الْبَابُ الْخَامِسُ أَدَبُ النَّفْسِ :اعْلَمْ أَنَّ النَّفْسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى شِيَمٍ مُهْمَلَةٍ
 

بسم الله الرحمن الرحيم

َ اعْلَمْ أَنَّ النَّفْسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى شِيَمٍ مُهْمَلَةٍ، وَأَخْلاَقٍ مُرْسَلَةٍ، لاَ يَسْتَغْنِي مَحْمُودُهَا عَنْ التَّأْدِيبِ، وَلاَ يَكْتَفِي بِالْمُرْضِي مِنْهَا عَنْ التَّهْذِيبِ؛ لِأَنَّ لِمَحْمُودِهَا أَضْدَادًا مُقَابِلَةً يُسْعِدُهَا هَوًى مُطَاعٌ وَشَهْوَةٌ غَالِبَةٌ، فَإِنْ أَغْفَلَ تَأْدِيبَهَا تَفْوِيضًا إلَى الْعَقْلِ أَوْ تَوَكُّلًا عَلَى أَنْ تَنْقَادَ إلَى الاحْسَنِ بِالطَّبْعِ أَعْدَمَهُ التَّفْوِيضُ دَرَكَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَأَعْقَبَهُ التَّوَكُّلُ نَدَمَ الْخَائِبِينَ، فَصَارَ مِنْ الادَبِ عَاطِلًا، وَفِي صُورَةِ الْجَهْلِ دَاخِلًا؛ لِأَنَّ الادَبَ مُكْتَسَبٌ بِالتَّجْرِبَةِ، أَوْ مُسْتَحْسَنٌ بِالْعَادَةِ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ مُوَاضَعَةٌ. وَذَلِكَ لاَ يُنَالُ بِتَوْقِيفِ الْعَقْلِ وَلاَ بِالانْقِيَادِ لِلطَّبْعِ حَتَّى يُكْتَسَبَ بِالتَّجْرِبَةِ وَالْمُعَانَاةِ، وَيُسْتَفَادَ بِالدُّرْبَةِ وَالْمُعَاطَاةِ. ثُمَّ يَكُونُ الْعَقْلُ عَلَيْهِ قَيِّمًا وَزَكِيُّ الطَّبْعِ إلَيْهِ مُسَلِّمًا. وَلَوْ كَانَ الْعَقْلُ مُغْنِيًا عَنْ الادَبِ لَكَانَ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَدَبِهِ مُسْتَغْنِينَ، وَبِعُقُولِهِمْ مُكْتَفِينَ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الاخْلاَقِ}. وَقِيلَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ -: مَنْ أَدَّبَك ؟ قَالَ: مَا أَدَّبَنِي أَحَدٌ وَلَكِنِّي رَأَيْتُ جَهْلَ الْجَاهِلِ فَجَانَبْتُهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مَكَارِمَ الاخْلاَقِ وَمَحَاسِنَهَا وَصْلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَكُمْ، فَحَسْبُ الرَّجُلِ أَنْ يَتَّصِلَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِخُلُقٍ مِنْهَا. وَقَالَ أَزْدَشِيرُ بْنُ بَابَكَ: مِنْ فَضِيلَةِ الادَبِ أَنَّهُ مَمْدُوحٌ بِكُلِّ لِسَانٍ، وَمُتَزَيَّنٌ بِهِ فِي كُلِّ مَكَان، وَبَاقٍ ذِكْرُهُ عَلَى أَيَّامِ الزَّمَانِ. وَقَالَ مَهْبُودٌ: شُبِّهَ الْعَالِمُ الشَّرِيفُ الْقَدِيمُ الادَبِ بِالْبُنْيَانِ الْخَرَابِ الَّذِي كُلَّمَا عَلاَ سُمْكُهُ كَانَ أَشَدَّ لِوَحْشَتِهِ وَبِالنَّهْرِ الْيَابِسِ الَّذِي كُلَّمَا كَانَ أَعْرَضَ وَأَعْمَقَ كَانَ أَشَدَّ لِوُعُورَتِهِ، وَبِالارْضِ الْجَيِّدَةِ الْمُعَطَّلَةِ الَّتِي كُلَّمَا طَالَ خَرَابُهَا ازْدَادَ نَبَاتُهَا غَيْرَ الْمُنْتَفَعِ بِهِ الْتِفَافًا وَصَارَ لِلْهَوَامِّ مَسْكَنًا. وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ: مَا نَحْنُ إلَى مَا نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى حَوَاسِّنَا مِنْ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ بِأَحْوَجِ مِنَّا إلَى الادَبِ الَّذِي هُوَ لِقَاحُ عُقُولِنَا، فَإِنَّ الْحَبَّةَ الْمَدْفُونَةَ فِي الثَّرَى لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَطْلُعَ زَهْرَتُهَا وَنَضَارَتُهَا الا بِالْمَاءِ الَّذِي يَعُودُ إلَيْهَا مِنْ مُسْتَوْدَعِهَا. وَحَكَى الاصْمَعِيُّ رحمه الله تعالى أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ الْعَقْلُ بِلاَ أَدَبٍ كَالشَّجَرِ الْعَاقِرِ، وَمَعَ الادَبِ دِعَامَةٌ أَيَّدَ اللَّهُ بِهَا الالْبَابَ، وَحِلْيَةٌ زَيَّنَ اللَّهُ بِهَا عَوَاطِلَ الاحْسَابِ، فَالْعَاقِلُ لاَ يَسْتَغْنِي وَإِنْ صَحَّتْ غَرِيزَتُهُ، عَنْ الادَبِ الْمُخْرِجِ زَهْرَتُهُ، كَمَا لاَ تَسْتَغْنِي الارْضُ وَإِنْ عَذُبَتْ تُرْبَتُهَا عَنْ الْمَاءِ الْمُخْرِجِ ثَمَرَتُهَا.

وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الادَبُ صُورَةُ الْعَقْلِ فَصَوِّرْ عَقْلَك كَيْفَ شِئْتَ. وَقَالَ آخَرُ: الْعَقْلُ بِلاَ أَدَبٍ كَالشَّجَرِ الْعَاقِرِ، وَمَعَ الادَبِ كَالشَّجَرِ الْمُثْمِرِ. وَقِيلَ الادَبُ أَحَدُ الْمَنْصِبَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءُ: الْفَضْلُ بِالْعَقْلِ وَالادَبِ، لاَ بِالاصْلِ وَالْحَسَبِ؛ لِأَنَّ مَنْ سَاءَ أَدَبُهُ ضَاعَ نَسَبُهُ، وَمَنْ قَلَّ عَقْلُهُ ضَلَّ أَصْلُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الادَبَاءُ: ذَكِّ قَلْبَك بِالادَبِ كَمَا تُذَكَّى النَّارُ بِالْحَطَبِ، وَاِتَّخِذْ الادَبَ غُنْمًا، وَالْحِرْصَ عَلَيْهِ حَظًّا، يَرْتَجِيكَ رَاغِبٌ، وَيَخَافُ صَوْلَتَك رَاهِبٌ، وَيُؤَمِّلُ نَفْعَكَ، وَيُرْجَى عَدْلُك. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الادَبُ وَسِيلَةٌ إلَى كُلِّ فَضِيلَةٍ، وَذَرِيعَةٌ إلَى كُلِّ شَرِيعَةٍ.

وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ: الادَبُ يَسْتُرُ قَبِيحَ النَّسَبِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءُ فِيهِ: فَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِثْلَ الْعُقُولِ وَلاَ اكْتَسَبَ النَّاسُ مِثْلَ الادَبْ وَمَا كَرَمُ الْمَرْءِ الا التُّقَى وَلاَ حَسَبُ الْمَرْءِ الا النَّسَبْ وَفِي الْعِلْمِ زَيْنٌ لِأَهْلِ الْحِجَا وَآفَةُ ذِي الْحِلْمِ طَيْشُ الْغَضَبْ وَأَنْشَدَ الاصْمَعِيُّ رحمه الله: وَإِنْ يَكُ الْعَقْلُ مَوْلُودًا فَلَسْتُ أَرَى ذَا الْعَقْلِ مُسْتَغْنِيًا عَنْ حَادِثِ الادَبْ إنِّي رَأَيْتُهُمَا كَالْمَاءِ مُخْتَلِطًا بِالتُّرْبِ تَظْهَرُ مِنْهُ زَهْرَةُ الْعُشَبْ وَكُلُّ مَنْ أَخْطَأَتْهُ فِي مَوَالِدِهِ غَرِيزَةُ الْعَقْلِ حَاكَى الْبُهْمَ فِي الْحَسَبْ وَالتَّأْدِيبُ يَلْزَمُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا لَزِمَ الْوَالِدَ لِوَلَدِهِ فِي صِغَرِهِ. وَالثَّانِي مَا لَزِمَ الانْسَانَ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ نُشُوئِهِ وَكِبَرِهِ. فَأَمَّا التَّأْدِيبُ اللاَزِمُ لِلْأَبِ فَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ وَلَدَهُ بِمَبَادِئِ الادَابِ لِيَأْنَسَ بِهَا، وَيَنْشَأَ عَلَيْهَا، فَيَسْهُلَ عَلَيْهِ قَبُولُهَا عِنْدَ الْكِبْرِ لِاسْتِئْنَاسِهِ بِمَبَادِئِهَا فِي الصِّغَرِ؛ لِأَنَّ نُشُوءَ الصِّغَرِ عَلَى الشَّيْءِ يَجْعَلُهُ مُتَطَبِّعًا بِهِ.

وَمَنْ أُغْفِلَ تَأْدِيبُهُ فِي الصِّغَرِ كَانَ تَأْدِيبُهُ فِي الْكِبَرِ عَسِيرًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ {مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدَهُ نِحْلَةً أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ يُفِيدُهُ إيَّاهُ، أَوْ جَهْلٍ قَبِيحٍ يَكْفِهِ عَنْهُ وَيَمْنَعُهُ مِنْهُ}. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: بَادِرُوا بِتَأْدِيبِ الاطْفَالِ قَبْلَ تَرَاكُمِ الاشْغَالِ وَتَفَرُّقِ الْبَالِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: إنَّ الْغُصُونَ إذَا قَوَّمْتَهَا اعْتَدَلَتْ وَلاَ يَلِينُ إذَا قَوَّمْتَهُ الْخَشَبُ قَدْ يَنْفَعُ الادَبُ الاحْدَاثَ فِي صِغَرٍ وَلَيْسَ يَنْفَعُ عِنْدَ الشَّيْبَةِ الادَبُ وَقَالَ آخَرُ: يَنْشُو الصَّغِيرُ عَلَى مَا كَانَ وَالِدُهُ إنَّ الاصُولَ عَلَيْهَا تَنْبُتُ الشَّجَرُ وَأَمَّا الادَبُ اللاَزِمُ لِلْإِنْسَانِ عِنْدَ نُشُوئِهِ وَكِبَرِهِ فَأَدَبَانِ: أَدَبُ مُوَاضَعَةٍ وَاصْطِلاَحٍ، وَأَدَبُ رِيَاضَةٍ وَاسْتِصْلاَحٍ.

