الْبَابُ الْخَامِسُ أَدَبُ النَّفْسِ :الْفَصْلُ الاوَّلُ: فِي مُجَانَبَةِ الْكِبْرِ وَالاعْجَابِ
 

بسم الله الرحمن الرحيم

َ لِأَنَّهُمَا يَسْلُبَانِ الْفَضَائِلَ، وَيُكْسِبَانِ الرَّذَائِلَ. وَلَيْسَ لِمَنْ اسْتَوْلَيَا عَلَيْهِ إصْغَاءٌ لِنُصْحٍ، وَلاَ قَبُولٌ لِتَأْدِيبٍ؛ لِأَنَّ الْكِبْرَ يَكُونُ بِالْمَنْزِلَةِ، وَالْعُجْبَ يَكُونُ بِالْفَضِيلَةِ. فَالْمُتَكَبِّرُ يُجِلُّ نَفْسَهُ عَنْ رُتْبَةِ الْمُتَعَلِّمِينَ، وَالْمُعْجَبُ يَسْتَكْثِرُ فَضْلَهُ عَنْ اسْتِزَادَةِ الْمُتَأَدِّبِينَ. فَلِذَلِكَ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْقَوْلِ فِيهِمَا بِإِبَانَةِ مَا يُكْسِبَانِهِ مِنْ ذَمٍّ، وَيُوجِبَانِهِ مِنْ لَوْمٍ. فَنَقُولُ: أَمَّا الْكِبْرُ فَيُكْسِبُ الْمَقْتَ وَيُلْهِي عَنْ التَّأَلُّفِ وَيُوغِرُ صُدُورَ الاخْوَانِ، وَحَسْبُك بِذَلِكَ سُوءًا عَنْ اسْتِقْصَاءِ ذَمِّهِ. وَلِذَلِكَ {قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ أَنْهَاك عَنْ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ وَالْكِبْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَحْتَجِبُ مِنْهُمَا}.

وَقَالَ أَزْدَشِيرُ بْنُ بَابَكَ: مَا الْكِبْرُ الا فَضْلُ حُمْقٍ لَمْ يَدْرِ صَاحِبُهُ أَيْنَ يَذْهَبُ بِهِ فَيَصْرِفُهُ إلَى الْكِبْرِ. وَمَا أَشْبَهَ مَا قَالَ بِالْحَقِّ. وَحُكِيَ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ نَظَرَ إلَى الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ يَسْحَبُهَا وَيَمْشِي الْخُيَلاَءَ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا هَذِهِ الْمِشْيَةُ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؟ فَقَالَ الْمُهَلَّبُ: أَمَا تَعْرِفُنِي ؟ فَقَالَ: بَلْ أَعْرِفُك، أَوَّلُك نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ، وَآخِرُك جِيفَةٌ قَذِرَةٌ، وَحَشْوُك فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ بَوْلٌ وَعَذِرَةٌ. فَأَخَذَ ابْنُ عَوْفٍ هَذَا الْكَلاَمَ فَنَظَمَهُ شِعْرًا فَقَالَ: عَجِبْتُ مِنْ مُعْجَبٍ بِصُورَتِهِ وَكَانَ بِالامْسِ نُطْفَةً مَذِرَهْ وَفِي غَدٍ بَعْدَ حُسْنِ صُورَتِهِ يَصِيرُ فِي اللَّحْدِ جِيفَةً قَذِرَهْ وَهُوَ عَلَى تِيهِهِ وَنَخْوَتِهِ مَا بَيْنَ ثَوْبَيْهِ يَحْمِلُ الْعَذِرَهْ وَقَدْ كَانَ الْمُهَلَّبُ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يَخْدَعَ نَفْسَهُ بِهَذَا الْجَوَابِ غَيْرِ الصَّوَابِ، وَلَكِنَّهَا زَلَّةٌ مِنْ زَلاَتِ الاسْتِرْسَالِ، وَخَطِيئَةٌ مِنْ خَطَايَا الادْلاَلِ. فَأَمَّا الْحُمْقُ الصَّرِيحُ، وَالْجَهْلُ الْقَبِيحُ، فَهُوَ مَا حُكِيَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ جَلَسَ فِي حَلْقَةِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخِرَقِيِّ وَهُوَ يُقْرِئُ النَّاسَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: أَتَدْرُونَ لِمَ جَلَسْتُ إلَيْكُمْ ؟ قَالُوا: جَلَسْتَ لِتَسْمَعَ. قَالَ: لاَ وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَتَوَاضَعَ لِلَّهِ بِالْجُلُوسِ إلَيْكُمْ. فَهَلْ يُرْجَى مِنْ هَذَا فَضْلٌ أَوْ يَنْفَعُ فِيهِ عَذَلٌ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ: لَمَّا عَرَفَ أَهْلُ النَّقْصِ حَالَهُمْ عِنْدَ ذَوِي الْكَمَالِ اسْتَعَانُوا بِالْكِبْرِ لِيُعَظِّمَ صَغِيرًا، وَيَرْفَعَ حَقِيرًا، وَلَيْسَ بِفَاعِلٍ.

