فصــل في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}
 
وقال ـ أيضًا‏:‏
فصــل
قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2، 3‏]‏ قد روي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لو أخذ الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مَخْرَجًا‏}‏ عن بعض السلف‏:‏ أي من كل ما ضاق علي الناس، وهذه الآية مطابقة لقوله‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ الجامعة لعلم الكتب الإلهية كلها؛ وذلك أن التقوي هي العبادة المأمور بها، فإن تقوي الله وعبادته وطاعته أسماء متقاربة متكافئة متلازمة، والتوكل عليه هو الاستعانة به،فمن يتقي الله مثال‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏، ومن يتوكل علي الله مثال‏:‏ ‏{‏وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏، كما قال‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏123‏]‏، وقال‏:‏‏{‏عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 10‏]‏‏.‏
ثم جعل للتقوي فائدتين‏:‏ أن يجعل له مخرجا، وأن يرزقه من / حيث لا يحتسب‏.‏ والمخرج هو موضع الخروج، وهو الخروج، وإنما يطلب الخروج من الضيق والشدة، وهذا هو الفرج والنصر والرزق، فَبَين أن فيها النصر والرزق، كما قال‏:‏ ‏{‏أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ‏}‏ ‏[‏قريش‏:‏ 4‏]‏؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم‏؟‏ بدعائهم، وصلاتهم، واستغفارهم‏)‏ هذا لجلب المنفعة، وهذا لدفع المضرة‏.‏
وأما التوكل فَبَين أن الله حسبه، أي‏:‏ كافيه، وفي هذا بيان التوكل علي الله من حيث أن الله يكفي المتوكل عليه، كما قال‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 36‏]‏ خلافا لمن قال‏:‏ ليس في التوكل إلا التفويض والرضا‏.‏ ثم إن الله بالغ أمره، ليس هو كالعاجز، ‏{‏قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 3‏]‏ وقد فسروا الآية بالمخرج من ضيق الشبهات بالشاهد الصحيح، والعلم الصريح، والذوق، كما قالوا‏:‏ يعلمه من غير تعليم بَشَرٍ، ويفطنه من غير تجربة، ذكره أبو طالب المكي، كما قالوا في قوله‏:‏‏{‏إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏29‏]‏ أنه نور يفرق به بين الحق والباطل، كما قالوا‏:‏ بصرًا، والآية تعم المخرج من الضيق الظاهر والضيق الباطن، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏، وتعم ذوق الأجساد وذوق القلوب، من العلم والإيمان، كما قيل مثل ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{‏أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 99‏]‏، وهو القرآن والإيمان‏.‏