فَصــل في قوله تعالى ـ في قصة فرعون ـ‏:‏ ‏{‏لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى‏}‏
 
فَصــل
وأما قوله ـ في قصة فرعون ـ‏:‏ ‏{‏لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 44‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 3، 4‏]‏، فلا يناقض هذه الآية؛ لأنه لم يقل في هذه الآية ‏[‏سيخشى من يذكر‏]‏، بل ذَكَرَ أن كل من خشى فإنه يتذكر؛ إما أن يتذكر فيخشى ـ وإن كان غيره يتذكر فلا يخشى، وإما أن تدعوه الخشية إلى التذكر‏.‏ فالخشية مستلزمة للتذكر‏.‏ فكل خاش متذكر‏.‏
كما قال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏28‏]‏، فلا يخشاه إلا / عالم‏.‏ فكل خاش للّه فهو عالم‏.‏ هذا منطوق الآية‏.‏
وقال السلف وأكثر العلماء‏:‏ إنها تدل على أن كل عالم فإنه يخشى اللّه، كما دل غيرها على أن كل من عصى اللّه فهو جاهل‏.‏
كما قال أبو العالية‏:‏ سألت أصحاب محمد عن قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 17‏]‏، فقالوا لي‏:‏ ‏[‏كل من عصى اللّه فهو جاهل‏]‏‏.‏ وكذلك قال مجاهد، والحسن البَصْري، وغيرهم من العلماء التابعين ومن بعدهم‏.‏
وذلك أن الحصر في معنى الاستثناء، والاستثناء من النفي إثبات عند جمهور العلماء‏.‏ فنفي الخشية عمن ليس من العلماء؛ وهم العلماء به الذين يؤمنون بما جاءت به الرسل، يخافونه‏.‏
قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏‏.‏ وأثبتها للعلماء‏.‏ فكل عالم يخشاه‏.‏ فمن لم يخش اللّه فليس من العلماء، بل من الجهال، كما قال عبد اللّه بن مسعود‏:‏ ‏[‏كفي بخشية اللّه علمًا، وكفي / بالاغترار باللّه جهلًا‏]‏‏.‏ وقال رجل للشَّعبي‏:‏ ‏[‏أيها العالم‏!‏‏]‏ فقال‏:‏ ‏[‏إنما العالم من يخشى اللّه‏!‏‏]‏‏.‏
فكذلك قوله‏:‏ ‏{‏سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 10‏]‏، يقتضى أن كل من يخشاه فلابد أن يكون ممن تذكر‏.‏ وقد ذكر أن الأشقى يتجنب الذكرى، فصار الذي يخشى ضد الأشقى‏.‏ فلذلك يقال‏:‏ ‏(‏كل من تذكر خشى‏)‏‏.‏
والتحقيق أن التذكر سبب الخشية، فإن كان تامًا أوجب الخشية؛ كما أن العلم سبب الخشية، فإن كان تامًا أوجب الخشية‏.‏
وعلى هذا، فقوله في قصة فرعون‏:‏ ‏{‏لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 44‏]‏، جعل ذلك نوعين لما في ذلك من الفوائد‏:‏
أحدها‏:‏ أنه إذا تذكر أنه مخلوق وأن اللّه خالقه، وليس هو إلهًا وربّا كما ذكر، وذكر إحسان اللّه إليه‏.‏ فهذا التذكر يدعوه إلى اعترافه بربوبية اللّه وتوحيده وإنعامه عليه‏.‏ فيقتضى الإيمان والشكر، وإن قدر أن اللّه لا يعذبه‏.‏
فإن مجرد كون الشيء حقًا ونافعًا يقتضى طلبه وإن لم يخف ضررًا / بعدمه‏.‏ كما يسارع المؤمنون إلى فعل التطوعات والنوافل لما فيها من النفع ـ وإن كان لا عقوبة في تركها ـ كما يحب الإنسان علوما نافعة ـ وإن لم يتضرر بتركها ـ وكما قد يحب محاسن الأخلاق ومعالى الأمور لما فيها من المنفعة واللذة في الدنيا والآخرة ـ وإن لم يخف ضررًا بتركها‏.‏
فهو إذا تذكر آلاء اللّه وتذكر إحسانه إليه فهذا قد يوجب اعترافه بحق اللّه وتوحيده وإحسانه إليه، ويقتضى شكره للّه وتسليم قوم موسى إليه ـ وإن لم يخف عذابًا ـ فهذا قد حصل بمجرد التذكر‏.‏
