فصـــل في تفسير قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم} ـ تتمة
 

وأما حفظ جميع القرآن وفهم جميع معانيه ومعرفة جميع السنة فلا يجب على كل أحد، لكن يجب على العبد أن يحفظ من القرآن ويعلم معانيه ويعرف من السنة ما يحتاج إليه، وهل يجب عليه أن يسمع جميع القرآن‏؟‏ فيه خلاف، ولكن هذه المعرفة الحكمية التى تجب على كل عبد ليس هو علم الكتاب والحكمة التى علمها النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه وأمته، بل ذلك لا يكون إلا بمعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله من الألفاظ والمعانى والأفعال والمقاصد، ولا يجب هذا على كل أحد‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 32‏]‏، دليل على أن الزكاة هى التقوى، والتقوى تنتظم الأمرين جميعًا، بل ترك السيئات مستلزم لفعل الحسنات؛ إذ الإنسان حارث هُمَام، ولا يدع إرادة السىئات وفعلها إلا بإرادة الحسنات وفعلها، إذ النفس لا تخلو عن الإرادتين جميعًا، بل الإنسان بالطبع مريد فعال، وهذا دليل على أن هذا يكون سببه / الزكاة والتقوى التى بها يستحق الإنسان الجنة، كما فى صحيح البخارى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من تكفل لى بحفظ ما بين لحييه ورجليه أتكفل له بالجنة‏)‏‏.‏
ومن تزكى فقد أفلح فيدخل الجنة، والزكاة متضمنة حصول الخير وزوال الشر، فإذا حصل الخير وزال الشر ـ من العلم والعمل ـ حصل له نور وهدى ومعرفة وغير ذلك، والعمل يحصل له محبة وإنابة وخشية وغير ذلك‏.‏ هذا لمن ترك هذه المحظورات وأتى بالمأمورات ويحصل له ذلك ـ أيضًا ـ قدرة وسلطانًا، وهذه صفات الكمال‏:‏ العلم، والعمل، والقدرة، وحسن الإرادة، وقد جاءت الآثار بذلك، وأنه يحصل لمن غض بصره نور فى قلبه ومحبة، كما جرب ذلك العالمون العاملون‏.‏ وفى مسند أحمد حدثنا عَتَّابَ عن عبد الله ـ وهو ابن المبارك ـ أنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زَحْر، عن على بن يزيد، عن القاسم، عن أبى أمامة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها‏)‏‏.‏
ورواه أبو بكر ابن الأنبارى فى أماليه من حديث ابن أبى مريم، عن يحيى بن أيوب به، ولفظه‏:‏ ‏(‏من نظر إلى امرأة فغض بصره عند أول دفعة رزقه الله عبادة يجد حلاوتها‏)‏‏.‏وقد رواه أبو نعيم فى الحلية ‏:‏ / حدثنا أبى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، حدثنا محمد ابن يعقوب‏:‏ قال‏:‏ حدثنا أبو اليمان، حدثنا أبو مهدى سعيد بن سنان، عن أبى الزاهِرَّية، عن كُثَير بن مُرَّةَ، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏النظرة الأولى خطأ، والثانية عمد، والثالثة تدبر، نظر المؤمن إلى محاسن المرأة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركه خشية الله ورجاء ما عنده أثابه الله ـ تعالى ـ بذلك عبادة تبلغه لذتها‏)‏، رواه أبو جعفر الخرائطى فى كتاب ‏(‏اعتلال القلوب‏)‏ ثنا على بن حرب، ثنا إسحاق بن عبد الواحد، ثنا هُشَىْم، ثنا عبد الرحمن بن إسحاق ، عن مُحِارب بن دِثار، عن جَبَلة، عن حذيفة بن اليمان قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏النظر إلى المرأة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركه خوفًا من الله أثابه الله إيمانًا يجد حلاوته فى قلبه‏)‏‏.‏
وقد رواه أبو محمد الخَلاَّل من حديث عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن على، وفيه ذكر السهم‏.‏ ورواه أبو نعيم‏:‏ ثنا عبد الله بن محمد ـ هو أبو الشيخ ـ ثنا ابن عفير، قال‏:‏ ثنا شعيب بن سلمة، ثنا عصمة بن محمد، عن موسى ـ يعنى ابن عقبة ـ عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من عبد يَكُفُّ بصره عن محاسن امرأة ولو شاء أن ينظر إليها لنظر إلا أدخل الله قلبه عبادة يجد حلاوتها‏)‏، وروى ابن أبى الفوارس من طريق / ابن الجوزى، عن محمد بن المُسَيَّب، ثنا عبد الله، قال‏:‏ حدثنى الحسن، عن مجاهد قال‏:‏ غض البصر عن محارم الله يورث حب الله‏.‏ وقد روى مسلم فى صحيحه من حديث يونس بن عبيد، عن عمرو بن سعيد، عن أبى زُرْعَة بن عمرو بن جرير، عن جده جرير بن عبد الله البجلى قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فأمرنى أن أصرف بصرى‏.‏ ورواه الإمام أحمد، عن هشيم، عن يونس به، ورواه أبو داود والترمذى والنسائى من حديثه ـ أيضًا ـ وقال الترمذى‏:‏ حسن صحيح‏.‏ وفى رواية قال‏:‏ ‏(‏أطرق بصرك‏)‏، أى‏:‏ انظر إلى الأرض، والصرف أعم، فإنه قد يكون إلى الأرض أو إلى جهة أخرى‏.‏