فَأَمَّا أَدَبُ الْمُوَاضَعَةِ وَالاصْطِلاَحِ فَيُؤْخَذُ تَقْلِيدًا عَلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ اصْطِلاَحُ الْعُقَلاَءِ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ اسْتِحْسَانُ الادَبَاءِ. وَلَيْسَ لِاصْطِلاَحِهِمْ عَلَى وَضْعِهِ تَعْلِيلٌ مُسْتَنْبَطٌ، وَلاَ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ دَلِيلٌ مُوجِبٌ، كَاصْطِلاَحِهِمْ عَلَى مُوَاضَعَاتِ الْخِطَابِ، وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى هَيْئَاتِ اللِّبَاسِ، حَتَّى إنَّ الانْسَانَ الانَ إذَا تَجَاوَزَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْهَا صَارَ مُجَانِبًا لِلْأَدَبِ، مُسْتَوْجِبًا لِلذَّمِّ. لِأَنَّ فِرَاقَ الْمَأْلُوفِ فِي الْعَادَةِ، وَمُجَانَبَةَ مَا صَارَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بِالْمُوَاضَعَةِ، مُفْضٍ إلَى اسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ بِالْعَقْلِ مَا لَمْ يَكُنْ لِمُخَالَفَتِهِ عِلَّةٌ ظَاهِرَةٌ وَمَعْنًى حَادِثٌ. وَقَدْ كَانَ جَائِزًا فِي الْعَقْلِ أَنْ يُوضَعَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَيَرَوْنَهُ حَسَنًا، وَيَرَوْنَ مَا سِوَاهُ قَبِيحًا، فَصَارَ هَذَا مُشَارِكًا لِمَا وَجَبَ بِالْعَقْلِ مِنْ حَيْثُ تَوَجُّهُ الذَّمِّ عَلَى تَارِكِهِ وَمُخَالِفًا لَهُ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ كَانَ جَائِزًا فِي الْعَقْلِ أَنْ يُوضَعَ عَلَى خِلاَفِهِ. وَأَمَّا أَدَبُ الرِّيَاضَةِ وَالاسْتِصْلاَحِ فَهُوَ مَا كَانَ مَحْمُولًا عَلَى حَالٍ لاَ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ بِخِلاَفِهَا، وَلاَ أَنْ تَخْتَلِفَ الْعُقَلاَءُ فِي صَلاَحِهَا وَفَسَادِهَا. وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَعْلِيلُهُ بِالْعَقْلِ مُسْتَنْبَطٌ، وَوُضُوحُ صِحَّتِهِ بِالدَّلِيلِ مُرْتَبِطٌ. وَلِلنَّفْسِ عَلَى مَا يَأْتِي مِنْ ذَلِكَ شَاهِدٌ أَلْهَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى إرْشَادًا لَهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: بَيَّنَ لَهَا مَا تَأْتِي مِنْ الْخَيْرِ وَتَذَرُ مِنْ الشَّرِّ. وَسَنَذْكُرُ تَعْلِيلَ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ، فَإِنَّهُ أَوْلَى بِهِ وَأَحَقُّ. فَأَوَّلُ مُقَدَّمَاتِ أَدَبِ الرِّيَاضَةِ وَالاسْتِصْلاَحِ أَنْ لاَ يَسْبِقَ إلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ، فَيَخْفَى عَنْهُ مَذْمُومُ شِيَمِهِ وَمَسَاوِئُ أَخْلاَقِهِ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ بِالشَّهَوَاتِ آمِرَةٌ، وَعَنْ الرُّشْدِ زَاجِرَةٌ.

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ النَّفْسَ لاَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: {أَعْدَى أَعْدَائِك نَفْسُك الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْك، ثُمَّ أَهْلُك، ثُمَّ عِيَالُك}. وَدَعَتْ أَعْرَابِيَّةٌ لِرَجُلٍ فَقَالَتْ: كَبَتَ اللَّهُ كُلَّ عَدُوٍّ لَك الا نَفْسَك. فَأَخَذَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ: قَلْبِي إلَى مَا ضَرَّنِي دَاعِي يُكْثِرُ أَسْقَامِي وَأَوْجَاعِي كَيْفَ احْتِرَاسِي مِنْ عَدُوِّي إذَا كَانَ عَدُوِّي بَيْنَ أَضْلاَعِي فَإِذَا كَانَتْ النَّفْسُ كَذَلِكَ فَحُسْنُ الظَّنِّ بِهَا ذَرِيعَةٌ إلَى تَحْكِيمِهَا، وَتَحْكِيمُهَا دَاعٍ إلَى سَلاَطَتِهَا وَفَسَادِ الاخْلاَقِ بِهَا. فَإِذَا صَرَفَ حُسْنَ الظَّنِّ عَنْهَا وَتَوَسَّمَهَا بِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ التَّسْوِيفِ وَالْمَكْرِ فَازَ بِطَاعَتِهَا، وَانْحَازَ عَنْ مَعْصِيَتِهَا.

وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: الْعَاجِزُ مَنْ عَجَزَ عَنْ سِيَاسَةِ نَفْسِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ سَاسَ نَفْسَهُ سَادَ نَاسَهُ. فَأَمَّا سُوءُ الظَّنِّ بِهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ اتِّهَامِ طَاعَتِهَا، وَرَدِّ مُنَاصَحَتِهَا. فَإِنَّ النَّفْسَ وَإِنْ كَانَ لَهَا مَكْرٌ يُرْدِي فَلَهَا نُصْحٌ يُهْدِي. فَلَمَّا كَانَ حُسْنُ الظَّنِّ بِهَا يُعْمِي عَنْ مَسَاوِئِهَا، كَانَ سُوءُ الظَّنِّ بِهَا يُعْمِي عَنْ مَحَاسِنِهَا. وَمَنْ عَمِيَ عَنْ مَحَاسِنِ نَفْسِهِ كَانَ كَمَنْ عَمِيَ عَنْ مَسَاوِئِهَا، فَلَمْ يَنْفِ عَنْهَا قَبِيحًا وَلَمْ يَهْدِ إلَيْهَا حَسَنًا.

وَقَدْ قَالَ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي التُّهْمَةِ لِنَفْسِهِ مُعْتَدِلًا، وَفِي حُسْنِ الظَّنِّ بِهَا مُقْتَصِدًا، فَإِنَّهُ إنْ تَجَاوَزَ مِقْدَارَ الْحَقِّ فِي التُّهْمَةِ ظَلَمَهَا فَأَوْدَعَهَا ذِلَّةَ الْمَظْلُومِينَ، وَإِنْ تَجَاوَزَ بِهَا الْحَقَّ فِي مِقْدَارِ حُسْنِ الظَّنِّ أَوْدَعَهَا تَهَاوُنَ الامَنِينَ، وَلِكُلِّ ذَلِكَ مِقْدَارٌ مِنْ الشُّغْلِ، وَلِكُلِّ شُغْلٍ مِقْدَارٌ مِنْ الْوَهْنِ، وَلِكُلِّ وَهْنٍ مِقْدَارٌ مِنْ الْجَهْلِ.