وَأَمَّا الاعْجَابُ فَيُخْفِي الْمَحَاسِنَ وَيُظْهِرُ الْمَسَاوِئَ وَيُكْسِبُ الْمَذَامَّ وَيَصُدُّ عَنْ الْفَضَائِلِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ الْعُجْبَ لَيَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ}. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: الاعْجَابُ ضِدُّ الصَّوَابِ وَآفَةُ الالْبَابِ. وَقَالَ بَزَرْجَمْهَرُ: النِّعْمَةُ الَّتِي لاَ يُحْسَدُ صَاحِبُهَا عَلَيْهَا التَّوَاضُعُ، وَالْبَلاَءُ الَّذِي لاَ يُرْحَمُ صَاحِبُهُ مِنْهُ الْعُجْبُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: عُجْبُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِ. وَلَيْسَ إلَى مَا يُكْسِبُهُ الْكِبْرُ مِنْ الْمَقْتِ حَدٌّ، وَلاَ إلَى مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ الْعُجْبُ مِنْ الْجَهْلِ غَايَةٌ، حَتَّى إنَّهُ لَيُطْفِئَ مِنْ الْمَحَاسِنِ مَا انْتَشَرَ، وَيَسْلُبَ مِنْ الْفَضَائِلِ مَا اشْتَهَرَ. وَنَاهِيَك بِسَيِّئَةٍ تُحْبِطُ كُلَّ حَسَنَةٍ وَبِمَذَمَّةِ تَهْدِمُ كُلَّ فَضِيلَةٍ، مَعَ مَا يُثِيرُهُ مِنْ حَنَقٍ وَيُكْسِبُهُ مِنْ حِقْدٍ.

حَكَى عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: قِيلَ لِلْحَجَّاجِ كَيْفَ وَجَدْت مَنْزِلَك بِالْعِرَاقِ ؟ قَالَ: خَيْرُ مَنْزِلٍ لَوْ كَانَ اللَّهُ بَلَّغَنِي قَتْلَ أَرْبَعَةٍ فَتَقَرَّبْتُ إلَيْهِ بِدِمَائِهِمْ: مُقَاتِلُ بْنُ مُسْمِعٍ وَلِي سِجِسْتَانَ فَأَتَاهُ النَّاسُ فَأَعْطَاهُمْ الامْوَالَ، فَلَمَّا عُزِلَ دَخَلَ مَسْجِدَ الْبَصْرَةِ فَبَسَطَ النَّاسُ لَهُ أَرْدِيَتَهُمْ فَمَشَى عَلَيْهَا، وَقَالَ لِرَجُلٍ يُمَاشِيهِ: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ ظَبْيَانَ التَّيْمِيُّ خَوَّفَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ أَمْرٌ فَخَطَبَ خُطْبَةً أَوْجَزَ فِيهَا، فَنَادَى النَّاسُ مِنْ أَعْرَاضِ الْمَسْجِدِ: أَكْثَرَ اللَّهُ فِينَا مِثْلَك. فَقَالَ: لَقَدْ كَلَّفْتُمْ اللَّهَ شَطَطًا. وَمَعْبَدُ بْنُ زُرَارَةَ كَانَ ذَات يَوْمٍ جَالِسًا فِي طَرِيقٍ فَمَرَّتْ بِهِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ كَيْفَ الطَّرِيقُ إلَى مَوْضِعِ كَذَا ؟ فَقَالَ: يَا هَنَاهُ مِثْلِي يَكُونُ مِنْ عَبِيدِ اللَّهِ. وَأَبُو شِمَالٍ الاسَدِيُّ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ فَالْتَمَسَهَا النَّاسُ فَلَمْ يَجِدُوهَا، فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنْ لَمْ يَرُدَّ إلَيَّ رَاحِلَتِي لاَ صَلَّيْتُ لَهُ صَلاَةً أَبَدًا. فَالْتَمَسَهَا النَّاسُ فَوَجَدُوهَا، فَقَالُوا لَهُ: قَدْ رَدَّ اللَّهُ رَاحِلَتَك فَصَلِّ. فَقَالَ: إنَّ يَمِينِي يَمِينُ مُصِرٍّ. فَانْظُرْ إلَى هَؤُلاَءِ كَيْفَ أَفْضَيْ بِهِمْ الْعُجْبُ إلَى حُمْقٍ صَارُوا بِهِ نَكَالا فِي الاوَّلِينَ، وَمَثَلًا فِي الاخَرِينَ. وَلَوْ تَصَوَّرَ الْمُعْجَبُ الْمُتَكَبِّرُ مَا فُطِرَ عَلَيْهِ مِنْ جِبِلَّةٍ، وَبُلِيَ بِهِ مِنْ مِهْنَةٍ، لَخَفَضَ جَنَاحَ نَفْسِهِ وَاسْتَبْدَلَ لِينًا مِنْ عُتُوِّهِ، وَسُكُوتًا مِنْ نُفُورِهِ. وَقَالَ الاحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: عَجِبْتُ لِمَنْ جَرَى فِي مَجْرَى الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ كَيْفَ يَتَكَبَّرُ، وَقَدْ وَصَفَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ الانْسَانَ فَقَالَ: يَا مُظْهِرَ الْكِبْرِ إعْجَابًا بِصُورَتِهِ اُنْظُرْ خَلاَكَ فَإِنَّ النَّتْنَ تَثْرِيبُ لَوْ فَكَّرَ النَّاسُ فِيمَا فِي بُطُونِهِمْ مَا اسْتَشْعَرَ الْكِبْرَ شُبَّانٌ وَلاَ شِيبُ هَلْ فِي ابْنِ آدَمَ مِثْلُ الرَّأْسِ مَكْرُمَةً وَهُوَ بِخَمْسٍ مِنْ الاقْذَارِ مَضْرُوبُ أَنْفٌ يَسِيلُ وَأُذْنٌ رِيحُهَا سَهِكٌ وَالْعَيْنُ مُرْفَضَّةٌ وَالثَّغْرُ مَلْعُوبُ يَا ابْنَ التُّرَابِ وَمَأْكُولَ التُّرَابِ غَدًا أَقْصِرْ فَإِنَّك مَأْكُولٌ وَمَشْرُوبُ وَأَحَقُّ مَنْ كَانَ لِلْكِبْرِ مُجَانِبًا، وَلِلْإِعْجَابِ مُبَايِنًا، مَنْ جَلَّ فِي الدُّنْيَا قَدْرُهُ، وَعَظُمَ فِيهَا خَطَرُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَقِلُّ بِعَالِي هِمَّتِهِ كُلَّ كَثِيرٍ، وَيَسْتَصْغِرُ مَعَهَا كُلَّ كَبِيرٍ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: لاَ يَنْبَغِي لِلشَّرِيفِ أَنْ يَرَى شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا لِنَفْسِهِ خَطِيرًا فَيَكُونُ بِهَا نَابِهًا. وَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ لِعِيسَى بْنِ مُوسَى: تَوَاضُعُك فِي شَرَفِك أَشْرَفُ لَك مِنْ شَرَفِك. وَكَانَ يُقَالُ: اسْمَانِ مُتَضَادَّانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ: التَّوَاضُعُ وَالشَّرَفُ. وَلِلْكِبْرِ أَسْبَابٌ: فَمِنْ أَقْوَى أَسْبَابِهِ عُلُوُّ الْيَدِ، وَنُفُوذُ الامْرِ، وَقِلَّةُ مُخَالَطَةِ الاكْفَاءِ. وَحُكِيَ أَنَّ قَوْمًا مَشَوْا خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فَقَالَ: أَبْعِدُوا عَنِّي خَفْقَ نِعَالِكُمْ فَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِقُلُوبِ نَوْكَى الرِّجَالِ. وَمَشَوْا خَلْفَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ ارْجِعُوا فَإِنَّهَا زِلَّةٌ لِلتَّابِعِ وَفِتْنَةٌ لِلْمَتْبُوعِ. وَرَوَى قَيْسُ بْنُ حَازِمٍ {أَنَّ رَجُلًا أُتِيَ بِهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَصَابَتْهُ رِعْدَةٌ، فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم: هَوِّنْ عَلَيْك فَإِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ}. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ صلى الله عليه وسلم حَسْمًا لِمَوَادِّ الْكِبْرِ، وَقَطْعًا لِذَرَائِعِ الاعْجَابِ، وَكَسْرًا لِأَشَرِ النَّفْسِ، وَتَذْلِيلًا لِسَطْوَةِ الاسْتِعْلاَءِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ نَادَى الصَّلاَةُ جَامِعَةٌ فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَرْعَى عَلَى خَالاتِ لِي مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ فَيَقْبِضُ لِي الْقَبْضَةَ مِنْ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فَأَظَلُّ الْيَوْمَ وَأَيَّ يَوْمٍ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَاَللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا زِدْتَ عَلَى أَنْ قَصَّرْتَ بِنَفْسِك. فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: وَيْحَك يَا ابْنَ عَوْفٍ إنِّي خَلَوْت فَحَدَّثَتْنِي نَفْسِي، فَقَالَتْ أَنْتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَمَنْ ذَا أَفْضَلُ مِنْك فَأَرَدْتُ أَنْ أُعَرِّفَهَا نَفْسَهَا. وَلِلْإِعْجَابِ أَسْبَابٌ: فَمِنْ أَقْوَى أَسْبَابِهِ كَثْرَةُ مَدِيحِ الْمُتَقَرِّبِينَ وَإِطْرَاءِ الْمُتَمَلِّقِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا النِّفَاقَ عَادَةً وَمَكْسَبًا، وَالتَّمَلُّقَ خَدِيعَةً وَمَلْعَبًا، فَإِذَا وَجَدُوهُ مَقْبُولًا فِي الْعُقُولِ الضَّعِيفَةِ أَغْرَوْا أَرْبَابَهَا بِاعْتِقَادِ كَذِبِهِمْ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى الاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُزَكِّي رَجُلًا فَقَالَ لَهُ: قَطَعْتَ مَطَاهُ لَوْ سَمِعَهَا مَا أَفْلَحَ بَعْدَهَا}. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الْمَدْحُ ذَبْحُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ: قَابِلُ الْمَدْحِ كَمَادِحِ نَفْسِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ رَضِيَ أَنْ يُمْدَحَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَقَدْ أَمْكَنَ السَّاخِرَ مِنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إيَّاكُمْ وَالتَّمَادُحَ فَإِنَّهُ الذَّبْحُ إنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسَبُ وَلاَ أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا}. وَقِيلَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ: عَجِبْت لِمَنْ قِيلَ فِيهِ الْخَيْرُ وَلَيْسَ فِيهِ كَيْفَ يَفْرَحُ، وَعَجِبْت لِمَنْ قِيلَ فِيهِ الشَّرُّ وَهُوَ فِيهِ كَيْفَ يَغْضَبُ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: يَا جَاهِلًا غَرَّهُ إفْرَاطُ مَادِحِهِ لاَ يَغْلِبَنَّ جَهْلُ مَنْ أَطْرَاك عِلْمُك بِك أَثْنَى وَقَالَ بِلاَ عِلْمٍ أَحَاطَ بِهِ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِالْمَحْصُولِ مِنْ رِيَبِك وَهَذَا أَمْرٌ يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَضْبِطَ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَسْتَفِزَّهَا، وَيَمْنَعَهَا مِنْ تَصْدِيقِ الْمَدْحِ لَهَا، فَإِنَّ لِلنَّفْسِ مَيْلًا لِحُبِّ الثَّنَاءِ وَسَمَاعِ الْمَدْحِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: يَهْوَى الثَّنَاءَ مُبَرِّزٌ وَمُقَصِّرٌ حُبُّ الثَّنَاءِ طَبِيعَةُ الانْسَانِ فَإِذَا سَامَحَ نَفْسَهُ فِي مَدْحِ الصَّبْوَةِ، وَتَابَعَهَا عَلَى هَذِهِ الشَّهْوَةِ، تَشَاغَلَ بِهَا عَنْ الْفَضَائِلِ الْمَمْدُوحَةِ، وَلَهَا بِهَا عَنْ الْمَحَاسِنِ الْمَمْنُوحَةِ، فَصَارَ الظَّاهِرُ مِنْ مَدْحِهِ كَذِبًا، وَالْبَاطِنُ مِنْ ذَمِّهِ صِدْقًا، وَعِنْدَ تَقَابُلِهِمَا يَكُونُ الصِّدْقُ أَلْزَمَ الامْرَيْنِ. وَهَذِهِ خُدْعَةٌ لاَ يَرْتَضِيهَا عَاقِلٌ وَلاَ يَنْخَدِعُ بِهَا مُمَيِّزٌ. وَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْمُتَقَرِّبَ بِالْمَدْحِ يُسْرِفُ مَعَ الْقَبُولِ وَيَكُفُّ مَعَ الابَاءِ، فَلاَ يَغْلِبُهُ حُسْنُ الظَّنِّ عَلَى تَصْدِيقِ مَدْحٍ هُوَ أَعْرَفُ بِحَقِيقَتِهِ وَلْتَكُنْ تُهْمَةُ الْمَادِحِ أَغْلَبَ عَلَيْهِ. فَقَلَّ مَدْحٌ كَانَ جَمِيعُهُ صِدْقًا، وَقَلَّ ثَنَاءٌ كَانَ لَهُ حَقًّا. وَلِذَلِكَ كَرِهَ أَهْلُ الْفَضْلِ أَنْ يُطْلِقُوا أَلْسِنَتَهُمْ بِالثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ تَحَرُّزًا مِنْ التَّجَاوُزِ فِيهِ، وَتَنْزِيهًا عَنْ التَّمَلُّقِ بِهِ.

وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {لاَ تَكُونُوا عَيَّابِينَ وَلاَ تَكُونُوا لَعَّانِينَ وَلاَ مُتَمَادَحِينَ وَلاَ مُتَمَاوِتِينَ}. وَحَكَى الاصْمَعِيُّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه كَانَ إذَا مَدَحَ قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ أَعْلَمُ بِي مِنْ نَفْسِي، وَأَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْهُمْ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي خَيْرًا مِمَّا يَحْسَبُونَ وَاغْفِرْ لِي مَا لاَ يَعْلَمُونَ، وَلاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: إذَا الْمَرْءُ لَمْ يَمْدَحْهُ حُسْنُ فِعَالِهِ فَمَادِحُهُ يَهْذِي وَإِنْ كَانَ مُفْصِحَا وَرُبَّمَا آلَ حُبُّ الْمَدْحِ بِصَاحِبِهِ إلَى أَنْ يَصِيرَ مَادِحَ نَفْسِهِ، إمَّا لِتَوَهُّمِهِ أَنَّ النَّاسَ قَدْ غَفَلُوا عَنْ فَضْلِهِ، وَأَخَلُّوا بِحَقِّهِ. وَإِمَّا لِيَخْدَعَهُمْ بِتَدْلِيسِ نَفْسِهِ بِالْمَدْحِ وَالاطْرَاءِ، فَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ قَوْلَهُ حَقٌّ مُتَّبَعٌ، وَصِدْقٌ مُسْتَمَعٌ. وَإِمَّا لِتَلَذُّذِهِ بِسَمَاعِ الثَّنَاءِ وَسُرُورِ نَفْسِهِ بِالْمَدْحِ وَالاطْرَاءِ، مَا يَتَغَنَّى بِنَفْسِهِ طَرَبًا إذَا لَمْ يَسْمَعْ صَوْتًا مُطْرِبًا وَلاَ غِنَاءً مُمْتِعًا. وَلِأَيِّ ذَلِكَ كَانَ فَهُوَ الْجَهْلُ الصَّرِيحُ، وَالنَّقْصُ الْفَضِيحُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: وَمَا شَرَفٌ أَنْ يَمْدَحَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ وَلَكِنَّ أَعْمَالا تَذُمُّ وَتَمْدَحُ وَمَا كُلُّ حِينٍ يَصْدُقُ الْمَرْءُ ظَنُّهُ وَلاَ كُلُّ أَصْحَابِ التِّجَارَةِ يَرْبَحُ وَلاَ كُلُّ مَنْ تَرْجُو لِغَيْبِك حَافِظًا وَلاَ كُلُّ مَنْ ضَمَّ الْوَدِيعَةَ يَصْلُحُ وَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَسْتَرْشِدَ إخْوَانَ الصِّدْقِ الَّذِينَ هُمْ أَصْفِيَاءُ الْقُلُوبِ، وَمُرَائِي الْمَحَاسِنِ وَالْعُيُوبِ، عَلَى مَا يُنَبِّهُونَهُ عَلَيْهِ مِنْ مَسَاوِئِهِ الَّتِي صَرَفَهُ حَسَنُ الظَّنِّ عَنْهَا. فَإِنَّهُمْ أَمْكَنُ نَظَرًا، وَأَسْلَمُ فِكْرًا، وَيَجْعَلُونَ مَا يُنَبِّهُونَهُ عَلَيْهِ مِنْ مَسَاوِئِهِ عِوَضًا عَنْ تَصْدِيقِ الْمَدْحِ فِيهِ. وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ إذَا رَأَى فِيهِ عَيْبًا أَصْلَحَهُ}.

وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَهْدَى إلَيْنَا مَسَاوِئَنَا. وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: أَتُحِبُّ أَنْ تُهْدَى إلَيْك عُيُوبُك ؟ قَالَ: نَعَمْ، مِنْ نَاصِحٍ. وَمِمَّا يُقَارِبُ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: مَنْ تَرَى أَنْ نُوَلِّيَهُ حِمْصَ ؟ فَقَالَ: رَجُلًا صَحِيحًا مِنْك، صَحِيحًا لَك. قَالَ: تَكُونُ أَنْتَ ذَلِكَ الرَّجُلَ. قَالَ: لاَ تَنْتَفِعُ بِي مَعَ سُوءِ ظَنِّي بِك وَسُوءِ ظَنِّك بِي. وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: مَنْ أَظْهَرَ عَيْبَ نَفْسِهِ فَقَدْ زَكَّاهَا. فَإِذَا قَطَعَ أَسْبَابَ الْكِبْرِ وَحَسَمَ مَوَادَّ الْعُجْبِ اعْتَاضَ بِالْكِبْرِ تَوَاضُعًا وَبِالْعُجْبِ تَوَدُّدًا. وَذَلِكَ مِنْ أَوْكَدَ أَسْبَابِ الْكَرَامَةِ وَأَقْوَى مَوَادِّ النِّعَمِ وَأَبْلَغِ شَافِعٍ إلَى الْقُلُوبِ يَعْطِفُهَا إلَى الْمَحَبَّةِ وَيُثْنِيهَا عَنْ الْبُغْضِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ بَرِئَ مِنْ ثَلاَثٍ نَالَ ثَلاَثًا: مَنْ بَرِئَ مِنْ السَّرَفِ نَالَ الْعِزَّ. وَمَنْ بَرِئَ مِنْ الْبُخْلِ نَالَ الشَّرَفَ. وَمَنْ بَرِئَ مِنْ الْكِبْرِ نَالَ الْكَرَامَةَ.

وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ: التَّوَاضُعُ مَصَائِدُ الشَّرَفِ. وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: مَنْ دَامَ تَوَاضُعُهُ كَثُرَ صَدِيقُهُ. وَقَدْ تُحْدِثُ الْمَنَازِلُ وَالْوِلاَيَاتُ لِقَوْمٍ أَخْلاَقًا مَذْمُومَةً يُظْهِرُهَا سُوءُ طِبَاعِهِمْ، وَلِآخَرِينَ فَضَائِلَ مَحْمُودَةً يَبْعَثُ عَلَيْهَا زَكَاءُ شِيَمِهِمْ؛ لِأَنَّ تَقَلُّبَ الاحْوَالِ سَكَرَةٌ تُظْهِرُ مِنْ الاخْلاَقِ مَكْنُونَهَا، وَمِنْ السَّرَائِرِ مَخْزُونَهَا، لاَ سِيَّمَا إذَا هَجَمَتْ مِنْ غَيْرِ تَدْرِيجٍ وَطَرَقَتْ مِنْ غَيْرِ تَأَهُّبٍ.

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: فِي تَقَلُّبِ الاحْوَالِ تُعْرَفُ جَوَاهِرُ الرِّجَالِ. وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ: مَنْ كَانَتْ وِلاَيَتُهُ فَوْقَ قُدْرَةٍ تَكَبَّرَ لَهَا، وَمَنْ كَانَتْ وِلاَيَتُهُ دُونَ قُدْرَةٍ تَوَاضَعَ لَهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: النَّاسُ فِي الْوِلاَيَةِ رَجُلاَنِ: رَجُلٌ يُجِلُّ الْعَمَلَ بِفَضْلِهِ وَمُرُوءَتِهِ، وَرَجُلٌ يَجِلُّ بِالْعَمَلِ لِنَقْصِهِ وَدَنَاءَتِهِ. فَمَنْ جَلَّ عَنْ عَمَلِهِ ازْدَادَ بِهِ تَوَاضُعًا وَبِشْرًا، وَمَنْ جَلَّ عَنْهُ عَمَلُهُ ازْدَادَ بِهِ تَجَبُّرًا وَتَكَبُّرًا.