وقال أبو داود‏:‏ حدثنا إسماعيل بن موسى الفزارى، حدثنا شَرِىك، عن ربيعة الإىادى، عن عبد الله بن بَرِيدة، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى‏:‏ ‏(‏يا على، لا تتبع النظـرة النظرة‏.‏ فإن لك الأولى وليست لك الأخرى‏)‏ ورواه الترمذى من حديث شَرِيك، وقال‏:‏ غريب لا نعرفه إلا من حديثه، وفى الصحيح عن أبى سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إياكم والجلوس على الطرقات‏)‏، قالوا‏:‏ يا رسول الله، ما لنا بد من مجالسنا نقعد فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه‏)‏، قالوا‏:‏ وما حق الطريق / يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏غض البصـر، وكف الأذى، ورد السـلام، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر‏)‏، وروى أبو القاسم البغوى عن أبى أمامة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏اكفلوا لى ستًا أكفل لكم الجنة‏:‏ إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا اؤتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يخلف‏.‏ غضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم‏)‏‏.‏
فالنظر داعية إلى فساد القلب‏.‏ قال بعض السلف‏:‏ النظر سهم سم إلى القلب؛ فلهذا أمر الله بحفظ الفروج، كما أمر بغض الأبصار التى هى بواعث إلى ذلك، وفى الطبرانى من طريق عبيد الله بن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة مرفوعًا‏:‏ ‏(‏لتغضن أبصاركم، ولتحفظن فروجكم، ولتقيمن وجوهكم، أو لتكسفن وجوهكم‏)‏، وقال الطبرانى‏:‏ حدثنا أحمد بن زهير التسترى، قال‏:‏ قرأنا على محمد بن حفص بن عمر الضرير المقرى‏:‏ حدثنا يحيى بن أبى كثير، حدثنا هزيم بن سفيان عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن النظر سهم من سهام إبليس مسموم، فمن تركه من مخافة الله أبدله الله إيمانًا يجد حلاوته فى قلبه‏)‏، وفى حديث أبى هريرة الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏زنا العينين النظر‏)‏، وذكر الحديث رواه البخارى تعليقًا ومسلم مسندًا، وقد كانوا ينهون / أن يحد الرجل بصره إلى المردان، وكانوا يتهمون مَنْ فعل ذلك فى دينه‏.‏
وقد ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الأجانب من الرجال بشهوة ولا بغير شهوة أصلا‏.‏
قال شيخ الإسلام‏:‏ وأما النور والعلم والحكمة،فقد دل عليه قوله ـ تعالى ـ فى قصة يوسف‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 22‏]‏، فهى لكل محسن‏.‏ وفى هذه السورة ذكر آية النور بعد غض البصر وحفظ الفرج، وأمره بالتوبة مما لا بد منه أن يـدرك ابـن آدم من ذلك‏.‏ وقـال أبـو عبـد الرحمــن السلمى ‏[‏هو أبو عبد الرحمن بن الحسين بن محمد بن موسى الأزدى السلمى النيسابورى، من علماء المتصوفة‏.‏ إمام حافظ محدث شيخ خراسان، بلغت تصانيفه مائة أو أكثر، منها‏:‏ ‏[‏حقائق التفسير‏]‏ و‏[‏طبقات الصوفية‏]‏ وغيرها، ولد سنة 325هـ، ومات فى شهر شعبان سنة 412 هـ، وكانت جنازته مشهودة‏]‏ سمعت أبا الحسين الوَرَّاق يقول‏:‏ من غض بصره عن محرم أورثه الله بذلك حكمة على لسانه يهتدى بها، ويهدى بها إلى طريق مرضاته؛ وهذا لأن الجزاء من جنس العمل؛ فإذا كان النظر إلى محبوب فتركه لله عوضه الله ما هو أحب إليه منه، وإذا كان النظر بنور العين مكروهًا أو إلى مكروه فتركه لله، أعطاه الله نورًا فى قلبه وبصرًا يبصر به الحق‏.‏ قال شاه الكرمانى‏:‏ من غَضَّ بصره عن المحارم، وعَمَّرَ باطنهِ بِدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعَوَّدَ نفسه أكل الحلال، وكَفَّ نفسه عن الشهوات، لم تخطئ له فراسة‏.‏ وإذا صَلُحَ علم الرجل فعرف الحق وعمله واتبع الحق، صار زكيًا تقيًا مستوجبًا للجنة‏.‏
/ ويؤيد ذلك حديث أبى أمامة المشهور من رواية البغوى‏:‏ حدثنا طالوت بن عَبَّادُ، حدثنا فَضَالـة بن جبير، سمعت أبـا أمامة يقـول‏:‏ سمعت رسـول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏اكفلوا لى بست أكفـل لكم الجنـة‏:‏ إذا حـدث أحـدكم فلا يكذب، وإذا اؤتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يخلف، غضـوا أبصاركم، وكفـوا أيديكم، واحفظوا فروجكم‏)‏‏.‏ فقد كفل بالجنة لمن أتى بهذه الست خصال، فالثلاثـة الأولى تبرئـة مـن النفاق، والثلاثـة الأخـرى تبرئـة من الفسوق، والمخاطبون مسلمون، فإذا لم يكن منافقًا كان مؤمنًا، وإذا لم يكن فاسقًا كان تقيًا فيستحق الجنة‏.‏ ويوافق ذلك ما رواه ابن أبى الدنيا‏:‏ حدثنا أبو سعيد المدنى، حدثنى عمر بن سهل المازنى، قال‏:‏ حدثنى عمر بن محمد بن صُهْبَان، حدثنى صفوان بن سُلَىم، عن أبى هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل عين باكيــة يوم القيامة إلا عينا غضت عن محارم الله، وعينا سهرت فى سبيل الله، وعينا يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله‏)‏‏.‏
وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 131‏]‏، يتناول النظر إلى الأموال واللباس والصور وغير ذلك من متاع الدنيا‏:‏ أما اللباس والصور فهما اللذان لا ينظر الله إليهما، كما فى صحيح مسلم عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ / ‏(‏إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم‏)‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 74‏]‏، وذلك أن الله يمتع بالصور كما يمتع بالأموال، وكلاهما من زهرة الحياة الدنيا، وكلاهما يفتن أهله وأصحابه، وربما أفضى به إلى الهلاك دنيا وأخرى‏.‏
والهلكى رجلان‏:‏ فمستطيع وعاجز، فالعاجز‏:‏ مفتون بالنظر ومد العين إليه، والمستطيع‏:‏ مفتون فيما أوتى منه، غارق قد أحاط به ما لا يستطيع إنقاذ نفسه منه‏.‏ وهذا المنظور قد يعجب المؤمن وإن كان المنظور منافقًا أو فاسقًا كما يعجبه المسموع منهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 4‏]‏، فهذا تحذير من الله ـ تعالى ـ من النظر إليهم واستماع قولهم، فلا ينظر إليهم ولا يسمع قولهم، فإن الله ـ سبحانه ـ قد أخبر أن رؤياهم تعجب الناظرين إليهم، وأن قولهم يعجب السامعين‏.‏
ثم أخبر عن فساد قلوبهم وأعمالهم بقوله‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ‏}‏، فهذا مثل قلوبهم وأعمالهم، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 204‏]‏، وقد قال تعالى فى قصة قوم لوط‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 75‏]‏، والتوسم من السمة، وهى العلامة، فأخبر / ـ سبحانه ـ أنه جعل عقوبات المعتدين آيات للمتوسمين‏.‏ وفى الترمذى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله‏)‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ‏}‏‏.‏ فدل ذلك على أن من اعتبر بما عاقب الله به غيره من أهل الفواحش كان من المتوسمين‏.‏
وأخبر ـ تعالى ـ عن اللوطية أنه طمس أبصارهم، فكانت عقوبة أهل الفواحش طمس الأبصار، كما قد عرف ذلك فيهم وشوهد منهم ، وكان ثواب المعتبرين بهم التاركين لأفعالهم إعطاء الأنوار، وهذا مناسب لذكر آية النور عقيب غض الأبصار‏.‏ وأما القدرة والقوة التى يعطيها الله لمن اتقاه وخالف هواه فذلك حاصل معروف، كما جاء‏:‏ إن الذى يترك هواه يفرق الشيطان من ظله‏.‏ وفى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب‏)‏ وفى رواية‏:‏ أنه مر بقوم يخذفون حجرًا، فقال‏:‏ ‏(‏ليس الشدة فى هذا، وإنما الشدة فى أن يمتلئ أحدكم غيظًا ثم يكظمه لله‏)‏ أو كما قال‏.‏
