومع هذا فقد نهي عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، لا يرفعونه بالكلية، ولا يحولونه من موضع إلي موضع، أو من حال إلي حال، كتغيير صفته أو قدره؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْوِيلاً‏}‏ فذكر نكرة تعم أنواع التحويل‏.‏
/ وقال تعالي‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏6‏]‏، كان أحدهم إذا نزل بواد يقول‏:‏ أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه، فقالت الجن‏:‏ الإنس تستعيذ بنا، فزادوهم رهقًا، وقد نص الأئمة ـ كأحمد وغيره ـ علي أنه لا تجوز الاستعاذة بمخلوق، وهذا مما استدلوا به علي أن كلام الله غير مخلوق، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه استعاذ بكلمات الله، وأمر بذلك، فإذا كان لا يجوز ذلك؛ فلأن لا يجوز أن يقول‏:‏ أنت خير مستعاذ يستعاذ به أولي‏.‏ فالاستعاذة، والاستجارة، والاستغاثة‏:‏ كلها من نوع الدعاء، أو الطلب، وهي ألفاظ متقاربة‏.‏
ولما كانت الكعبة بيت الله الذي يدعي ويذكر عنده، فإنه ـ سبحانه ـ يستجار به هناك، وقد يستمسك بأستار الكعبة كما يتعلق المتعلق بأذيال من يستجير به، كما قال عمرو بن سعيد‏:‏ إن الحرم لا يعيذ عاصيا، ولا فارًا بدم، ولا فارًا بخربة‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏يعوذ عائذ بهذا البيت‏)‏‏.‏
والمقصود أن كثيرًا من الضالين يستغيثون بمن يحسنون به الظن، ولا يتصور أن يقضي لهم أكثر مطالبهم، كما أن ما تخبر به الشياطين من الأمور الغائبة يكذبون في أكثره، بل يصدقون في واحدة ويكذبون في أضعافها، ويقضون لهم حاجة واحدة ويمنعونهم أضعافها، / يكذبون فيما أخبروا به وأعانوا عليه، لإفساد حال الرجال في الدين والدنيا، ويكون فيه شبهة للمشركين، كما يخبر الكاهن ونحوه‏.‏
والله ـ سبحانه ـ جعل الرسول مبلغًا لأمره ونهيه ووعده ووعيده، وهؤلاء يجعلون الرسل والمشائخ يدبرون العالم بقضاء الحاجات وكشف الكربات، وليس هذا من دين المسلمين، بل النصاري تقول هذا في المسيح وحده بشبهة الاتحاد والحلول؛ ولهذا لم يقولوه في إبراهيم وموسي وغيرهم، مع أنهم في غاية الجهل في ذلك، فإن الآيات التي بعث بها موسي أعظم، ولو كان هذا ممكنًا لم يكن للمسيح خاصية به، بل موسي أحق‏.‏
ولهذا كنت أتنزل مع علماء النصاري إلي أن أطالبهم بالفرق بين المسيح وغيره من جهة الإلهية فلا يجدون فرقًا، بل أبين لهم أن ما جاء به موسي من الآيات أعظم، فإن كان حجة في دعوي الإلهية فموسي أحق، وأما ولادته من غير أب فهو يدل علي قدرة الخالق، لا علي أن المخلوق أفضل من غيره‏.‏