فصــل في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى‏}‏
 
فصــل
قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2‏]‏، فأطلق الخلق والتسوية ولم يخص بذلك الإنسان، كما أطلق قوله بعد ‏{‏وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 3‏]‏ لم يقيده‏.‏ فكان هذا المطلق لا يمنع شموله لشيء من المخلوقات‏.‏ وقد بين موسى ـ عليه السلام ـ شموله في قوله‏:‏ ‏{‏رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 50‏]‏‏.‏
وقد ذكر المقيد بالإنسان في قوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 6، 7‏]‏‏.‏
وقد ذكر المطلق والمقيد في أول ما نزل من القرآن، وهو قوله‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1 - 5‏]‏‏.‏
وفي جميـع هـذه الآيات ـ مطلقها ومقيدها والجامع بين المطلق والمقيد ـ قـد ذكر خلقه، وذكر هدايته وتعليمه بعد الخلق، كما قال في هذه السورة‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2، 3‏]‏ ‏.‏ / لأن جميع المخلوقات خلقت لغاية مقصودة بها، فلابد أن تهدى إلى تلك الغاية التي خلقت لها‏.‏ فلا تتم مصلحتها وما أريدت له إلا بهدايتها لغاياتها‏.‏
وهذا مما يبين أن الله خلق الأشياء لحكمة وغاية تصل إليها، كما قال ذلك السلف وجمهور المسلمين وجمهور العقلاء‏.‏
وقالت طائفة ـ كجهم وأتباعه‏:‏ إنه لم يخلق شيئًا لشيء، ووافقه أبو الحسن الأشعرى ومن اتبعه من الفقهاء ـ أتباع الأئمة‏.‏ وهم يثبتون أنه مريد، وينكرون أن تكون له حكمة يريدها‏.‏
وطائفة من المتفلسفة يثبتون عنايته وحكمته، وينكــرون إرادتــه‏.‏ وكلاهمــا تناقض‏.‏ وقد بُسِطَ الكلام على فســاد قول هؤلاء في غير هذا الموضــع، وأن منتهاهم جحد الحقائق‏.‏
فإن هذا يقول‏:‏ لو كان له حكمة يفعل لأجلها لكان يجب أن يريد الحكمة وينتفع بها، وهو منزه عن ذلك‏.‏ وذاك يقول‏:‏ لو كان له إرادة لكان يفعل لجر منفعة؛ فإن الإرادة لا تعقل إلا كذلك‏.‏ وأرسطو وأتباعه يقولون‏:‏ لو فعل شيئًا لكان الفعل لغرض، وهو منزه عن ذلك‏.‏
/ فيقال لهؤلاء‏:‏ هذه الحوادث المشهودة، ألهـا محــدث أم لا‏؟‏ فــإن قالــوا‏:‏ لا، فهو غاية المكابرة‏.‏ وإذا جوزوا حدوث الحوادث بلا محدث فتجويزهـا بمحـدث لا إرادة له أولى‏.‏
وإن قالوا‏:‏ لها محدث، ثبت الفاعل‏.‏ وإذا ثبت الخالق المحدث فإما أن يفعل بإرادة أو بغير إرادة‏.‏ فإن قالوا‏:‏ يفعل بغير إرادة كان ذلك أيضًا مكابرة‏.‏ فإن كل حركة في العالم إنما صدرت عن إرادة‏.‏
فإن الحركات إما طبعية، وإما قَسْريَّة،وإما إرادية؛ لأن مبدأ الحركة إما أن يكون من المتحرك، أو من سبب خارج‏.‏ وما كان منها فإما أن يكون مع الشعور، أو بدون الشعور‏.‏ فما كان سببه من خارج فهو القسرى، وما كان سببه منها بلا شعور فهو الطبعي، وما كان مع الشعور فهو الإرادى‏.‏ فالقسري تابع للقاسر، والذي يتحرك بطبعه، كالماء والهواء والأرض، هو ساكن في مركزه، لكن إذا خرج عن مركزه قسرًا طلب العودة إلى مركزه، فأصل حركته القسر‏.‏ولم تبق حركة أصلية إلا الإرادية‏.‏ فكل حركة في العالم فهي عن إرادة‏.‏
فكيف تكون جميع الحوادث والحركات بلا إرادة‏؟‏
وأيضًا، فإذا جوزوا أن تحدث الحوادث العظيمة عن فاعل غير مريد فجواز ذلك عن فاعل مريد أولى‏.‏
/ وإذا ثبت أنه مريد قيل‏:‏ إما أن يكون أرادها لحكمة،وإما أن يكون أرادها لغير حكمة‏.‏ فإن قالوا لغير حكمة، كان مكابرة‏.‏ فإن الإرادة لا تعقل إلا إذا كان المريد قد فعل لحكمة يقصدها بالفعل‏.‏
وأيضًا، فإذا جوزوا أن يكون فاعلًا مريدًا بلا حكمة فَكَوْنُه فاعلًا مريدًا لحكمة أولى بالجواز‏.‏