قال‏:‏ ‏{‏أَوْ يَخْشَى‏}‏‏.‏ ونفس الخشية إذا ذكر له موسى ما توعده اللّه به من عذاب الدنيا والآخرة، فإن هذا الخوف قد يحمله على الطاعة والانقياد ولو لم يتذكر‏.‏
وقد يحصل تذكر بلا خشية، وقد يحصل خشية بلا تذكر، وقد يحصلان جميعا ـ وهو الأغلب ـ قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى‏}‏‏.‏
وأيضًا، فَذِكْر الإنسان يحصل بما عرفه من العلوم قبل هذا، فيحصل بمجرد عقله، وخشيته تكون بما سمعه من الوعيد‏.‏ فبالأول يكون ممن له قلب يعقل به، والثاني يكون ممن له أذن يسمع بها‏.‏
/ وقد تحصل الذكرى الموجبة للخير بهذا وبهذا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 36، 37‏]‏‏.‏
الفائدة الثانية‏:‏ أن التذكر سبب الخشية، والخشية حاصلة عن التذكر‏.‏ فَذَكَرَ التذكر الذي هو السبب، وذَكَرَ الخشية التي هى النتيجة ـ وإن كان أحدهما مستلزما للآخر ـ كما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 37‏]‏، وكما قال أهل النار‏:‏ ‏{‏لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 10‏]‏، وقـــال‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏ فكل من النوعين يحصل به النجاة لأنه مستلزم للآخر‏.‏
فالذي يسمع ما جاءت به الرسل ـ سمعًا يعقل به ما قالوه ـ ينجو‏.‏ وإلا فالسمع بلا عقل لا ينفعه، كما قال‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 16‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 42‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 2‏]‏‏.‏
/ وكذلك العقل بلا سمع لما جاءت به الرسل لا ينفع‏.‏ وقد اعترف أهل النار بمجيء الرسل فقالوا‏:‏ ‏{‏قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 9‏]‏‏.‏
وكذلك المْعَتبِرين بآثار المعَذَّبين الذين قــال فيهم‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏الحــج‏:‏ 46‏]‏‏.‏ إنمــا ينتفعـــون إذا سمعوا أخبار المعذبين المكذبين للرســل والناجــين الذيــن صدقوهــم، فســمعوا قول الرسل وصدقوهم‏.‏
الفائدة الثالثة‏:‏ أن الخشية ـ أيضًا ـ سبب للتذكر كما تقدم‏.‏ فكل منهما قد يكون سببًا للآخر‏.‏ فقد يخاف الإنسان فيتذكر، وقد يتذكر الأمور المخوفة فيطلب النجاة منها، ويتذكر ما يرجو به النجاة منها فيفعله‏.‏
فإن قيل‏:‏ مجرد ظن المخوف قد يوجب الخوف، فكيف قال‏:‏‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏ ‏؟‏
قيل‏:‏ النفس لها هوى غالب قاهر لا يصرفه مجرد الظن، وإنما يصرفه العلم بأن العذاب واقع لا محالة‏.‏ وأما من كان يظن أن العذاب يقع ولا يوقن بذلك فلا يترك هواه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 40‏]‏‏.‏
/ وقال تعالى في ذم الكفار‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 32‏]‏، ووصف المتقين بأنهم بالآخرة يوقنون‏.‏
ولهذا أقسم الرب على وقوع العذاب والساعة، وأمر نبيه أن يقسم على وقوع الساعة وعلى أن القرآن حق، فقال‏:‏ ‏{‏زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 7‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 3‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 53‏]‏‏.‏