وَقَالَ الاحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ كَانَ لِغَيْرِهِ أَظْلَمَ، وَمَنْ هَدَمَ دِينَهُ كَانَ لِمَجْدِهِ أَهْدَمَ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ سُوءَ الظَّنِّ بِهَا أَبْلُغُ فِي صَلاَحِهَا، وَأَوْفَرُ فِي اجْتِهَادِهَا؛ لِأَنَّ لِلنَّفْسِ جَوْرًا لاَ يَنْفَكُّ الا بِالسَّخَطِ عَلَيْهَا، وَغُرُورًا لاَ يَنْكَشِفُ الا بِالتُّهْمَةِ لَهَا؛ لِأَنَّهَا مَحْبُوبَةٌ تَجُورُ إدْلالا وَتَغُرُّ مَكْرًا، فَإِنْ لَمْ يُسِئْ الظَّنَّ بِهَا غَلَبَ عَلَيْهِ جَوْرُهَا، وَتَمَوَّهَ عَلَيْهِ غُرُورُهَا فَصَارَ بِمَيْسُورِهَا قَانِعًا، وَبِالشُّبْهَةِ مِنْ أَفْعَالِهَا رَاضِيًا. وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ: مَنْ رَضِيَ عَنْ نَفْسِهِ أَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ. وَقَالَ كُشَاجِمُ: لَمْ أَرْضَ عَنْ نَفْسِي مَخَافَةَ سُخْطِهَا وَرِضَا الْفَتَى عَنْ نَفْسِهِ إغْضَابُهَا وَلَوْ أَنَّنِي عَنْهَا رَضِيتُ لَقَصَّرَتْ عَمَّا تَزِيدُ بِمِثْلِهِ آدَابُهَا وَتَبَيَّنَتْ آثَارَ ذَاكَ فَأَكْثَرَتْ عَذْلِي عَلَيْهِ فَطَالَ فِيهِ عِتَابُهَا وَقَدْ اُسْتُحْسِنَ قَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ الطَّائِيِّ: وَيُسِيءُ بِالاحْسَانِ ظَنًّا لاَ كَمَنْ هُوَ بِابْنِهِ وَبِشَعْرِهِ مَفْتُونُ فَلَمْ يَرَوْا إسَاءَةَ ظَنِّهِ بِالاحْسَانِ ذَمًّا وَلاَ اسْتِقْلاَلَ عِلْمِهِ لَوْمًا، بَلْ رَأَوْا ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْفَضْلِ وَأَبْعَثَ عَلَى الازْدِيَادِ فَإِذَا عَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ مَا تُجِنُّ، وَتَصَوَّرَ مِنْهَا مَا تُكِنُّ، وَلَمْ يُطَاوِعْهَا فِيمَا تُحِبُّ إذَا كَانَ غَيًّا، وَلاَ صَرَفَ عَنْهَا مَا تَكْرَهُ إذَا كَانَ رُشْدًا، فَقَدْ مَلَكَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي مِلْكِهَا، وَغَلَبَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي غَلْبِهَا.

وَقَدْ رَوَى أَبُو حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {الشَّدِيدُ مَنْ غَلَبَ نَفْسَهُ}. وَقَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إذَا عَصَتْكَ نَفْسُك فِيمَا كَرِهْتَ فَلاَ تُطِعْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ، وَلاَ يَغُرَّنَّك ثَنَاءٌ مَنْ جَهِلَ أَمْرَك. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مَنْ قَوِيَ عَلَى نَفْسِهِ تَنَاهَى فِي الْقُوَّةِ، وَمَنْ صَبَرَ عَنْ شَهْوَتِهِ بَالَغَ فِي الْمُرُوَّةِ. فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ نَفْسَهُ عِنْدَ مَعْرِفَةِ مَا أَكَنَّتْ، وَخِبْرَةِ مَا أَجَنَّتْ بِتَقْوِيمِ عِوَجِهَا وَإِصْلاَحِ فَسَادِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ {يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى يَعْرِفُ الانْسَانُ رَبَّهُ ؟ قَالَ إذَا عَرَفَ نَفْسَهُ}. ثُمَّ يُرَاعِي مِنْهَا مَا صَلُحَ وَاسْتَقَامَ مِنْ زَيْعٍ يَحْدُثُ عَنْ إغْفَالٍ، أَوْ مَيْلٍ يَكُونُ عَنْ إهْمَالٍ؛ لِيَتِمَّ لَهُ الصَّلاَحُ وَتَسْتَدِيمَ لَهُ السَّعَادَةُ، فَإِنَّ الْمُغَفَّلَ بَعْدَ الْمُعَانَاةِ ضَائِعٌ، وَالْمُهْمِلَ بَعْدَ الْمُرَاعَاةِ زَائِغٌ. وَسَنَذْكُرُ مِنْ أَحْوَالِ أَدَبِ الرِّيَاضَةِ وَالاسْتِصْلاَحِ فُصُولًا تَحْتَوِي عَلَى مَا يَلْزَمُ مُرَاعَاتُهُ مِنْ الاخْلاَقِ، وَيَجِبُ مُعَانَاتُهُ مِنْ الادَبِ، وَهِيَ سِتَّةُ فُصُولٍ مُتَفَرِّعَةٍ.