فصـــل في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى‏}‏
 
فصـــل
وقوله‏:‏ ‏{‏سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 10‏]‏، يقتضى أن كل من يخشى يتذكر‏.‏ والخشية قد تحصل عقب الذكر، وقد تحصل قبل الذكر، وقوله‏:‏ ‏{‏مَن يَخْشَى‏}‏ مطلق‏.‏
ومن الناس من يظن أن ذلك يقتضى أنه لابد أن يكون قد خشى أولًا حتى يذكر، وليس كذلك‏.‏ بل هذا كقوله‏:‏ ‏{‏هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 45‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 45‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 11‏]‏‏.‏
وهو إنما خاف الوعيد بعد أن سمعه، لم يكن وعيد قبل سماع القرآن ، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ‏}‏ ، وهو إنما اتبع الذكر وخشى الرحمن بعد أن أنذره الرسول‏.‏
وقد لا يكونون خافوها قبل الإنذار، ولا كانوا متقين قبل سماع / القرآن، بل به صاروا متقين‏.‏
وهذا كما يقول القائل‏:‏ ما يسمع هذا إلا سعيد، وإلا مفلح، وإلا من رضى الله عنه‏.‏ وما يدخل في الإسلام إلا من هداه الله، ونحو ذلك‏.‏ وإن كانت هذه الحسنات والنعم تحصل بعد الإسلام وسماع القرآن‏.‏
ومثل هذا قوله‏:‏ ‏{‏هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 20‏]‏‏.‏
وقد قال في نظيره‏:‏ ‏{‏وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 11‏]‏، وإنما يشقى بتجنبها‏.‏
وهذا كما يقال‏:‏ إنما يحذر من يقبل، وإنما ينتفع بالعلم من عمل به‏.‏
فمن استمع القرآن فآمن به وعمل به صار من المتقين الذين هو هدى لهم‏.‏ ومن لم يؤمن به ولم يعمل به لم يكن من المتقين، ولم يكن ممن اهتدى به‏.‏
بل هو كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 44‏]‏، ولم يرد أنهم كانوا مؤمنين، فلما سمعوه صار هدى وشفاء، بل إذا سمعه الكافر فآمن به صار في حقه هدى وشفاء، وكان من المؤمنين به بعد سماعه‏.‏
/ وهذا كقوله في النوع المذموم‏:‏‏{‏يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26، 27‏]‏، ولا يجب أن يكونوا فاسقين قبل ضلالهم، بل من سمعه فكذب به صار فاسقًا وضل‏.‏
وسعد بن أبى وقاص ـ وغيره ـ أدْخلوا في هذه الآية أهل الأهواء كالخوارج‏.‏ وكان سعد يقول‏:‏ هم من ‏{‏الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ‏}‏ ولم يكن على، وسعد، وغيرهما من الصحابة يكفرونهم‏.‏
وسعد أدخلهم في هذه الآية لقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ‏}‏‏.‏
وهم ضلوا به بسبب تحريفهم الكلم عن مواضعه وتأويله على غير ما أراد الله‏.‏ فتمسكوا بمتشابهه، وأعرضوا عن محكمه، وعن السنة الثابتة التي تبين مراد الله بكتابه‏.‏ فخالفوا السنة وإجماع الصحابة مع ما خالفوه من محكم كتاب الله تعالى‏.‏
ولهذا أدخلهم كثير من السلف في الذين ‏{‏فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 159‏]‏، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
والمقصود الآية‏.‏ وقد دلت على أن كل من يخشى فلابد أن / يتذكر‏.‏ فقد يتذكر فتحصل له بالتذكر خشية، وقد يخشى فتدعوه الخشية إلى التذكر‏.‏
وهذا المعنى ذكره قتادة؛ فقال‏:‏ والله‏!‏ ما خشى الله عبدٌ قط إلا ذكره‏.‏
‏{‏وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏}‏، قال قتادة‏:‏ فلا والله‏!‏ لا يتنكب عبد هذا الذكر زهدًا فيه وبغضًا له ولأهله إلا شقيا بَين الشقاء‏.‏
والخشية في القرآن مطلقة تتناول خشية الله وخشية عذابه في الدنيا والآخرة‏.‏
قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 42 - 45‏]‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 45‏]‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 17، 18‏]‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏{‏قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 26، 27‏]‏‏.