وأما قولهم‏:‏ هذا لا يعقل إلا في حق من ينتفع، وذلك يوجب الحاجة، والله منزه عن ذلك‏.‏ فـإن أرادوا أنه يوجب احتياجه إلى غيره أو شيء من مخلوقاته فهو ممنوع وباطل، فإن كل مـا سواه محتاج إليه من كل وجه‏.‏وهو الصمد الغنى عن كل ما سواه وكل ما سواه محتاج إليه،وهو القيوم القائم بنفسه المقيم لكل ما سواه‏.‏ فكيف يكون محتاجًا إلى غيره‏؟‏
وإن أرادوا أنه تحصل له بالخلق حكمة هي أيضًا حاصلة بمشيئته فهذا لا محذور فيه، بل هو الحق‏.‏
وإذا قالوا‏:‏ الحكمة هي اللذة، قيل‏:‏ لفظ ‏[‏اللذة‏]‏ لم يرد به الشرع، وهو موهم ومجمل‏.‏ لكن جاء الشرع بأنه ‏[‏يحب‏]‏ ، و ‏[‏يرضى‏]‏ /، و‏[‏يفرح بتوبة التائبين‏]‏، ونحو ذلك‏.‏ فإذا أريد ما دل عليه الشرع والعقل فهو حق‏.‏
وإن قالوا‏:‏ الحكمة إما أن تراد لنفسها أو لحكمة، قيل‏:‏ المرادات نوعان ما يراد لنفسه، وما يراد لغيره‏.‏ وقد يكون الشيء غاية وحكمة بالنسبة إلى مخلوق وهو مخلوق لحكمة أخرى‏.‏ فلابد أن ينتهي الأمر إلى حكمة يريدها الفاعل لذاتها‏.‏
والمعتزلة ـ ومن وافقهم، كابن عقيل وغيره ـ تثبت حكمة لا تعود إلى ذاته‏.‏ وأما السلف؛ فإنهم يثبتون حكمة تعود إلىه، كما قد بين في غير هذا الموضع‏.‏
والمقصود هنا ذكر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏2، 3‏]‏ والتسوية‏:‏ جعل الشيئين سواء، كما قال‏:‏ ‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 19‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏، و ‏{‏سَوَاء‏}‏ وسط؛ لأنه معتدل بين الجوانب‏.‏
وذلك أنه لابد في الخلق والأمر من العدل‏.‏ فلابد من التسوية بين المتماثلين، فإذا فضل أحدهما فسد المصنوع، كما في مصنوعات العباد إذا بنوا بنيانًا فلابد من التسوية بين الحيطان، إذ لو رفع حائط على / حائط رفعًا كثيرًا فسد‏.‏ ولابد من التسوية بين جذوع السقف، فلو كان بعض الجذوع قصيرًا عن الغاية وبعضها فوق الغاية فسد‏.‏ وكذلك إذا بنى صف فوق صف لابد من التسوية بين الصفوف، وكذلك الدرج المبنية‏.‏ وكذلك إذا صنع لسقي الماء جداول ومساكب فلابد من العدل والتسوية فيها‏.‏ وكذلك إذا صنعت ملابس للآدميين فلابد من أن تكون مقدرة على أبدانهم لا تزيد ولا تنقص‏.‏ وكذلك ما يصنع من الطعام لابد أن تكون أخلاطـه على وجه الاعتدال، والنار التي تطبخه كذلك‏.‏ وكذلك السفن المصنوعة‏.‏
ولهذا قال الله لداود‏:‏ ‏{‏وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 11‏]‏، أي‏:‏ لا تدق المسمار فيقلق، ولا تغلظه فيفصم، واجعله بقدر‏.‏
فإذا كان هذا في مصنوعات العباد ـ وهي جزء من مصنوعات الرب ـ فكيف بمخلوقاته العظيمة التي لا صنع فيها للعباد، كخلق الإنسان وسائر البهائم، وخلق النبات، وخلق السموات والأرض والملائكة‏.‏
فالفلك الذي خَلَقه وجعله مستديرًا ما له من فروج، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسًِا وَهُوَ حَسِيرٌ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 3، 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 7‏]‏، وقال‏:‏ / ‏{‏أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 6‏]‏‏.‏
فهو ـ سبحانه ـ سواها كما سوى الشمس والقمر وغير ذلك من المخلوقات، فعدل بين أجزائها‏.‏ ولو كان أحد جانبى السماء داخلًا أو خارجًا لكان فيها فروج، وهي الفتوق والشقوق، ولم يكن سواها، كمن بنى قبة ولم يسوها‏.‏ وكذلك لو جعل أحد جانبيها أطول أو أنقص، ونحو ذلك‏.‏
فالعدل والتسوية لازم لجميع المخلوقات والمصنوعات‏.‏ فمتى لم تصنع بالعدل والتسوية بين المتماثلين وقع فيها الفساد‏.‏
وهو ـ سبحانه ـ ‏{‏الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2‏]‏‏.‏ قال أبو العالية ـ في قوله‏:‏ ‏{‏خَلَقَ فَسَوَّى‏}‏ ـ قال‏:‏ سوى خلقهن وهذا كما قـال تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏‏.‏