وهذا ذكره فى الغضب؛ لأنه معتاد لبنى آدم كثيرًا، ويظهر للناس‏.‏ وسلطان الشهوة يكون فى الغالب مستورًا عن أعين الناس، وشيطانها خاف، ويمكن فى كثير من الأوقات الاعتياض بالحلال عن / الحرام، وإلا فالشهوة إذا اشتعلت واستولت قد تكون أقوى من الغضب، وقد قال تعالى ‏:‏ ‏{‏وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 28‏]‏، أى‏:‏ ضعىفا عن النساء لا يصبر عنهن، وفى قوله ‏{‏رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، ذكروا منه العشق، والعشق يفضى بأهله إلى الأمراض والإهلاك، وإن كان الغضب قد يبلغ ذلك ـ أيضًا ـ وقد دل القرآن على أن القوة والعزة لأهل الطاعة التائبين إلى الله فى مواضع كثيرة، كقوله فى سورة هود‏:‏ ‏{‏وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏52‏]‏،وقوله‏:‏‏{‏وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏، ‏{‏وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 139‏]‏‏.‏
وإذا كان الذى قد يهجر السيئات يغض بصره ويحفظ فرجه وغير ذلك مما نهى الله عنه، يجعل الله له من النور والعلم والقوة والعزة ومحبة الله ورسوله، فما ظنك بالذى لم يَحُمْ حول السيئات، ولم يُعِرْها طرفه قط ولم تحدثه نفسه بها‏؟‏‏!‏ بل هو يجاهد فى سبيل الله أهلها ليتركوا السيئات فهل هذا وذاك سواء‏؟‏ بل هذا له من النور والإيمان والعزة والقوة والمحبة والسلطان والنجاة فى الدنيا والآخرة أضعاف أضعاف ذاك، وحاله أعظم وأعلى، ونوره أتم وأقوى، فإن السيئات تهواها النفوس، ويزينها الشيطان، فتجتمع فيها الشبهات والشهوات‏.‏
فإذا كان المؤمن قد حبب الله إليه الإيمان وزينه فى قلبه، وكَرَّه / إليه الكفر والفسوق والعصيان حتى يعوض عن شهوات الغى بحب الله ورسوله وما يتبع ذلك، وعن الشهوات والشبهات بالنور والهدى، وأعطاه الله من القوة والقدرة ما أيده به، حيث دفع بالعلم الجهل، وبإرادة الحسنات إرادة السيئات، وبالقوة على الخير القوة على الشر فى نفسه فقط، والمجاهد فى سبيل الله يطلب فعل ذلك فى نفسه وغيره ـ أيضًا ـ حتى يدفع جهله بالظلم، وإرادته السيئات بإرادة الحسنات ونحو ذلك‏.‏
والجهاد تمام الإيمان وسنام العمل، كما قال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 15‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏110‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 19‏]‏، فكذلك يكون هذا الجزاء فى حق المجاهدين، كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 69‏]‏، فهذا فى العلم والنور، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا‏}‏ ‏[‏ النساء ‏:‏ 66 ـ 68‏]‏، فقتل النفوس هو قتل بعضهم بعضًا، وهو من الجهاد، والخروج من ديارهم هو الهجرة، ثم أخبر أنهم إذا فعلوا ما يوعظون به من الهجرة والجهاد كان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا،ففى الآية أربعة أمور‏:‏الخير المطلق، والتثبيت المتضمن للقوة والمكنة، والأجر العظيم، وهداية الصراط المستقيم‏.‏ وقال تعالى‏:‏‏{‏إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 7‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏عَاقِبَةُ الْأُمُورِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏40، 41‏]‏ وقال‏:‏‏{‏يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏‏.‏
وأما أهل الفواحش الذين لا يغضون أبصارهم ولا يحفظون فروجهم، فقد وصفهم الله بضد ذلك‏:‏ من السكرة، والعمه، والجهالة، وعدم العقل، وعدم الرشد، والبغض، وطمس الأبصار، هذا مع ما وصفهم به من الخبث، والفسوق، والعدوان، والإسراف، والسوء ، والفحش ، والفساد، والإجرام ، فقال عن قوم لوط ‏:‏ ‏{‏بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 55‏]‏، فوصفهم بالجهل، وقال {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 72‏]‏، وقال‏:‏‏{‏أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 78‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 37‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 81‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 69‏]‏، وقال‏:‏‏{‏إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 74‏]‏، وقال‏:‏‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَر‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 29 ـ 34‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 34‏]‏‏.